البحوث

الصهيونية المسيحية ودعمها اللامحدود للصهيونية اليهودية

أ.د. فَرسَت مَرعي

المقدمة

   برزت الجذور الاجتماعية السياسية للصهيونية غير اليهودية أولاًفي المحيط الديني الذي كان سائداً في الدول الأنكلو ساكسونيةالبروتستانتية، ومع الأيام تطورت هذه الأفكار وأصبحت جزءاًراسخاً من الثقافة الغربية، مع أن الصهيونية لم تهجر ميدان الدينوالرمزية إلى العمل في السياسة إلا في القرن التاسع عشر، وكانهناك توافق بين الصهيونية كعقيدة قومية والسياسة الاستعماريةالسائدة .

والأساطير الصهيونية التي بدأ غرسها في المرحلة السابقة للمؤتمرالصهيوني الأول بثلاثة قرون في البيئة غير اليهودية، كانت متوافقةمع تلك التي أصبحت تشكل في النهاية المنطلق الروحي الباطنيللصهيونية اليهودية السياسية، وهي أساطير الشعب المختار والميثاق وعودة المسيح المنتظر، وقد جعلت أسطورة الشعب المختاراليهود أمة مفضلة على الآخرين، بينما كانت أسطورة الميثاق تركزعلى الارتباط السرمدي الدائم بين الشعب المختار والأرض المقدسةكما وعد الله، وبذلك منحت فلسطين لليهود كأرض كتبت لهم. أماأسطورة عودة المسيح فقد كفلت للشعب المختار أن يضع حداًلتشرده في الوقت المناسب ليعود إلى فلسطين لإقامة وطنه القوميهناك إلى الأبد.

  لقد بدأت الصهيونية المسيحية تتخذ شكلاً متميزاً في أوائل القرنالسادس عشر حين تضافرت حركة النهضة الأوروبية وحركةالإصلاح الديني على إرساء التاريخ الأوروبي الحديث. وقد أثارالاهتمام بالأدب التوراتي وتفسيره اهتماماً عاماً باليهود وعودتهمإلى فلسطين. وعلى ذلك، لم يعد تحرير اليهودإعطاء حقوقالمواطنينهو لب المسألة اليهودية في القرن السادس عشر، بلالدور الذي كتب على اليهود أن يقوموا به بشأن القضايا الجديدةلتحقيق نبوءات التوراة واليوم الآخر وعودة المسيح. وعلى هذا، فإنحركة الإصلاح الديني البروتستانتية، بإتاحتها الفرصة للنهضةاليهودية القومية وعودة اليهود الجماعية إلى فلسطين هي التيابتدأت سجلاً جديداً للصهيونية غير اليهودية كعنصر مهم فياللاهوت البروتستانتي والإيمان بالأخرويات كالموت والخلود ونهايةالعالم واليوم الآخر، وتقف هذه الأطروحات البروتستانتية اللاهوتيةعلى طرفي نقيض مع الأطروحات الكاثوليكية من الناحية اللاهوتيةومن المواقف الفاتيكانية المتبدلة تجاه الصهيونية وإسرائيل .

أولاً: البعد الديني للدعم الأمريكي والأُوروبي لإسرائيل

  بدأ نفوذ الصھیونیة یتغلغل في المسیحیة عن طریق انشقاق استاذ اللاهوت الراهب والقس الالماني مارتن لوثر ( 1483-1546م)ومُطلق عصر الإصلاح في أوروبا من بعد اعتراضه على صكوكالغفران التي تصدرها الكنيسة الكاثوليكية. نشر في عام 1517مرسالته الشهيرة المؤلفة من خمسِ وتسعين قضيةً يتعلق أغلبهابلاهوت التحرير وسلطة البابا في الحل من (العقاب الزمنيللخطيئة)، وقد أدى به رفضه التراجع عن نقاطه الخمس والتسعينتلك بناءً لطلب البابا ليو– ليون العاشر( 1513 1521م) عام1520م والإمبراطور شارل الخامس إلى النفي والحرمان الكنسيوإدانته مع كتاباته بوصفها مهرطقةٍ كنسيًا وخارجةٍ عن القوانينالمرعيّة في الإمبراطوريّة.

وكان البابا (ليو العاشر) فردا ًمن (آل دى ميديتشى) ذوى النفوذوالسلطة آنذاك، وكان له ميل شديد نحو حياة البذخ والترف، كما كانمفتونا بكل ما هو باهض الثمن ومكلف، وذهب به الأمر إلى درجة أنهكان يمول الأعمال الفنية السائدة آنذاك من مال الكنيسة الخاص،غير أن نفقاته تلك تسببت بعجز مالى كبير فى خزينة الفاتيكان، ومنأجل إعادة الأمور إلى نصابها، اعتمد البابا (ليو) بشكل كبير علىإصدار وبيعصكوك الغفران، وهى صكوك كانت الكنيسة تبيعهامقابل طلب المغفرة للمخطئين فى حقها وحق تعاليم المسيحية، كماكان الناس يشترونها كذلك من أجلتنجيةأحد الأقارب المتوفينمن عقاب الرب، أو إخراجهم منمنطقة البرزخالتى يزعمون أنهامنطقة تيْه تتوسط الحياة والموت. وتسبب هذا فى إثارة موجة غضبعارمة هاجم فيها الكثيرون البابا (ليو العاشر)، وكان من بينالمناهضين لفكرة صكوك الغفران هذه هو (مارتن لوثر)، الذى أدتمؤلفاته بعنوان (95 رسالة) إلى إطلاق شرارة ما عرف لاحقا بإعادةالهيكلة البروتستانتية، وتسببت فى انقسام الكنيسة الكاثوليكية.

عندها أرسل مارتن لوثر رسالة إلى البابا ليو العاشر في روما سنة 1520م اتهمه فيها باستعمال الكنيسة الكاثوليكية لتحقيق مصالح شخصية له وللحاشية التي تحيط به، مؤكدا أنه لن يتخلى عن نضاله لتقويض تلك الكنيسة مادام حياً؛ فجاء رد فعل الكنيسة الكاثوليكية قاسيا حيث اعتبرت لوثر من الخارجين عن الكنيسة وطردته من الديانة المسيحية واتهمته بالهرطقة، وهي تهمة كانت عقوبتها آنذاك الحرق على الملأ. ولجأ لوثر بعد ذلك إلى العمل السري وعمل على استمالة بعض اليهود الذين كان لهم نفوذ كبير في المجتمع الالمانيعن طريق التأكيد على أن مذهبه الجديد يعيد الاعتبار لليهود الذين كانوا يعانون من غصب المسيحيين وازدراء الكنيسة الكاثوليكية.
ثم أصدر لوثر كتابه (عيسى ولد يهوديا) سنة 1523م وقال فيه إن اليهود هم أبناء الله وإن المسيحيين هم الغرباء الذين عليهم أن يرضوا بأن يكونوا كالكلاب التي تأكل ما يسقط من فتات من مائدة الأسياد. ويرى الكثير من الكتاب والمؤرخين أن هذه الفترة تعد الولادة الحقيقية والفعلية للصهيونية المسيحية التي سبقت الصهيونية اليهودية. وكان أخطر ما حملته مطالب لوثر دعوته للعودة إلى كتابالتوراة العبرانية القديمة وإعادة قراءته بطريقة جديدة بالإضافة إلىاعتماد الطقوس العبرية في الصلاة عوضا عن الطقوس الكاثوليكيةالمعقدة.

وتتطرق الكثير من المصادر التاريخية إلى أن رغبة مارتن لوثرالجامحة في إعادة الاعتبار لليهود وتمسيحهمكانت تعود لإيمانهالعميق بضرورة وجودهم في هذا العالم تمهيدا لعودة المسيح، واعتبرت دعواته تلك انقلابا على موقف الكنيسة الكاثوليكية التيكانت تنظر لليهود على أنهم حملة لدم المسيح عيسى بعدما صلبوه.حيث دأبت الكنيسة الكاثوليكية على تحميل اليهود المسؤولية الكاملةعن مقتل المسيح. وكان بعض المسيحيين في أوروبا يحتفلون بمقتلالمسيح عن طريق إحياء طقوس عملية الصلب، بل وكان سكان مدينةتولوز الفرنسية يحرصون على إحضار يهودي إلى الكنيسة أثناءالاحتفال ليتم صفعه من قبل أحد النبلاء بشكل علني إحياء لطقسالضرب الذي تعرض له المسيح من قبل اليهود.

كما أن هناك نصا في إنجيل متى يحمل اليهود مسؤولية مباشرة عنمقتل المسيح:{ 32 وَفِيمَا هُمْ خَارِجُونَ وَجَدُوا إِنْسَانًا قَيْرَوَانِيًّا اسْمُهُسِمْعَانُ، فَسَخَّرُوهُ لِيَحْمِلَ صَلِيبَهُ. 33 وَلَمَّا أَتَوْا إِلَى مَوْضِعٍ يُقَالُ لَهُجُلْجُثَةُ، وَهُوَ الْمُسَمَّى «مَوْضِعَ الْجُمْجُمَةِ» 34 أَعْطَوْهُ خَلًا مَمْزُوجًابِمَرَارَةٍ لِيَشْرَبَ. وَلَمَّا ذَاقَ لَمْ يُرِدْ أَنْ يَشْرَبَ. 35 وَلَمَّا صَلَبُوهُ اقْتَسَمُواثِيَابَهُ مُقْتَرِعِينَ عَلَيْهَا، لِكَيْ يَتِمَّ مَا قِيلَ بِالنَّبِيِّ: «اقْتَسَمُوا ثِيَابِي بَيْنَهُمْ،وَعَلَى لِبَاسِي أَلْقَوْا قُرْعَةً». 36 ثُمَّ جَلَسُوا يَحْرُسُونَهُ هُنَاكَ. 37 وَجَعَلُوافَوْقَ رَأْسِهِ عِلَّتَهُ مَكْتُوبَةً: «هذَا هُوَ يَسُوعُ مَلِكُ الْيَهُودِ». 38 حِينَئِذٍصُلِبَ مَعَهُ لِصَّانِ، وَاحِدٌ عَنِ الْيَمِينِ وَوَاحِدٌ عَنِ الْيَسَارِ}. (متى 27: العدد 32 38)، ويذكر بالتفصيل كيف غسل بيلاطس الحاكمالروماني للقدس آنذاك يديه بالماء معلنا براءته من دم المسيح الذيكان اليهود على وشك صلبه قبل أن يصيح فيه اليهود قائلين {ليكندمه علينا وعلى أولادنا}.

وهذه العبارة الأخيرة تطبع الاعتقاد المسيحي الكاثوليكي بشكلمرير ظهر جليا في الشعبية الكبيرة التي نالها فيلمآلام المسيحللمخرج المسيحي ميل غبسون الذي حصد مئات الملايين منالدولارات عدا حالات الإغماء الكثيرة التي شهدتها قاعات السينماالتي عرضت الفيلم في الولايات المتحدة .

لكن بعد ذلك تغير رأي وفكرة لوثر عن اليهود عندما إطلع على أحوالهم وممارساتهم عن كثب؛ لذلك نشر كتابين تحت عناوين (اليهود وأكاذيبهم) و(الاسم المقدس ونسب المسيح) جمعه من عدد كبير من المقالات وكلاهما نشرا في عام 1543م أي قبل ثلاث سنواتمن وفاته، قال  فيها لوثر:” بأن اليهود لم يعودوا شعب الله المختاروإنما (أناس الشيطان)، ودعا لإحراق الكُنُس اليهودية وتدميرمنازلهم ومنع الحاخامات من الوعظ والاستيلاء على أملاكهم،ووصفهم بأنهم (الديدان السامة) التي يجب أن (تعمل أو تطرد إلىالأبد)، وبين أنه (من الخطأ عدم قتلهم)”.

إن مؤلفات مارتن لوثرالاخيرة تركت تأثيرًا على أتباعه حتى بعد وفاته،فعلى الرغم من أن السلطات المدنية آنذاك رفضت طرد اليهود بناءًعلى اقتراح لوثر، فإن أعمال شغب اندلعت خلال عقد 1580م تعرضخلالها اليهود لطرد جماعي من المقاطعات الألمانية اللوثرية. وبحسبعدد كبير من المؤرخين، فإن شعبية (مارتن لوثر) كان لها الأثر البالغفي تطوير معاداة السامية في ألمانيا، وخلال فترة 1930-1940ماستخدم الحزب النازي بقيادة هتلر كتابات لوثر، لتكون (الدعامةالمثالية) لمعاداتهم الساميّة ومحاولات القضاء على اليهود وهذا ما حدث فعلا في الابادة النازية لليهود (= الهولوكوست ) في سنوات الحرب العالمية الثانية، ودفع ثمنها الفلسطينيون المسالمون خلال أكثر من سبعين عاماً.

وبحسب روبرت مايكل، فإن كل كتاب مطبوع خلال حكم الحزب النازي بقيادة المستشار الالماني هتلر يحوي اقتباسات من كتاباتلوثر من عام 1919 لغاية 1945م، وفي 10 نوفمبر/تشرين الثاني عام 1938 تزامنًا مع عيد وفاة مارتن لوثر، أُحرقت العديد من الكنسفي ألمانيا، ووفقًا للمؤرخ الالماني لجيري ديك، فإنّ النازية حصلتعلى دعمها الشعبي والكم الأكبر من أصواتها من المقاطعاتالبروتستانتية في ألمانيا، خلافًا للمقاطعات الكاثوليكية.

وفي المقابل، فإن بعض المؤرخين برأ مارتن لوثر من كونه أصَّلمعاداة السامية، وقال أن تأثير كتبه عن اليهود كان محدودًا ومؤقتًا،لكنّ النازيين استغلوا اسمه بشكل انتهازي، فكاتب سيرته (مارتنبريخت)، أشار إلى وجود فرق شاسع بين اعتقاد لوثر بأن الخلاصلن يناله اليهود، وبين الكراهية لهم على أساس عنصري. ورغممحاولات التبرير هذه، فإن صورة لوثر كمعادٍ للسامية، والمتسبببالكراهية لليهود، لا تزال بارزة؛ ومن أصحاب الآراء الشهيرة في هذاالخصوص (رولاند باينتون) وهو مؤرخ كنسي لوثري، قال” أنه يتمنىلو كان لوثر قد مات قبل أن يضع كتابه (عن اليهود وأكاذيبهم)”.

وابنداءً من سنة 1980م فما فوق تنكرت الكنائس اللوثرية منتصريحات مارتن لوثر حول اليهود، ورفضوا استخدامها للتحريضضد اليهود أو ضد اليهودية بأي شكل من الأشكال.
وعلى أية حال تقوم الصهيونية المسيحية على تفضيل الطقوس العبرية في العبادة على الطقوس الكاثوليكية، فضلاً عن دراسة اللغة العبرية على أساس أنها كلام الله، وتشير الكثير من المصادر التاريخية إلى أن رغبة مارتن لوثر الجامحة في إعادة الاعتبار لليهود و(تمسيحهم) كانت تعود لإيمانه العميق بضرورة وجودهم في هذا العالم تمهيدا لعودة المسيح المنتظر.
المذھب البروتستانتي ھو المذھب الذي یدین به الیوم غالبية الامريكيين والكنديين والبريطانيين والالمان والهولنديين والسويديين والدانمركيين والنرويجيين والايسلنديين وغيرهم، ولكن داخل ھذا المذھب شيع كثیرة تُعد بالعشرات منھا ما لا یمكن فصل عقیدتها عن الیھودیة أو الصھیونیة لفرط الاشتباك والتفاعل بینھما، أما الأدبیات الیھودیة التي تسربت إلى صمیم العقیدة المسیحیة البروتستانتیة الصھیونیة عبر ھذه الفرق، فھي تدور حول محاور ثلاثة:
الأولى: ھو أن الیھود ھم شعب الله المختار، وأنھم یكّونون بذلك الأمة المفضلة على كل الأمم مھما فعلوا وعملوا لا یمكن إنتقادھم.
الثانية: ھو أن ثمة ميثاقاً إلھیاً یربط الیھود بالأرض المقدسة في فلسطین، وأن ھذا المیثاق الذي أعطاه الله لإبراھیم (علیه السلام) ھو میثاق سرمدي حتى قیام الساعة، وعلیه من واجبات المسیحیة الصھیونیة تسھیل ھجرة الیھود الى فلسطین من جمیع النواحي بینھا إفتتاح مكاتب للھجرة الیھودیة الى الأراضي المقدسة.
الثالثة: ھو ربط الإیمان المسیحي بعودة السید المسیح بقیام دولة صھیون سنة 1948م، وإحتلال الجانب الشرقي من القدس في 6/6/1967م، أي بإعادة تجمیع الیھود في فلسطین و(بناء هيكل سليمان) حتى یظھر المسیح فیھم، فقیام دولة إسرائیل واحتلال القُدس، ھو شرط جوھري لنھایة سنوات المنفى الیھودیة والعودة المنتظرة للماشيح(= المسيح)، ومن أجل ذلك ینبغي تقدیم كل أنواع الدعم الى اليهود.

ومن جانب آخر يصر البروتستانت أنإسرائيلالجديدةليستالكنيسة المسيحية كما اعتبرها مجازاً القديس أوغسطين ، فبالنسبة إليهمهي بنو إسرائيلالمفترض عودتهمإلى فلسطين لإقامة مملكة الله علىالأرض، جغرافياً وليس مجازاً، وهــو ما اعتبروه مقدمة ضرورية للمجيءالثاني ولتحقيق المملكة الألفية السعيدة (رؤيا الفصل (۲۰)، أما الكنيسةبالنسبة إلى البروتستانت فهي مملكة الله السماوية في حين أن إسرائيلهي مملكة الله الجغرافية على أرض فلسطين وبالتالي أصبحالبروتستانت من أشد أنصار إسرائيل حماساً ودعماً لها.

ولما كانت الخطة الإلهية عند الغرب تقتضي المجيء الثاني للمسيح فيلزمبالضرورة أن يسبقهالشعب المختاراليهود إلى فلسطين تمهيداً لعودته،والنتيجة أنعودةاليهود لفلسطين مرغوبة ومطلوبة ليس الجدارتهمواستحقاقهم وإنما تحقيقاً للنبوءات التي تفرض عليهم أن يلعبوا دوراًهاماً فيالخطة الإلهية لخلاص البشرية“! فالمسيح لن يعود إلىفلسطين إلا إذا عاد اليهود لها حسب اعتقاد الأصوليين المسيحيين فيالغرب، ذلك أننهاية التاريخالتي تنبأ بها بولس منذ ألفي عام ترتكزأولاً وآخراً على إنشاء وطن يهودي في فلسطين يستطيع المسيح أن يعودإليه (۷) ، ومنه يتضح ضآلة الفارق بين عقيدة اليهود وعقيدة البروتستانتحول هذه النقطة، فبينما ينتظر اليهود المجيء الأول لمسيحهم، يتطلعالبروتستانت إلى بحيئه الثاني لكي ينقذ اليهود من ضلالهم!

وفي ذلك قال البروتستانتي الألماني (بولس فلاجنها وفر) عام (١٦٥٥م) أن اليهود مسيحاً لهم عند مجيئه الثاني)، وعندئذ يتحد اليهود سيعترفونبعیسی والمسيحيون معاً، ومن البديهي أن اليهود ينبذون هذا الاعتقاد .

وعلى المستوى العملي ترجم الأصوليون الأوربيون، وبالتالي الأمريكيون،عقيدتهم إلى عمل، فقد شعروا أن من واجبهم لعب دور عملي ونشط فيتحقيق النبوءات وتسريع المجيء الثاني سعياً وراء إنشاء المملكة الألفيةالسعيدة التي تنبأ بها يوحنا فيرؤياه، ولم يكن هذا الحماس المتجددمنحصراً فقط على المستوى الشعبي ولا على مستوى الكهنوت الدعاة،ولكن تجاوزه إلى الزعماء السياسيين وكبار القادة والمستعمرين والرحالةوالأكاديميين!

كان الأمريكيون الأوائل الذين تسموا حجاجاً في هجرتهم من أوروبا إلىأمريكا يشبهون أنفسهم بقبائل إسرائيل التائهة، ومن قبيل المجاز أوالاستعارة قارنوا المحيط الأطلسي بصحراء سيناء، والأرض الجديدةبأرض كنعان أي الأرض الموعودة.

ومنذ عام (١٨٥٣م) كتب محرر المجلة الطبية للجراحين في بوسطن: لقدعبرت مراراً عن ملاحظاتي فيما يتعلق بمستقبل أرض الميعاد، فأنا أؤمنإيماناً عميقاً بوجوبإعادةاليهود نهائياً إلى فلسطين وإعادة إنشائهمكأمة، وكتب أيضاً : من المؤكد أنه ما لم يتم اقتلاع السكان الحاليين منالأرضالموعودة وإحلال سلالة جديدة مكانهم فإن الكتاب المقدس لنيكون معتبراً من قبل الأقلية، والتي بدورها لن يكون لها تأثير يُذكر فيتغيير تقاليد إلا وعادات المجموع.

وعلى الأرض كان بعض المبشرين والرحالة الأمريكيين واثقين من نجاحخططهم الطموحة، فبعد أن يئس أكثرهم من تحويل المسلمين إلىالمسيحية كتب بعضهم : من الأسهل تحويل القرميد إلى حجارة، فليستإرادة الله أن يتحول المشرق إلى المسيحية، والحل الذي اقترحه بعضهملـم يكـن سـوى: اقتلاع السكان الأصليين من أرضهم وجلب سلالةأفضلإلى المشرق. وقد صوروا السكان المحليين من الترك والعربوالمسلمين بأشكال مختلفة تراوحت من البراءة إلى التوحش، فقد كتبأحدهم: هؤلاء السكان الهمج يذكرونني على الدوام بالهنود الحمر.

أما هنري جيسب Henry Jessup( 1857 1910م) مؤلف كتاب ثلاثةوخمسون عاماً في سورية و Mohammadan Missionary Problem1879  ) ) ، والدكتور جون باركلي Barkley في كتابه (  (City of Great King 1858 وضعا خطة مفصلة لمستقبل المشرق، بمافيها تقسيم المنطقة بين الدول الغربية ومن ضمنها روسيا، وتجميع اليهودفي فلسطين استعداداً لإنشاء مملكة الله على الأرض، حتى أن بعضهمرسم حدود إسرائيل من النيل إلى الفرات ومن جبل آرارات إلى بحرالعرب وخططوا لمشاريع سكك حديدية تربط إسرائيل بالغرب.

وكان المفهوم أن مصير المشرق مرتبط ارتباطاً وثيقاً بمصير الولاياتالمتحدة، وأن على الولايات المتحدة أن تلعب بذلك دوراًرسمته يد الله،فالمشرق مثل الغرب الأمريكي: “كان مقدراً له أن يكون نقطة التقاءالأنجلوساكسون في مسيرتهم نحو مغرب ومشرق الإمبراطوريةوأماالدور الأمريكي فهو تحقيقحلم صهيون، ويترتب على المبشرينالأصوليينإنقاذ نفوس المسلمين التائهة). ولم يكن عجيباً على سبيلالمثاللداعية الحقوق المدنية الأسود مارتن لوثر كنج الأصغر أن يقولعام (1968م) في خطبة مؤثرة شهيرة له: (إنني أرى الأرض المقدسة.

لقد ترسخت مثل هذه المفاهيم في العقل الغربي خلال القرون الأربعةالأخيرة، وأصبحت منطلقاً لأنشطة تبشيرية، ثم اكتسبت هذه الأنشطةزخماً المسيحية المتصهينة عند الغربيين أو المسيحية الأصولية في نصفالكرة الغربي كبيراً خلال القرن التاسع عشر، وفي القرن العشرينتحولت إلى مجريات سياسية فاعلة توجت بإنشاء إسرائيل بدعم غيرمشروط من الغرب عامة، ومن الولايات المتحدة خاصة.

والخلاصة أن الاستشراق الأمريكي تطور خلال القرن الحالي إلىمصطلح لغوي قائم بذاته، وهو يتضمن أنشطة عديدة فكرية وأكاديميةوسياسية ودينية، وتعتبر الجمعية الأمريكية لدراسات الشرق الأوسطMiddle  East Studies Association of America المنظمة الأم لعدةمؤسسات أكاديمية أحرزت قفزات ضخمة في مجالات دراساتالاستشراق.

فقد كان كل من الرؤساء الأمريكيين السابقين: جون آدامز(۱۷۹۷-۱۸۰۱م) و توماس جفرسون (۱۸۰۱ – ۱۸۰۹م) عضوين فيلجنة تأسست عام ١٧٧٦م لغرض انتقاء شعار للأمة الأمريكية الجديدة،فأوصى كلاهما أن يكون الشعار صورة للنبي موسى وهو يقود اليهودالهاربين من فرعون مصر! . وفي مناسبات عديدة أبدى جون آدامز رغبتهالمخلصة لإعادة اليهود إلى أرض يهوذا” – فلسطينكأمة مستقلة، ومنجهته رأى بنيامين فرانكلين الدبلوماسي الأمريكي أن يكون الشعارصورة موسى وهو يشق البحر الأحمر بعصاه!.

وفي العام (١٨٤٨م) عمل واردر كريسون Warder Cresson القنصلالأمريكي في القدس على تأسيس مستعمرة يهودية في فلسطين مولتهاجمعيـة مسيحية يهودية في إنكلترا، وفي العام (۱۸۹۸م) كتب إدوينشيرمان والاس Edwin Sherman Wallace القنصل الأمريكي فيفلسطين أيضاً: (أرض فلسطين بالانتظار، والشعب جاهز للقدوم).

وفي انكلترا صرّح أوليفر كرومويل Oliver Cromwell عام 1650م بصفته اللورد المدافع عن الكومنويلث الجديد Lord Protector أن الوجوداليهودي في فلسطين سوف يكون مقدمة للمجيء الثاني للمسيح! وقدحثه أحد أعوانه على نقل المعركة إلى أرض كنعان.

وفي عام (۱۸۳۹م) قام اللورد أنتوني أشلي كوبر الايرل السابع لشافتسبوري Anthony Ashley Cooper، والمعروف في إنكلترا بلقبالمصلح الأكبر، قام بحث اليهود على الهجرة إلى فلسطين إذ رأى فيهمأمل المسيحية في الخلاص، لأنهم سيلعبون دوراً هاماً فيالخطةالإلهيةللمجيء الثاني، وزعــم أن فلسطين أرض بلا شعب لشعب بلاأرض، وقد عمل على إنشاء قنصلية بريطانية في القدس كان النائبالأول للقنصل البريطاني فيها وليام يونج William Young وهو رجلدين بروتستانتي متعصب، وكان من أحد مهامه بسط الحماية على(٩٦٩٠) من يهود فلسطين، وهو عددهم الإجمالي آنذاك.

ومنذ عام ( ١٨٤٥م) اقترح إدوار ميتفورد Edward Mitford المعين فيمكتب لندن للمستعمرات الإنكليزية إنشاء دولة يهودية في فلسطين تكونتحت حماية بريطانيا، وقال أنّ:” هذه الدولة ستضع بريطانيا في وضعيةقيادية في المشرق تمكنها من إيقاف التعديات وإرهاب الأعداء ووقفتقدمهم عند اللزوم ! .

أما لورنس T.E. Lawrence. عميل المخابرات البريطانية في الجزيرةالعربية خلال الحرب العالمية الأولى، والذي لقبوه زوراً وبهتاناًلورنسالعربفقد كتب: كم أتعبني هؤلاء العرب، إنهم تجسيد للساميينالمنحطينإن العقل العربي شاذ وغارق في الظلمة والكآبة والاعتزازالمفرط بالنفس، ويفتقر إلى قواعد المنطق، وعن دوره في قيادة الثوارالعرب ضد العثمانيين كتب: بما أنني لست مغفلاً فقد كان واضحاً منذالبداية أنه في حال فوزنا بالحرب فستصبح الوعود التي قطعناها للعربحبراً على ورق، ولو كنت مستشاراً شريفاًللعربلعملت على تسريحرجالي من الثوار ولما جعلتهم يجازفون بأرواحهم لمثل هذا الهدف !.ويكفي أن نعلم عن رئيس الوزراء البريطاني لويد جورج Lloyd George (١٩١٦ – ۱۹۱۹م) الذي صدر في عهده وعد بلفور أنه تربىفي مدرسة كانت تعلم الطلاب تاريخ اليهود أكثر من تاريخ إنكلترا، وقدعلق الزعيم اليهودي حاييم وايزمان Weizmann بعد أن التقاه لأول مرةأنه قابل رجلاً لا تقدر قيمته بثمن تجاه القضية اليهودية.

وأما آرثر جيمس بلفور نفسه Arthur James Balfour الذي كان وزيرالخارجية البريطاني (۱۹۱٦ – ۱۹۱۹م) وصاحب الوعد المشؤوم المعروفباسمه، فقد تربى بروتستانتياً متزمتاً منذ طفولته، وبفضل تنشئتهالبروتستانتية كان مطلعاً تماماً على كتب العهد القديم، إذ اعتاد علىرؤية والدته وهي تقرأ العهد القديم مراراً وتكراراً؛ مما كان له أكبر الأثرعليه وقد وصفها أنها امرأة شديدة الالتزام والتدين، وكان مقتنعاً تمامالاقتناع أنعودة اليهود إلى فلسطين مقدمة ضرورية للمجيء الثاني،وقد ذكرت ابنة أخته التي كتبت قصة حياته شدة إيمانه بأن المسيحيةمدينة لليهودية بالشيء الكثير وأنه من المعيب أن المسيحية لم تكافيءاليهودية بما فيه الكفاية.

أما وودرو ولسون Woodrow Wilson الرئيس الأمريكي خلال فترة(١٩١٣- ۱۹۲۱م) فكان بروتستانتياً متزمتاً ومتعاطفاً مع اليهود بشكلسافر ولذا سارع إلى تأييد وعد بلفور في ٣١ آب/ اغسطس عام ١٩١٨م.فيما كان هاري ترومان Harry Truman الرئيس الأمريكي خلال (١٩٤٥ – ١٩٤٩م) قد درس العهد القديم بعناية ومن الأصوليين الذين عرفوا بأنهممولودون ثانية، كان مؤمناً تماماً بمبررات قيام إسرائيل، وقد أبدىمشاعره هذه قبل أن يصبح رئيساً بزمن طويل، وقد يظن بعض الناس أناعترافه الفوري بقيام دولة إسرائيل كان بتأثير اللوبي الصهيونيالأمريكي أو سعياً وراء الأصوات الانتخابية اليهودية، في حين أنه كاننابعاً من إيمان ديني حقيقي.

أما جيمي كارتر الرئيس الأمريكي خلال الأعوام (١٩٧٦ – ١٩٨٠م) فكانأيضاً من الأصوليين البارزين المولودين ثانية، وفي خطاب ألقاه أمامالكنيست الإسرائيلي في آذار عام (۱۹۷۹م) قال: نحن نشترك معاليهود في تراث العهد القديم)، وقد آمن أن إنشاء إسرائيل لم يكن سوىتحقيقا لنبوءات العهد القديم، وأما السلام في الشرق الأوسط فلم يكنيعني له سوى ضمان استمرار الوجود الإسرائيلي الآمن بفلسطين،وعندما استقبل في البيت الأبيض رئيس الوزراء الإسرائيلي مناحيم بيجنوعده أن الولايات المتحدة ستدعم إسرائيل إلى الأبد، وقال في خطبة له أنهمنذ تدمير القدس في العام (۷۰م) استمر اليهود في الصلاة ليكونعامهم القادم في القدس، وأنهم عادوا أخيراً إلى أرض التوراة بعد ألفيعام من المنفى والشقاء والتمييز العنصري ضدهم !، وخلال زيارتهالبوسنة والهرسك في (۱۹۹۲م) وسيطاً بين الصرب والمسلمين أضافكارتر إلى سجله المتحيز أن خاطب الصرب الذين نشطوا في جرائمالحرب وفظائع التطهير العرقي ضد المسلمين فقال لهم معتذراً عنالولايات المتحدة: إن الشعب الأمريكي قد أساء فهمكم“.

أما رونالد ريكان الرئيس الأمريكي خلال (۱۹۸۰-۱۹۸۸م) فكان منالأصوليين المؤمنين جداً بقرب تحقق المجيء الثاني للمسيح وفق ما كتبهيوحنا فيرؤياهووفق سيناريو تل مجدو Armageddon (رؤيا١٦:١٦)، وكان لا يمل من الاستشهاد بنصوص من العهد القديم في كلمناسبة، والطريف أنه كما آمن بولس قبله بألفي عام بوجوب تحققالمجيء الثاني خلال سني حياته أي حياة بولس نفسه فقد آمن ريكانأيضاً أن المسيح سيعود خلال حياته هو أي حياة ريكان.

وفي 6 شباط فبرايرمن العام ١٩٨٣م أعلن الواعظ الأصولي (جيريفالويل) أنه يفضل أن تضم إسرائيل إليها أجزاء من العراق وسوريةوتركيا والسعودية ومصر والسودان والأردن والكويت ولبنان بكامله، وقال:   إن الله يبارك أمريكا لأننا نطيعه في حماية ما هو ثمين بالنسبة له يقصد إسرائيل. وبتاريخ 29/4/1998م خلال الاحتفال بمرور خمسينعاماً على إنشاء دولة إسرائيل، خطب رئيس الوزراء الإسرائيلي نتنياهوأمام جمهوره، وكان من ضمنهم آل جور Ale Gore نائب الرئيسالأمريكي، فقال: كان الأمريكيون يتطلعون إلى (الأرض الموعودةالجديدة) مجازاً، ولكن هذه هي الأرض الموعودة حقيقةيقصد فلسطين،وكان الأمريكيون أيضاً يتطلعون إلى (المدينة التي على الهضبة) مجازاً،ولكن القدس هي (المدينة التي على الهضبة) حقيقة ولم يكن مستغرباً أنقابل آل جور وزوجته هذا الكلام بتصفيق حاد.

وقس على ذلك عقيدة الرئيس بيل كلينتون الذي كان صهيونياً واضحاً إلىحـــد تبججه بذلك أمام الكنيست الإسرائيلي مثلما كان قبله الرئيسجورج بوش الأب وبعده الرئيس جورج بوش الابن من الأصوليونالمولولدين ثانية، وقد ذكر أفنيري داعية السلام الإسرائيلي أن الرئيسبوش الابــن يعتبر نموذجاً لليمين الأصولي المسيحي.

وعلى أية حال ففي الخطاب الذي ألقاه الرئيس الأميركي بيلكلينتون الديمقراطي أمام الكونغرس اليهودي عام 1994م، قال” إنالرب لن يسامحنا إذا تخلينا عن إسرائيل؛ لأن إرادة الرب أن تكونإسرائيل هي الوطن الإنجيلي للشعب اليهودي للأبد، لذلك ستقفأميركا معها دائما”. ولم يعترض أحد في الولايات المتحدة الأميركيةعلى استخدام كلينتون لهذه المصطلحات الدينية على أساس أنهاتشكل تحديا للعلمانية، وهذا يوضح أن البعد الديني للعلاقة بينأميركا وإسرائيل يحظى باتفاق داخل الولايات المتحدة، وأن الأمر لميكن بلاغة خطابية استخدم فيها كلينتون اللغة الدينية.

وهنا يتساءل المراقبون سؤالاً غريباً :(ما دور الدين في تشكيلالعلاقات الأميركية الإسرائيلية)؟ في عالم يروج للعلمانية باعتبارهامن أهم أركان ثقافة العولمة، لكن هناك كثيرا من الأدلة على أن الدينيقوم بدور مهم في تشكيل العلاقات الدولية، لأن الجذور التاريخية لهذا الخطاب تبنته الكثير من الجماعات الدينية المسيحية خلالالقرن التاسع عشر يقوم على أن المسيحيين واليهود شركاء في تنفيذخطط الرب، وأن اليهود يعيشون في منفى بعيدا عن أرضهم، وأن كلام الرؤوساء الامريكان وساستهم صدىً لها.

يقول (دانيال هوميل) إن الرؤية الدينية شكلت العلاقات الخارجيةالأميركية منذ نشأة الحركة الصهيونية في نهاية القرن التاسع عشر على يد اليهودي النمساوي ثيودور هرتزل(1860 1904م)،وأسهمت هذه الرؤية في تزايد تأييد أميركا ومساندتها للحركةالصهيونية خلال الثلاثينيات من القرن العشرين، وفي تحيز أميركاالمستمر لإسرائيل بعد إنشائها عام 1948م وفيما بعد.

ولقد أسهم موقف أميركا السلبي من الإسلام في تقوية علاقاتهابإسرائيل؛ وهذا ما يبدو واضحاً في العلاقة بين أميركا وإسرائيل، رغم أن الجالية الإسلامية أكبر عدداً من الجالية اليهودية، ولكن الدين، أي العلاقة الخاصة التأريخية بين اليهودية والبروتستانتية وتحديداً الانجيليين منهم، واللوبي اليهودي، ورؤوس الاموال اليهودية؛والماكنة الاعلامية الامريكية المنحازة للصهيونية دور كبير في تشكيلالسياسة الخارجية لامريكا والدول الغربية البروتستانية المتحالفة معها، وأن الدين عامل مهم لا يمكن تجاهله في تحليل العلاقاتالدولية.

والخلاصة أن حركة الإصلاح الديني البروتستانتية زودت اليهودبفرصة تاريخية نادرة وفريدة حصلوا بنتيجتها على الاحترام، والدعمالهائل، وغير المشروط من المسيحية الغربية بسبب إيمان الأصوليينبالدور الكبير المفترض أن يلعبه اليهود فيسيناريوالمجيءالثاني، فاليهود حصلوا على فلسطين باعتبارهاالأرض الموعودةوالمسيحيون الأصوليون ضمنوا بذلك تحقيق عودة المسيح الوشيكة !

والأخطر من ذلك حالیاً، ھو أعتقاد المسیحیة الصھیونیة وفي مقدمتھم رؤساء امریكا وبعض سیاسیھا ان اعادة بناء (الھیكل الیھودي) على أنقاض المسجد الأقصى بات وشیكا؟، فضلاً عن ذلك توسیع حدود (اسرائیل) لتشمل لیس فقط الأراضي الفلسطینیة بل على الأساس الحرفي ل(سفر التكوین 18:15)، والقائل: ” فِي ذلِكَ الْيَوْمِ قَطَعَ الرَّبُّ مَعَ أَبْرَامَ مِيثَاقًا قَائِلاً: «لِنَسْلِكَ أُعْطِي هذِهِ الأَرْضَ، مِنْ نَهْرِ مِصْرَ إِلَى النَّهْرِ الْكَبِيرِ، نَهْرِ الْفُرَاتِ”، وهذا يشمل أراضي كل من: مصر والاردن وسوريا ولبنان والعراق والمملكة العربية السعودية ( المدينة المنورة وخيبر تحديداً).

لذلك ما أن بدأت عملية ( طوفان الاقصى) على يد حركة المقاومة الاسلامية – حماس حتى بادر الساسة الغربيون الذين يعتنقون المذهب البروتستانتي ولو ظاهريا: بالاسم: الرئيس الامريكي (جو بايدن)، ورئيس وزراء بريطانيا ( ريشي سوناكا من أصول هندية) ومستشار المانيا ( أولاف شولتس)، مع الرئيس الفرنسي الكاثوليكي(ماكرون)، الى تقديم دعمهم المادي والمعنوي اللامحدود لإسرائيل واعتبار عملية طوفان الاقصى) عملية إرهابية والتصدي لها، واعتبار منفذيها لا يقلون دمويةً وتوحشاً عن تنظيم داعش، أي بعبارة أخرى شيطنة المقاومين الفلسطينيين، و:انهم هم الذين أذاقوا الاسرائيليين الويل والثبور طيلة أكثر سبعين عاماً، وأن الفلسطينيين هم من أحتل أرض إسرائيل؟؟؟:؛ وهذا ما سنح للساسة الاسرائيليين باستعمال أقسى الهجمات وأشدها فتكاً وتدميراً بالفلسطينيين العزل المحاصرين منذ أكثر من ستة عشر عاماً متواصلة، من كل دعم عربي وإسلامي بل وإنساني، وأمام أنظار الانسانية  والامم المتحدة جمعاء دون وازع من ضمير أو وجدان أو إحساس بشري وكأنهم يكافحون الحشرات بالمبيدات الكيمياوية!!!.

ثانياً: العيد اليهوديالحانوكاهوالاحتفالبه في البيت الأبيض عشية الاحتفال بالقدس عاصمة أبدية لإسرائيل؟

الحانوكاه” كلمة عبرية تعني التدشين، أي بناء الهيكل اليهودي الثاني، الذي بناه (يهودا المكابي) سنة 160ق.م، وكان الهيكل الأول الذي بناه وفق معتقدهم نبي الله سليمان (عليه السلام) قد دمره الملك الكلداني البابلي (نبوخذ نصر) عام 586أو 587ق.م.
فهو عيد يهودي يستمر ثمانية أيام من الخامس والعشرين من “كسلو” الذي يقابل شهر كانون الأول/ ديسمبر، والعيد بحكم توقيته يمكن اليهود وبالذات الأطفال من الاحتفال بعيد يهودي في نفس الفترة التي يحتفل فيها المسيحيون بعيد الميلاد، والمناسبة التاريخية لهذا العيد هي دخول (يهودا المكابي167-160ق.م) بن ماتيوس الحشموني مدينة أورشليم وإعادته للشعائر اليهودية في الهيكل، ويقال إن يهودا المكابي حينما دخل الهيكل وجد أن الزيت الطاهر (أي الذي يحمل ختم كبير الكهنة) لا يكفي إلا ليوم واحد، وكان من الضروري أن تمر ثمانية أيام قبل إعداد زيت جديد كما ينص التوراة، فحدثت المعجزة واستمر الزيت في الاحتراق لمدة ثمانية أيام بدلاً من يوم واحد، ولذلك صمم لهذا اليوم شمعدان خاص من تسعة فروع، ولأن هذه المناسبة تؤكد انفصال اليهود ورفضهم للاندماج والتفاعل مع الحضارات الأخرى، فإننا نجد أن الصهيونية تبالغ في الاحتفال به.
ويحتفل بالعيد في إسرائيل على أنه عيد ديني، قومي (عيد الأنوار)، فتوقد الشموع في الميادين العامة وتنظم مواكب من حملة المشاعل، وأثناء الاحتفال يصعد آلاف الشبان إلى قلعة “ماساداه”، وهو مقطع صخري مرتفع يقع في صحراء القدس بالقرب من الشاطئ الغربي للبحر الميت، ويمثل هذا المقطع الصخري بقايا مدينة حصينة يهودية يعود تاريخها إلى الهيكل الثاني، وهو يعتبر رمزاً للصمود البطولي وحب الحرية لمحاربي يهودا، وتبلغ مساحة قمة الجبل التي توجد فيها القلعة حوالي 80 دونماً وطولها حوالي 600 متر وعرضها يتراوح بين 130/240م.
وترتفع عن سطح البحر 462 متراً، وتفصل بين هذه القمة ومجموعة الجبال المحيطة بها أودية عميقة، وكان يوناتان الحشموني قد بنى عليها حصناً عام 42 ق.م وزاد هيرورودوتس من تحصينها وأقام لنفسه هناك قصراً فاخراً، وقد تمركز في قلعة مسادة آخر المحاربين الذين ثاروا على الرومانيين، وقد حاصر الرومان القاعة مدة 3 سنوات، وعندما فقدوا الأمل انتحر المحاصرون وعددهم 960 شخصاً كان يقودهم (األيعيزر بن بائير) وذلك يوم 15 نيسان من عام73م، وقد قصت النسوة والأولاد الذين اختبأوا بقناة مياه ونجوا من الموت في عملية الانتحار الجريئة، وفي العهد الروماني البيزنطي(70-635م) سكن هذا الجبل رهبان، حيث أقاموا عليه كنيسة صغيرة.

في عام 1954م أقيم من جديد (طريق الأفعى) إلى الجبل، وفي عام 1955م قام سلاح الهندسة الإسرائيلي بإعادة ترميم القلعة، وجرت في المكان حفريات أثرية واسعة اكتشفت فيه خزانات مياه وأرزاق ومقر الوالي الروماني على فلسطين (هيرودوتس) وكُنَيس وقصاصات من كتاب التوراة وعملات وغير ذلك، وفي عام 1970م تم شق طريق إلى الموقع الأثري يبدأ من عراد وحتى الجانب الغربي من قمة الجبل، وفي عام 1970م تم تشغيل قطار هوائي من الجانب الشرقي للجبل.
لذلك من الأهمية بمكان الإشارة إلى أنه بعد يوم واحد فقط من توقيع الرئيس الأمريكي (دونالد ترامب) قرار الاعتراف بالقدس عاصمة أبدية للدولة العبرية (إسرائيل)، وتحديداً في 7 ديسمبر/ كانون الأول 2017م، جرى في البيت الأبيض، وتحديداً في منزل صهر الرئيس الأمريكي ترامب اليهودي (جارود كوشنر)، جرى احتفال رسمي بالعيد اليهودي الحانوكاه (عيد الأنوار) بحضور أسرة الرئيس الامريكي وبعض الساسة الاميركيين ومن ضمنهم نائب الرئيس الأمريكي (مايك بنس) بالإضافة إلى الحاخام اليهودي الأمريكي (سولوفيتشك) القائد الروحي العاشر لليهود منذ الثورة الأمريكية، حيث القى الرئيس الأمريكي كلمة بهذه المناسبة استهلها بقوله: “ أعلم يقيناً الكثير من الأشخاص السعداء في القاعة .. القدس.. شكراً لكم، وميلانيا (زوجة الرئيس) وأنا يسعدنا الترحيب بكم وبالكثير من أصدقائنا الرائعين في البيت الأبيض ونتمنى لكم حانوكاً سعيداً جداً“.
وأعتقد أن هذه ستعتبر حانوكاه فريدة بشكل خاص، وأنا أيضاً سعيد بأحفادي الجميلة، (آرابيلا، وجوزيف، وثيوديور) الموجودون بيننا الليلة، بينما نحتفل معكم جميعاً بالتقاليد المقدسة والتي يحتفلون بها كل عام في بيتهم مع ( إيفانكا وجارود). الليلة نحتفل بالقصة المذكورة ببيوت اليهود بأمريكا وحول العالم، قصة بدأت قبل أكثر من ألفي عام حيث قرر طاغية أن يعاقب احتفال اليهود بعيدهم بالموت، فدنس المعبد اليهودي بما في ذلك أقدس الأقداس، لكن عدداً من اليهود انتفضوا وهزموا جيشاً عظيماً وسريعاً استعادوا حريته، لكن معجزة المكابيين لم تنته، فأثناء إعداد المعبد وجدوا مقدار زيت يكفي إضاءة مصباح لليلة واحدة، لكنهم سرعان ما اندهشوا عندما وجدوا أن المصباح استمر في التوهج طوال ثمانية أيام، وهذه علامة على وجود الرب في منزله، وإشارة لإيمان ومرونة اليهود، لديكم إيمان ولديكم مرونة، معجزة الحانوكا هي معجزة إسرائيل أحفاد إبراهيم وإسحاق ويعقوب تحملوا اضطهاداً وظلماً لا يصدق، لكن لم تستطع قوة أبداً أن تسحق روحكم ولا استطاع شر أن يطفئ إيمانكم أبداً، ولهذا فإن الشعب اليهودي يشع كالضياء على كل الشعوب، والآن أفكر فيما يجري وفي الحب الذي يغمر إسرائيل وكله يتعلق بالقدس، شكراً لكم نيابة عن كل الأمريكيين، أود أن أعبر عن مدى امتناني لمحافل اليهود في بلادنا وأنتم ترعون عائلتكم وتقومون بدعم مجتمعاتكم وترفعون شأن بلدنا الحبيبة.الحانوكا هو الوقت الذي تحتفل فيه العائلات اليهودية حول العالم بمعجزة الماضي ووعود المستقبل، نحن فخورون بالوقوف إلى جانب الشعب الإسرائيلي، ونجدد روابطنا الدائمة .

يشرفنا اليوم أن يتواجد معنا القائد الروحي العاشر لليهود منذ الثورة الأمريكية الحاخام سولوفيتشك، شكراً لك أيها الحاخام شكراً جزيلاً على وجودك معنا لكنه سعيد جداً منذ (إعلان القدس عاصمة لإسرائيل) أمس، ولا يهمه إن أخطأت نطق اسمه.
وقال الحاخام سولوفيتشك في معرض جوابه على كلمة الرئيس ترامب: “ إذا ذهبت للقدس اليوم سترى أنه بخلاف معظم يهود العالم الذين يضيؤون الشموع داخل بيوتهم، فإنهم في القدس يضيؤون الشموع كما كان يحدث في الأصل بالخارج بجوار أبواب بيوتهم وما يمثله ذلك هو فكرة يهودية أمريكية أيضاً، وهو أنه عندما يغادر أهل الإيمان بيوتهم ويذهبون للميدان العام، فإنهم يأخذون معهم عقيدتهم وهويتهم الدينية ولا يتركونها عند الباب عندما يخرجون إلى العالم، وما يمثله هذا المساء هو أننا كأمريكيين يهود لا نأخذ فقط عقيدتنا معنا إلى المجتمع وإلى العالم، لكننا نخرج هباً (بصورة جماعية) أيضاً من بيوتنا لبيتك أنت رئيس الولايات المتحدة الأمريكية بيت الشعب الأمريكي، ولهذا نشكرك سيدي الرئيس وأنت أيتها السيدة (ميلانيا ترامب) على كل ما يمثله هذا المساء لنا جميعاً، ولأن الحانوكاه لم تبدأ بعد فإننا لا نستطيع أن نقرأ الآن تبريكات الحانوكاه على شمعدان الحانوكا بعد، لكن هناك تبريكتان نستطيع أن نقرأهما قبل أن يشعل أحفاد الرئيس هذا الشمعدان الجميل والذي يمثل الكثير من التاريخ اليهودي والتاريخ اليهودي الأمريكي، وأول تبريكة هي تبريكة تقرأ طبقاً للتعاليم اليهودية عندما نكون أمام حاكم الدولة، ويعلمنا الحاخامات أن نقرأ هذه التبريكة من أجل تذكيرنا بالرب الذي نستمد منه كل القوة والتميز تماماً كما جاهد الآباء المؤسسون ليذكرون بأن حقوقنا كأمريكيين تستمد منه، وليس من الدولة، ولهذا ففي حضرة الرئيس ترامب نقرأ الأولى بالإنكليزية ثم بالعبرية: “تبارك الرب إلهنا ملك الكون الذي أسبغ القوة والتميز على اللحم والدم (آمين).

التبريكة الثانية التي نقرأها هي التي تقال طبقاً للتعاليم اليهودية عندما نتلقى بشارات سعيدة ويقرأها كل اليهود في أول ليالي الحانوكاه ونستطيع تلاوتها الآن بسب البشارة السعيدة التي تلقيناها للتو (القدس تقع بالطبع في قلب وروح كل يهودي وفي قلب اليهودية نفسها ونحن نصلي ثلاث مرات يومياً لأجل إعادة بناء القدس)، وضوء الحانوكاه لا يمثل فقط ضوء اليهودية الخالد، وإنما ضوء القدس المشتعل في كل روح يهودية، وبما أننا قد تلقينا بشارة سعيدة جداً لأنه لأول مرة منذ تأسيس دولة إسرائيل أعلن رئيس أمريكي بشجاعة ما أعلناه دائماً، وهو أن القدس عاصمة إسرائيلية، وبالتالي نشكر الرب الذي أبقانا إلى أن رأينا هذا اليوم السعيد ونقول: طوبى لك يا ملك الكون الذي أحييتنا ورزقتنا ومكنتنا من أن نشهد هذه المناسبة، عندما أشعل الشمعدان، سأشعل الشمعة الأعلى، ثم يشعل أحفاد الرئيس (أولاد إيفانكا وجارود اليهودي) الشمعة الأولية إشارة ببدأ ليالي الحانوكاه، وبمجرد أن يشعل أحفاد الرئيس هذه الشمعة انضموا إلي في غناء أول مقطع من أحد أحب أغاني الحانوكاه وهي (مائوز تسور)، وأعني شاركوني الغناء لأننا لا نريد أن نعرض الرئيس والسيدة الأولى للاستماع إلى صوتي أنا، فكل من يستطيع الغناء رجاءً انضموا إلي، سأشعل الشمعة ثم خذوا الشمعة… يا ملاذي العظيم يا خلاصي إن الثناء عليك سعادة، أعد بناء بيت عبادتك وهناك سأقدم هدية الشكر، وعندما تكون قد أعددت الذبح للعدو المرتد ثم سأكمل غناء الترنيمة: تفاني المذبح ثم سأكمل غناء الترنيمة تفاني المذبح، حانوكاه سعيدة لكم.
ولكلمة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب عدة اعتبارات منها :
1- أنها جاءت بعد يوم واحد فقط من إعلانه القدس عاصمة أبدية وموحدة للكيان العبري.
2- أنه حاول اجتراح ما يسمى بالمعجزات! التي حدثت في التاريخ اليهودي (مسألة الزيت المقدس الذي كان يكفي لإضاءة المصباح ليوم واحد)، لكنهم سرعان ما اندهشوا عندما وجدوا أن المصباح استمر في التوهج طوال ثمانية أيام، وهذه علامة على وجود الرب في منزله.
3- أنه نسب إلى الطاغية ويقصد به الملك السلوقي اليوناني (انطيوخوس الرابع 174-165ق.م) معاقبة الشعب اليهودي عن طريق منعهم من إقامة شعائرهم الدينية، ومنعهم من الختان، ومن قراءة التوراة، ومن الحفاظ على قدسية يوم السبت، ومن إجبارهم على أكل لحم الخنزير، ومن إلغاء عبادة “يهوه” في الهيكل في أورشليم وعبادة الإله زيوس اليوناني، ونسى نفسه أنه طاغية متكبر لأنه يحارب عقيدة وفكر دين سماوي يربو عدد معتنقيه لأكثر من 1700 مليون من البشر، ويتهمهم بالإرهاب وغيرها من المصطلحات الجاهزة في مطابخ الساسة الغربيين، وأنه لا يحترم عقائدهم ويتنكر لكل القرارات والمواثيق الدولية قبل السماوية.

4- أنه يكيل مسألة ما يسمى بالفكر المستنير أو الليبرالي بمكيالين، فبينما يؤكد على تمسك اليهود بهويتهم وعقيدتهم الدينية المبنية على التوراة والتلمود من خلال محاربة اليهود المكابيين بقيادة (يهودا المكابي) لبني جنسهم وقتلهم لأنهم اغترفوا من الفكر اليوناني الهلليني ونبذوا عبادة إله اليهود (يهوه)، وساروا خلف الإله اليوناني (زيوس)، أي أخذوا بقيم الثقافة اليونانية – الهللينية، يحاول هو ودعاة الحداثة والتنوير ومن سار على منهجهم إبعاد المسلمين عن المصادر الرئيسية للإسلام المتمثلة في القرآن الكريم والسنة النبوية عن طريق المجيء بإسلام متنور ليبرالي على نهج الإدارات الأميركية بعد حادثة 11 سبتمبر/ أيلول 2001م.
5- يبدو أن الرئيس الأمريكي ترامب بحكم عقيدته البروتستانتية الإنجيلية مطلع عن كثب على عقيدة وتاريخ اليهود، حيث تطرق في كلمته إلى المعجزة التي حصلت لهؤلاء اليهود الذين اكتشفو أن الزيت الذي يضيء الشمعدان المقدس، لم يجدوا إلا جرة صغيرة كانت تكفيهم ليوم واحد، ولكن حصلت المعجزة عندما تبين أن الجرة كانت كافية لإضاءة القنديل لمدة ثمانية أيام، وعلى هذا يحتفل بعيد التدشين(الحانوكاه) منذ ذلك اليوم وحتى هذه الأيام لمدة ثمانية أيام.

6- أن الرئيس الأمريكي تكلم عن مرونة الشعب اليهودي، وأنه يشع ضياءً على العالم، وأن أعداء اليهود من اليونانيين دنسوا المعبد اليهودي، وينسى أو يتناسى أن اليهود ومستوطنيهم يدنسون كل اليوم الأماكن المقدسة الإسلامية بما فيها بيت المقدس، وأنهم يقتلون الفلسطينيين بدم بارد ويدمرون بيوتهم ويحرقون مزارعهم، دون خوف أو وجل، من دون استنكار المنظمات الدولية بل وحتى الشخصيات الدينية اليهودية التي تدعي قيم التسامح والعيش المشترك، ولو اطلع الباحثون والمراقبون على تعاليم الكتاب اليهودي (التلمود) لوجدوا فيه المئات بل الآلاف من كلمات القتل والذبح والإرهاب، ومن الألفاظ البذيئة والمشينة بحق المسيحيين قبل المسلمين التي يعجز القلم من تردادها، وبالذات تجاه السيد المسيح (عليه السلام) وأمه الصديقة البتول (مريم).

7-   أن الحاخام الأمريكي اليهودي (سيلوفيتشك) يشير في الغناء اليهودي المنسوب للحانوكاه (مائوز تسور) إلى إعادة بناء بيت الرب، يقصد به تخريب المسجد الأقصى وبناء ما يسمى بـ(هيكل سليمان) على أنقاضه، ويبدو أن قرار الاعتراف الأمريكي بالقدس عاصمة لإسرائيل هو توطئة ومقدمة للحدث المنوه آنفاً.
8-   أن الحاخام المذكور تطرق في نهاية أغنية الحانوكاه إلى القول: “وعندما تكون قد أعددت الذبح للعدو المرتد، ثم سأكمل غناء الترنيمة: تفاني المذبح، ثم سأكمل غناء الترنيمة تفاني المذبح…، لو أن أحداً من المسلمين ذكر هذا (الذبح للعدو المرتد) في كلمة أو خطبة له لأقاموا الدنيا عليه ولاتهموه بالإرهاب وعدم التسامح…؟.

مما تقدم يبدو أن قرار الرئيس الأمريكي المسيحي البروتستانتي (دونالد ترامب) في 6 كانون الأول/ نوفمبر2017م الاعتراف بالقدس عاصمة للدولة اليهودية، جاء بعد مائة عام تقريباً من القرار الصادر عن وزير الخارجية البريطاني المسيحي البروتستانتي (آرثر بلفور) في 2 تشرين الثاني/نوفمبر عام1917م، الخاص بمنح أرض فلسطين لليهود، وكانت إسرائيل قد احتلت المسجد الأقصى في 7 حزيران/ يونيو عام1967م.

ثالثاً: الارهاب ديدن الصهيونية العنصرية

  لما كانت الصهيونية حركة عنصرية، واتخذت من الجانب العسكري الإرهابي هدفاً لها لتنفيذ مآربها؛ لذا فإن المجتمع «الإسرائيلي» الذي نجحت في إقامته في فلسطين عام 1948م مجتمعاً عسكرياً إرهابياً بامتياز، فإن السنوات الخمسين بين إنشاء «الحركة» عام 1897 وقيام «الدولة» 1948م كانت هي أيضاً فترة عمل عسكري يسير إلى جانب العمل السياسي والدولي وإنشاء المؤسسات وتأهيل الذات لمرحلة الدولة.

فمثلما أفرز الاستيطان اليهودي مستعمرات تتوزع بين نوعي الكيبوتز والموشاف، أفرز نوعاً ثالثاً عسكري الطابع، هو الناحال، وكانت الناحال مستوطنات خاصة بالجنود تتوزع مواقعها على الأماكن الإستراتيجية؛ أي أنها كانت قلاعاً حربية تحت عنوان مدني، وكانت بالتالي رديفاً وقواعد للنشاط الإرهابي والتخريبي ضد العرب المسلمين.

ومثلما أفرز الاستعداد الصهيوني مؤسسات للشباب تعمل للهدف الاستيطاني ودمج المهجرين إلى فلسطين، أفرز أيضاً مؤسسة «الجدناع»، وكانت أشبه بالجسر الذي يعبر به الصهيوني من موقعه المدني إلى موقعه العسكري داخل عملية التهيؤ للقتال من أجل إنشاء الدولة“.

غير أن البنية الحربية للحركة الصهيونية في عهد الانتداب تمثلت في المنظمات الإرهابية الصرفة، وإن كانت «الهاجاناه»، التي حملت صفة رسمية إلى حد ما وكانت علنية وتشكل جهازاً شرعياً في آلية التعاون البريطاني – الصهيوني لتحقيق «وعد بلفور»، وكذلك «البالماخ»، ذراعها العسكرية الضاربة تعمل تحت جناح الوكالة اليهودية مباشرة، وتأتمر بأوامر المنظمة الصهيونية العالمية التي كان «الماباي» (حزب العمل) فيما بعد يشرف عليها؛ أي أنها كانت تجلس في أحضان السلطة.

فإن منظمات إرهابية أخرى كانت تعمل تحت جنح الظلام وتفتك بالمواطنين العرب، وقد أتاح لهذه المنظمات الإرهابية غير الرسمية أن تتحرك بحرية وتبطش بشدة بمخطط جهنمي تفتقت عنه مخيلة القيادة الصهيونية (في المنظمة الصهيونية العالمية والوكالة اليهودية في فلسطين)، وهو أن يرخي العنان للمنظمات الإرهابية لتجول وتصول ضد العرب في السنوات العشر التي سبقت إنشاء «الدولة»، بينما تتنصل القيادة السياسية الرسمية المعترف بها المنظمة والوكالة من أعمالها ولا تكون مسؤولة إلا عن تصرفات «الهاجاناه»، وهكذا وزع النشاط بين المنظمات الإرهابية: الرسمي منها (الهاجاناه) يضرب بسيف الشرعية، وغير الرسمي وأبرزها «الأرغون وشتيرن» تتصرف على هواها وتبطش وتقتل دون وازع أو ضمير!

وبهذا الصدد لا يمكن نسيان الإرث الإرهابي للعقيدة الصهيونية الذي تمثل في هذه المنظمات «غير الشرعية» بقيادة منظرها فلاديمير جابوتنسكي (1880 – 1940م)؛ أحد أبرز القادة الصهيونيين الإرهابيين بعد هرتزل، وكان منافساً رئيساً لحاييم وايزمان (1874 – 1952م) الذي تولى قيادة المنظمة ما بين عامي 1905 و1948م، وكان الفارق الأساسي بين تلميذي ثيودور هرتزل (1860 – 1904م) معلمهما الأكبر، الوفيين له، كل منهما على طريقته أن وايزمان ومدرسته ومريديه أخفى نواياه العدائية والتوسعية والإرهابية تحت جبة النشاط السياسي والسعي الدبلوماسي، واستطاع بذلك أن يؤمن الحصول على براءة «وعد بلفور» في قسم من فلسطين، وأن يقيم صك الانتداب البريطاني على فلسطين على أساس الالتزام بتنفيذ الوعد أمام أكبر هيئة دولية (عصبة الأمم)، وأن يتبجح في استيراد جماعات كثيرة من المهاجرين اليهود الجدد ويقيم لهم المستوطنات والكيبوتزات ويحصل لهم على الأراضي والأموال والأعمال، وأن يؤسس للمجتمع اليهودي في فلسطين أيام الانتداب «دويلة إرهابية» داخل دولة.

أما جابوتنسكي، فكان لا يخفي نواياه العنصرية والإرهابية، ويكشف عن طموحاته التي لا حدود لها، ولا يقتنع بالمرحلية والتدرج في تحقيق الأهداف؛ أي أن الاثنين التقيا في الهدف واختلفا في نقاط التشديد وسلم أولويات هذا الهدف؛ ألبس وايزمان القوة جلباب السياسة، أما منافسه فألبس السياسة جلباب القوة، حملت يد وايزمان من أدوات الاتصال والتفاوض وأخفى أدوات الحرب في جيبه، وحمل جابوتنسكي السلاح في يده حتى وهو يجري اتصالات سياسية ويتفاوض، وركز وايزمان على فلسطين التاريخية في حدود الانتداب قاعدة للانطلاق، بينما انفتحت القاعدة شرقاً عند جابوتنسكي فشملت ضفتي نهر الأردن وما وراءه  حسب وعد التوراة!

وطبخ الرجلان طبقاً واحداً، إنما بمذاقين مختلفين، بسيطرة الحركة العمالية على المنظمة العالمية أيام الانتداب، وبدأ الاختلاف بين الطريقين نحو الهدف المشترك يتسع، وصار هناك غالب ومغلوب، فانشق جابوتنسكي عن المنظمة وأسس «المنظمة الصهيونية الجديدة»، وسماها أتباعه الكُثر «الحركة التصحيحية»، وسماها خصومه «الحركة التحريفية».

وما يهمنا هنا من هذا الصراع السلمي في غالبه بين الاتجاهين على امتداد عشرين سنة أن حركة جابوتنسكي كانت الخلفية التي انطلق منها الإرهاب «غير الرسمي» حتى عام 1948م، وأظهر جابوتنسكي من خلالها إعجابه الشديد ببطولات الأجداد في العهد القديم من التوراة في ذبح العمالقة أهل فلسطين القدماء وسكانها الأصليين بعد الغدر بالمصريين ومقاتلتهم والاستيلاء على ممتلكاتهم ومواشيهم ونسائهم بالقوة، والتعامل مع جيران فلسطين بالغطرسة، ودعا إلى إحياء تلك «البطولات» وممارسة تلك الأساليب الهمجية والوحشية من أجل الظفر بفلسطين من جديد! ودعا أيضاً إلى دراسة فنون الحرب والقتال عند اليهود القدامى بتعمق.

وكان جابوتنسكي معجباً، في الوقت نفسه، بزعامتي هتلر، وموسوليني، ولحق به مريدوه ينشئون له الآلية للتعبير عن هذه الشراسة والهمجية مقابل المحاولات السياسية التفاوضية الظاهرة النفاق التي كان حزب العمل (الماباي) يتبعها.

وتجدر الإشارة إلى أنه تحت سقف «الجابوتنسكية» قامت ثلاث أو أربع منظمات إرهابية، نسقت مع «الهاجاناه» سراً وانفردت جهراً بتحمل مسؤولية اعتماد الإرهاب سبيلاً إلى السلطة، وانبثق عن «المنظمة الصهيونية الجديدة» التي حلت نفسها في الأربعينيات وعاد رجالها إلى المنظمة الأم، أي الصهيونية العالمية، حزب سياسي رئيس هو حزب «الحيروت»، بزعامة الإرهابي مناحيم بيغن (1913 – 1992م)، انبثق عنه، فيما بعد، تكتل الليكود، وهكذا انتقلت القيادة الجابوتنسكية من مؤسسها إلى بيغن إلى شامير إلى نتنياهو؛ خط إرهابي يتعاطى السياسة، في مقابل الخط السياسي الذي يتعاطى الإرهاب من بن غوريون إلى إشكول إلى مائير إلى رابين إلى بيريز إلى باراك، خطان متوازيان وصفحتان لورقة واحدة.

تبدلت الحال، شكلياً، بعد قيام «الدولة» عام 1948م وانضمام المنظمات الإرهابية الأرغن وشتيرن إلى الجيش الصهيوني الذي كانت «الهاجاناه» قوامه الأساسي، فمثلما ورثت «الدولة» مسؤولية اليهود في العالم، وادعت تمثيلهم والنطق باسمهم وإدراك مصالحهم والاستيلاء على حقوقهم، ورثت أيضاً الجانب الإرهابي/ العسكري/ التخريبي/ العنصري من الحركة الصهيونية، وأصبحت هي المسؤولة عن قرار تنفيذه وإداء عملياته، وأصبح الإرهاب الصهيوني، كله، رسمياً، يدار من فوق، من أجهزة الدولة، علناً أو سراً، وهكذا لم يعد هناك، في العقود السبعة الأخيرة إرهاب رسمي وغير رسمي وشرعي وغير شرعي وإرهاب فئوي متعدد المسؤوليات، أصبح لدينا إرهاب واحد برأس وعقل وقرار واحد؛ إرهاب «دولة» هي دولة إرهاب واندمج مع «الدولة» واندماجه مع الحركة الصهيونية العنصرية.

من هنا كان تاريخ «إسرائيل» تاريخ حرب متواصلة وليس بين دول العالم المعاصر، أو بين المائة والتسعين دولة التي تنتمي إلى الأسرة الدولية، غير «إسرائيل» التي تاريخها هو تاريخ إرهاب وحروب متواصلة، هناك أنظمة عسكرية، وهناك دول تحارب، ولكن ليس هناك غير الدولة الصهيونية، من كانت العسكرية صفتها اللازمة والباقية في حالات الحرب والسلم، لقد قال بن غوريون، عند إعلان دولة «إسرائيل»: بالدم والنار“.

رابعاً: نتنياهو وتطبيق تعاليم التوراة المحرَّفة والتلمود في قتل أبرياء غزة

إن جرائم الحرب، وجرائم القتل العام، والإبادة البشرية، هذه المصطلحات ليست خاصة بعرق أو جنس معين سواء من القائمين بها (الظالمين) أو من المغدورين (المظلومين)، غير أن اليهود استطاعوا بجهودهم وضغوطهم الكبيرة على المجتمع الدولي لأسباب عديدة طيلة الثمانين عاماً التي مضت؛ استطاعوا بذكاء إلحاق كلمة النازية ومعاداة السامية بكل من تسول له نفسه الوقوف بوجههم بحق أو بغير حق، فمن ذكر جرائمهم التاريخية بحق الأنبياء الذين أُرسلوا إليهم لإنقاذهم من طيشهم ونزواتهم المريضة، أو من تعاليم التلمود والتوراة المحرفة التي تنادي بقتل كل أفراد الأمم والشعوب التي في وجه طموحاتهم التي ليس لها حدود، بمن فيهم الأطفال والنساء والشيوخ.

فعندما حدثت عملية «طوفان الأقصى»، في 7 أكتوبر 2023م، عدها «الإسرائيليون» «الهولوكوست الثاني!» الذي لحق باليهود بعد «الهولوكوست الأول» على يد ألمانيا الهتلرية في سنوات الحرب العالمية الثانية، وحاولوا جاهدين إلصاق كلمة النازية بالمجاهدين الفلسطينيين؟، لا سيما بعد تخطيهم الجدارالفاصل بين قطاع غزة والمستوطنات «الإسرائيلية» في غلاف غزة، وغيرها.

وبشأن حفل نوفا الموسيقي الذي كان يقيمه «الإسرائيليون» وحضره حوالي 4000 شخص من جنسيات غربية؛ أمريكية وبريطانية وألمانية وفرنسية وكندية وغيرها، وأثبتت التحقيقات «الإسرائيلية»، على لسان صحيفة «هاآرتس» أن مقاتلي «حماس» لم يكونوا على دراية بالحفل الآنف الذكر المقيم بالقرب من ديارهم في غزة، وأن عدداً كبيراً من قتلى الحفل من «الإسرائيليين» والأوروبيين قد قامت به حوامة «إسرائيلية»، وكل ما نشرته «إسرائيل» من فيديوهات ملفقة حول ما ألحقه المجاهدون الفلسطينيون بحق المستوطنين «الإسرائيليين» ثبت زيفها لدى الإعلام الغربي، التي كانت قد انطلت على بعض صانعي القرار الغربي من الأمريكيين والأوروبيين، ثم ثبت زيفها لديهم، ولكنه العناد والخوف من اللوبي اليهودي في بلادهم جعلهم لا يعترفون بذلك، رغم أنهم يعرفون في قرارة أنفسهم أن الإعلام «الإسرائيلي» ومن ورائه الإعلام الغربي يعرف الحقيقة المرة، حيث قدم العديد من هؤلاء الصحفيين استقالاتهم بسبب نشرهم مقالات ثبت فيها بطلان ادعاءات ومزاعم الكيان «الإسرائيلي»؛ لذلك أُجبروا على الاستقالة، والمثال على ذلك اثنان من كبار محرري صحيفة نيويورك تايمز.

فمن الناحية التاريخية بدءاً من عقد الثلاثينيات من القرن العشرين، ارتكب اليهود العديد من المجازر بحق الفلسطينيين قبل تأسيس الكيان العبري بدعم مباشر من سلطات الاحتلال البريطاني التي كانت تحتل فلسطين (1918 – 1947م)، مثل مجازر: مذبحة حيفا عام 1937م، مجزرة القدس 1937م، مجزرة حيفا 1938م، مجزرة القدس 1938م، مذبحة بلدة الشيخ 1947م.

وفيما بعد تأسيس كيانهم، فإن المجازر بدأت تتلو الواحدة تلو الأخرى لإرهاب الشعب الفلسطيني، وجعله يغادر بلاده إلى البلدان العربية المجاورة، كما حدث في مجازر: مذبحة دير ياسين عام 1948م، مذبحة قرية أبو شوشة 1948م، مذبحة الطنطورة 1948م، مذبحة قبية 1953م، مجزرة جنين، مجازر صبرا وشاتيلا في لبنان 1982م، مذبحة الأقصى الأولى 1990م، مذبحة الخليل 1994م، وغيرها التي لا تعد ولا تحصى، وآخرها المجزرة البشعة في غزة حالياً أكتوبر ونوفمبر 2023م أمام أنظار العالم الغربي المتحضر! وكأنما يحدقون في فيلم سينمائي!

أي بعبارة أخرى، إن المجازر وجرائم الحرب استمرت أكثر من 90 عاماً بحق الفلسطينيين من أيام الوكالة اليهودية، وفيما بعد على يد الكيان الصهيوني، وليس كما يردد البعض من محرري وصحفيي بعض الجرائد والمجلات العربية 75 عاماً.

لذا، نجد أن ما يحصل في «إسرائيل» عموماً هو التوجه نحو تنفيذ توراتي محرف وتلمودي للقتل الجماعي للعرب المسلمين في غزة والضفة الغربية، فيوثق الباحث والاكاديمي «الإسرائيلي» إسرائيل شاحاك، في كتابه «الديانة اليهودية وتاريخ اليهود»، هذا المنطق حين يكتب: «لكل هذه الشعوب يجب أن تباد إبادة كاملة الكنعانيين والميدانيين (سكان مَدين) والعمالقة»، ويكرر التلمود والأدب التلمودي هذا الحض التوراتي على الإبادة الجماعية بحماسة أشد من حماسة التوراة، ولقد استشهد أحد الحاخامات «الإسرائيليين» المهمين استشهاداً وقوراً بآيات توراتية تحض على الإبادة الجماعية للميدانيين من أجل أن يبرر مذبحة قبية. (المرجع السابق، ص 152 باللغة العربية، ص 91 باللغة الإنجليزية).

وتجدر الإشارة إليه أن الميدانيين والعمالقة (العماليق) من شعوب فلسطين القديمة المذكورة في التوراة التي أمرت الأحكام الدينية اليهودية بإبادتهم عن بكرة أبيهم، مع العلم أن العديد من حاخامات اليوم يعتبرون الفلسطينيين مثل العمالقة والميدانيين، وعن ذلك كتب الصحفي «الإسرائيلي» الفرنسي آمنون كابيليوك: ...قبل اتفاقيات أوسلو بوقت طويل كان هناك فاشيون مكافحون في جامعة بار إيلان (جامعة العلوم الدينية اليهودية)، ففي فبراير 1980م كتب الحاخام إسرائيل فيس، في صحيفة «بات كول» الطلابية مقالاً بعنوان «لإبادة الجماعية في التوراة»، قال فيه: إن العرب هم من سلالة العمالقة الذين قالت التوراة: إنه على اليهود إبادتهم كلياً..”.

وفي هذا الصدد، هناك رسالة استفتاء من جندي يهودي في جيش الكيان الصهيوني، وجوابها من الحاخام شمعون وايزر: يقول السائل الجندي موشيه: «.. في إحدى المناقشات التي جرت في مجموعتنا، دار نقاش حول طهارة السلاح، وبحثنا فيما إذا كان مسموحاً لنا بقتل رجال غير مسلحين -أو نساء وأطفال- أو ربما إذا كان علينا الانتقام من العرب؟ ثم أجاب كل واحد منا بحسب فهمه للأمر، ولكنني لم أستطع التوصل إلى قرار واضح، وما إذا كان ينبغي أن يعامل العرب مثل العماليق؛ أي أنه مسموح للمرء بقتلهم حتى تمحى ذكراهم تحت السماوات، أو ربما كان على المرء أن يفعل كما يحصل في الحرب العادلة التي يقتل المرء فيها الجنود فحسب؟»، فكان جواب الحاخام شمعون باختصار: «بعون السماء، عزيزي موشيه، تحيات، أفضل الأغيار أقتله، أفضل الأفاعي اسحق نخاعها»، بقية الفتوى استدلالات من التلمود وأقوال الحكماء القدامى من الهالاخاه (النظام القانوني لليهودية).

رد الجندي موشيه: إلى المحترم حاخامي العزيز، أما بالنسبة للرسالة فقد فهمتها كما يلي: في زمن الحرب ليس مسموحاً لي فحسب، ولكنني مأمور بأن أقتل كل عربي أصادفه، رجلاً كان أم امرأة، إذا كان هناك سبب للخوف من كونهم يساعدون في الحرب ضدنا، إن بطريقة مباشرة أو غير مباشرة.

ولكننا لن نتطرق لدى بحثنا لهذا الحكم الحاخامي من الناحية الحقوقية، ولا من الجانب الأخلاقي، وإنما من الطريقة اللغوية التي استخدمها النص حيث يقول: «اسحق نخاعها»، فلماذا هذه الدموية الحاقدة؟ وأين هو نص مشابه في أية ديانة من ديانات العالـم من مصر إلى بلاد الشام إلى البابليين إلى الهند والصين إلى حضارات أمريكا الوسطى والجنوبية بل إلى جميع أنحاء البشرية؟ وما طبيعة المؤسسات التي تستخدم هذه التعابير الاستفزازية الوحشية في تعاملها مع بني الإنسان؟ ترى هل نلاحظ الربط المتعمد بين الأفاعي السامة المغضوب عليها من الله، حسب سفر التكوين في التوراة، الإصحاح الرابع، والأغيار؟

ويقول أيضاً: ويكرر التلمود والأدب التلمودي هذا الحض التوراتي على الإبادة الجماعية بحماسة حتى أشد من حماسة التوراة.. ومن المألوف في الواقع أن تلقى في جنود الاحتياط الذين يجري استدعاؤهم لدورة خدمة في قطاع غزة، محاضرات تثقيفية يقال لهم فيها: إن فلسطينيي غزة يشبهون العماليق، ولقد استند أحد الحاخامات «الإسرائيليين المهمين» إلى آيات توراتية تحض على الإبادة الجماعية، وقد أحرزت هذه الفتوى تداولاً واسع النطاق في وسط الجيش «الإسرائيلي»، وهناك أمثلة مشابهة كثيرة، على التصريحات الحاخامية المتعطشة للدماء، المناهضة للفلسطينيين التي تستند إلى هذه القوانين“. (المرجع السابق، ص 152) يعني قوانين (الهالاخاه).

ويتابع هذا الحاخام فيقول: «وسيأتي اليوم الذي يُطلب منا جميعاً الانطلاق في هذه الحرب المقدسة لإبادة العمالقة العرب، وفي هذه الحرب لن يكون هناك رأفة، فواجب القتل والإبادة يشمل حتى الرضع، فالعمالقة يحاربون شعب الله» (كابيليوك، كتاب عن مذبحة صبرا وشاتيلا، ص157). ويبدو أن الحاخام في دعوته القاتلة يستند إلى النص التوراتي الذي يقول: «.. فمتى أراحك الرب إلهُك من جميع أعدائك حولك في الأرض التي يعطيك الربُ إلهُك نصيباً لكي تمتلكها تمحو ذكر عماليق من تحت السماء لا تنس» ( تثنية 25: 19).

وعلى هذا الأساس، تعتبر المذابح الجماعية كما في دير ياسين وكفر قاسم وقانا وقبية وحالياً (غزة بصورة بشعة) عملاً مشروعاً، بل إنه تنفيذ لمشيئة رب اليهود، ومن يتابع الأحكام التي أوقعت بمرتكبي تلك المجازر يجد أنها برأت بعضهم وحكمت على بعضهم الآخر بأحكام تستدعي الابتسام أكثر من كونها عقاباً، لقد وصل إلى علمنا بأن من يُحكم عليهم بالسجن لقتلهم فلسطينيين يعاملون معاملة متميزة تعوضهم عن كل أذى لحقهم، بل تجعل أيام سجنهم رحلة إلى الجنة لكثرة الدلال والترفيه.

وهذا من جملة شواهد كثيرة لا تحصى، تؤكد أن مجتمع الكيان الصهيوني يظهر بصورتين متناقضتين، صورة للعالم الخارجي حيث يقيم مؤسسات ديمقراطية، ويتبنى ما يسمى بالبنية العصرية للدولة، ويتبجح بالإيمان بالتعددية تلك الفكرة الغربية الكاذبة والمخادعة، والصورة الأخرى داخلية حيث يؤمن ذلك الكيان، وعلى أعلى المستويات السياسية -حتى رئيس الوزراء نتنياهو السفاح- يؤمن بخرافات ما يسمى الحكماء القدامى الذين وضعوا أصول «الهالاخاه»، ويشبه هذا الخداع اليهودي، إلى حد كبير، خداع العالم الغربي عندما يتبنى العلمانية الليبرالية والديمقراطية والتعددية، وحقوق الإنسان الذي تحدده وترعاه مبادئ الأمم المتحدة، ستاراً يخفي وراءه التعصب الديني المتحالف مع الصهيونية ضد الإسلام والمسلمين.

وعلى أي حال، فيزعم نتنياهو، في تصريح له في سياق الحرب الحالية على غزة، أنَّ الجيش «الإسرائيلي» هو أكثر جيش أخلاقي في العالم؛ فهو يفعل كل ما في وسعه من أجل تجنّب إيذاء غير المتورّطين في الحرب، واتهم هؤلاء الذين يجرؤُون على اتهام جنودنا بارتكاب جرائم حرب بأنهم مشبّعون بالنفاق والأكاذيب، ولا يمتلكون ذرّة من الأخلاق! وكان من اللافت أن برونو ريتايو – قُدم على أنه باحث ومجند «إسرائيلي» سابق– قد طالب بوقف إطلاق صواريخ تحذيرية لسكان غزة؛ لأنه لا يوجد سكان في غزة، وإنما نحو 2.5 مليون إرهابي بزعمه، وهو ما تكرّر على لسان أكثر من «إسرائيلي» بالصوت والصورة!

تقدّم «إسرائيل»، إذن، سواء من خلال خطابَيها الديني والسياسي، أم من خلال ممارساتها الفعلية في الحرب على غزة، نموذجًا فجًّا للتوحّش الذي يدّعي في السياق اليهودي استعادة قيم التوراة، ويزعم في السياق الدولي أنه لا يخالف القانون الدولي والإنساني. ورغم أن الأحكام والتقويمات الأخلاقية بحاجة دومًا إلى تعليل وتسويغ، وأن سلوك الدول والأفراد هو محلّ للمساءلة النقدية والتقويمية؛ فإنَّ السمة الأساسيّة للخطاب «الإسرائيلي» هي أنه هو نفسه المعيار، ولا يخضع لأي معيار، بل يُقدم نفسَه على أنَّ أخلاقيته من الوضوح بحيث لا تقبل النقاش.

‎ٲ.د. فَرسَت مرعي

د.فرست مرعي اسماعيل مواليد ۱۹٥٦ دهوك ٲستاذ التاريخ الاسلامي في جامعة دهوك له ۲۱ كتابا مؤلفا باللغتين العربية والكردية ، و٤۰ بحثا ٲكاديميا في مجال تخصصه

‎ٲ.د. فَرسَت مرعي

د.فرست مرعي اسماعيل مواليد ۱۹٥٦ دهوك ٲستاذ التاريخ الاسلامي في جامعة دهوك له ۲۱ كتابا مؤلفا باللغتين العربية والكردية ، و٤۰ بحثا ٲكاديميا في مجال تخصصه

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً