المقالات

هل تفاجأ العلماء بعدم وجود “جين المثلية الجنسية”؟

شادي عبد الحافظ

 

حسنا، حينما نقرر التحدث عن “المثلية الجنسية” فلا بد أننا أقرب ما يكون لمركز واحدة من أقوى السجالات الثقافية التي تجري الآن على مختلف المستويات، الدينية والسياسية والعلمية والعامة، فمنذ اللحظة الأولى التي ظهرت فيها نتائج دراسة(1) أخيرة من دورية “ساينس” المرموقة تقول إن الجينات، كما يبدو، يمكن أن تؤثر فقط بنسبة يسيرة في “السلوك الجنسي المثلي”، حتّى انطلق الكثيرون ليقولوا كلمتهم في تلك “النتائج المهمة”.

بحسب الدراسة، فإنه لا يوجد جين محدد يمكن له أن يُعبّر عن “المثلية الجنسية”، كما اعتقد بعض العلماء في السابق، ولكن وُجد أن هناك خمسة جينات رئيسية مع عدد هائل من الجينات الأخرى يمكن أن تشارك جميعها في التوجه الجنسي المثلي بالنسبة التي تقع فقط(2) بين 8-25%، مع إضافة أنه حتى تلك الجينات الخمسة لم تتمكّن من تمثيل أكثر من 1% فقط من السلوك المثلي، وبالتالي فإنه لا يمكن لنا، عبر الجينات، أن نميز الشخص المثلي. من تلك الوجهة، فإن الجينات -في النهاية- ليست الطرف الرئيسي في تحديد التوجه الجنسي.

مفاجَأة غير مفاجِئة!

للوهلة الأولى قد تظن أن تلك النتائج مفاجئة للغاية، وأن الوسط العلمي لا بد أنه قد انقلب رأسا على عقب لأن العلماء طالما اهتموا بتأييد التوجه القائل إن “المثلية الجنسية” لها جذور جينية بالكامل، لكن في الواقع فإن ذلك ليس صحيحا، أنت فقط تتحدّث عن الصورة التي صُدّرت إليك أثناء حالة واسعة من الجدل استمرت على مدى عقود عدة. لفهم تلك النقطة يمكن أن نبدأ من العام 1991، حينما قام(3) مايكل بايلي ورفاقه من جامعة نورثويسترن بمحاولة متوقّعة لفهم طبيعة “السلوك المثلي الجنسي” لدى البشر.

حجة العلماء هنا بسيطة وتبدو قوية، تقول إنه طالما نعرف أن هناك سلوكا مشابها في أنواع عدة من الحيوانات فإن ذلك سيعني ارتباطا جينيا لا شك، هنا تظهر أشهر أنواع التجارب التي تفحص هذا النوع من الارتباط الجيني، وهي تجارب التوائم، لأنهم الأقرب في جيناتهم لبعضهم بعضا، فإذا أظهرت العينة، والتي من المفترض أن تكون عشوائية بالطبع، ميلا ناحية التشابه في التوجهات الجنسية فإن ذلك يعني طابعا جينيا للأمر.

جاءت نتائج(4) تلك التجارب لتقول إن ما نسبته 52% من التوائم المتطابقة (من البويضة نفسها) و22% من التوائم المختلفة (من بويضتين مختلفتين) أظهر ميولا جنسية متشابهة، ما أعطى انطباعا بأن المثلية الجنسية قد يكون لها طابع جيني، وبسبب أن عيّنة بايلي ورفاقه كانت صغيرة، حاول الفريق إجراء فحوص شبيهة على أعداد أكبر من المتطوعين، نحو 5 آلاف توأم هذه المرة، لكن النتائج جاءت لتقول إن النسبة لم تتخطَّ 20-24% فقط.

منذ اللحظة الأولى التي بدأت فيها الأبحاث التي تفحص العلاقة بين المثلية الجنسية والجينات لم تصل أي دراسة إلى تأكيدات قاطعة بوجود دور شامل للجينات في المثلية الجنسية

رويترز

تجارب أخرى أعلنت نِسَبًا أقل من تلك التي عرضناها أعلاه، وقد واجهت تلك الآلية انتقادات عدة كان أهمها هو أن التوائم ذوي الميول المثلية أكثر ميلا للخضوع لتلك الأنواع من التجارب من التوائم غير ذوي الميول المثلية، ما يعني تحيّزا في التجربة قد يعطي نِسَبًا خاطئة، أما في العام 2010 فقد توصل فريق بحثي(6) بريطاني سويدي مشترك إلى نتائج أخرى مثيرة للانتباه، حيث كانت درجة تأثير الجينات موجودة بالفعل، لكنها كانت تقريبا نصف درجة تأثير البيئة الخاصة بالفرد، ونقصد هنا الظروف الخاصة بشخص بعينه وليس البيئة المشتركة التي عاش بها مع إخوته، أشياء كتعرّضه لمرض ما، أو خبراته الجنسية على مدى تاريخه.

بالنسبة لك، ربما تكون تلك النتائج مفاجئة، فقد تعوّدت أن تسمع من الجماعات الحقوقية والسياسية التي تدعم “حقوق المثليين” خطابا يقول إن الأمر جينيّ بحت، وإن العلم قد قال كلمته في هذا النطاق، لكن هناك في الحقيقة خلط -ربما متعمّد- بين أمرين، الأول هو التوجه القائل إن المثلية الجنسية هي أمر ليس اختياريا، والثاني هو التوجه القائل إن المثلية الجنسية توجد في الجينات. في الواقع، فإنه منذ اللحظة الأولى التي بدأت فيها تلك الأبحاث التي تفحص العلاقة بين المثلية الجنسية والجينات لم تصل أي دراسة إلى تأكيدات قاطعة بوجود دور شامل للجينات في المثلية الجنسية.

معركة الكروموسومات

يمكن في تلك النقطة أن نعود مرة أخرى إلى التسعينيات من القرن الفائت، تحديدا حينما ظهر اصطلاح “جين المثلية”، وكانت تجارب دينيسي(6) هامر ورفاقه في العام 1991 قد أشارت إلى وجود علاقة إحصائية بين مثليي الجنس وأخوالهم، ما يعني أنه قد يكون لجانب الأم علاقة بالمثلية الجنسية، أدّى ذلك إلى اختبارات متقدّمة لفحص الكروموسوم (X)، لكن لِمَ قرر الباحثون فحص تلك المنطقة تحديدا من كل جيناتنا؟

الكروموسومات(7) هي -ببساطة شديدة- الطريقة التي يتجمع بها الحمض النووي الخاص بنا، والذي يحمل جيناتنا التي تحدّد صفاتنا كلون العينين والشعر مثلا، ولفهم الفكرة تخيل أن لديك خيطا طويلا جدا جدا تود أن تجعله أقصر، هنا سيكون أفضل الحلول هو أن تقوم بلفّه حول نفسه ليتجمع في مساحة صغيرة، الكروموسومات كذلك، فالحمض النووي الخاص بنا، والذي يوجد في كل خلية، طوله قد يصل إلى ثلاثة أمتار، الكروموسومات هي الطريقة التي يلتف بها هذا الخيط حول نفسه، يوجد منها 23 زوجا تجمع كل صفاتنا، الكروموسوم X تحديدا هو واحد من كروموسومين يحددان الجنس في الإنسان، الآخر هو (Y). في الذكور، الكروموسوم (X) ترثه من الأم، والكروموسوم (Y) ترثه من الأب.

هنا جاءت النتائج(8) لتقول إن هناك تشابها، بنسبة أكبر من المتوقع، بين المثليين جنسيا في علامات جينية على منطقة من الكروموسوم X تُسمى Xq28، في تلك النقطة تحديدا ظهر اصطلاح “جين المثلية”، في إشارة إليها. ورغم أن العينات الخاصة بتلك التجارب كانت صغيرة، وكذلك جاءت بعض النتائج الأخرى التي تتعارض معها، كذلك فإن تجارب أخرى قد وجدت ارتباطا مع مناطق مختلفة من الحمض النووي، فإن اصطلاح “جين المثلية” كان قد وجد طريقه لساحة النقاش العام دون أي تطرق للتعقيدات العلمية التي تصحب هذا النوع من التجارب.

في الواقع، كانت الجماعات الحقوقية وجماعات الضغط السياسي المُهتمة بشؤون “المثلية الجنسية” في حاجة إلى دليل قوي يؤيد توجّهاتهم ويخفف من رفض الجمهور لتلك الأفكار(9)، فكلمة “جين” لها تأثير السحر على الجمهور، حيث إنه طالما يوجد في الجينات، فالأمر محتوم، وعلى الرغم من أن تلك معلومة خاطئة من الأساس، فإن البعض استغلّها على أي حال.

عند هذه النقطة يمكن أن نتأمل الكثير من التصريحات، في التسعينيات من القرن الفائت والعقد الأول من الألفية، من قِبل بعض العلماء المنخرطين في هذا النطاق البحثي، أمثال بايلي وهامر أنفسهم، والتي أشارت(10) إلى أن دليل التشابه الجيني، حتّى إن ثبت وجوده، لا ينبغي مساواته بالحتمية الجينية، وذلك لأن الجوانب الوراثية ليست سوى أحد الأسباب المتعددة المحتملة للمثلية الجنسية، بالتالي فإن ما كنت تسمع عنه، عبر صفحات وسائل التواصل الاجتماعي على سبيل المثال، كان إشارة إلى أعمال بحثية غير مكتملة.

بل وكانت بعض الجماعات اليمينية(11) قد أخذت الفكرة نفسها من منظور آخر، حيث تحدّث البعض عن إنه إذا كنّا قد وجدنا “جين المثلية الجنسية” فإن الأمر قد انتهى وهلمّ لنبتكر طريقة لاستئصاله من جينات الأجنة المثلية أو الترحيب بعمليات إجهاضهم بينما ما زالوا في بطون أمهاتهم، وكان على كلٍّ من هامر وبايلي، من حين لآخر، توضيح أنه لا يوجد ما يمكن أن نسميه “اختبار المثلية” والذي سيسحب نقطة دم واحدة منك ليقول إن كنت مثليا أم لا.

توقعات إحصائية

إذا تأمّلت قليلا، على درجة من القرب، هذا النطاق البحثي، فلن تجد أكثر من توقّعات إحصائية. على المستوى العملي الدقيق، فإن هذا النوع من البيانات الإحصائية مفيد للغاية كإحدى خطوات إعطاء تفسير نهائي لمشكلة ما، لفهم تلك النقطة يمكن أن نتأمل الجين “SLITRK6” على الكروموسوم الثالث عشر، وكانت دراسة(12) في العام 2017 قد وجدت علاقة بالمثلية الجنسية، اهتم العلماء بتلك العلاقة لأن هذا الجين مسؤول عن تركيب منطقة من الدماغ يوجد بها الهايبوثلاموس، وقد وُجد أنه يختلف في هيئته بين المثليين والمغايرين جنسيا، كذلك فإن نِسَبًا أكبر من الطبيعي من المثليين جنسيا يصابون بداء جرافيز أو “الدراق الجحوظي” وهو مرض متعلق أيضا بمشكلات في تلك المنطقة من الدماغ، وهكذا يحاول العلماء تلمّس الخطوط الممكنة شيئا فشيئا، بعض تلك الخطوط يصل إلى طريق مسدود، وبعضها يستكمل طريقه، والدراسة الأخيرة لم تكن إلا استكمالا للخطوط التي مضت على مدى عقدين من الزمن.

إننا لا نعرف بعد أسباب هذا النوع من الميل الجنسي، وما تؤكده الدراسة الأخيرة هو أن الحتمية البيولوجية هي وهم كبير

رويترز

ما يفعله العلماء إذن يختلف عما يفعله النشطاء السياسيون (من الجهتين: المؤيدة والمضادة)، أضف إلى ذلك أن هناك دائما، في هذا النوع من التجارب تحديدا، الكثير من المحددات التي لا تُذكر في أحاديثنا العامة، خذ مثلا الدراسة الأخيرة، حيث تمتلك هذه الدراسة نقطة قوة أساسية، فقد أُجريت على نحو نصف مليون شخص، لكنها تواجه مشكلات في طبيعة العيّنة (معظمهم من أصول أوروبية)، وطبيعة التوجهات الجنسية (المتحوّلون جنسيا على سبيل المثال لم يكونوا ضمن القائمة)، وفي النهاية فإن باحثي الدراسة أنفسهم قد وضعوا تلك المحددات في أوراقهم البحثية.

بالتالي، فإن من الملومين على تلك الموجة الشاسعة من الجدل حول الدراسة الأخيرة، هي الجماعات الحقوقية والسياسية التي طالما روّجت لأمر المثلية الجينية كحتمية جينية، وفي المقابل جاء الرد من التوجهات المضادة للمثلية الجنسية، لكن الأبحاث العلمية الرصينة في هذا النطاق لم تجرؤ أبدا على الزعم بوجود حتمية جينية، في الواقع فإن النتيجة الأساسية للدراسة الأخيرة هي نوع من الرسو على النسبة التي ربما تتفاعل بها البيئة مع الجينات في تحديد هذا السلوك. فمنذ التسعينيات، هناك ميل بالأساس للقول إن نسبة التفاعل بين البيئة والجينات تميل ناحية البيئة.

أضف إلى ذلك أن هناك فهما خاطئا لكلمة “بيئة” في النقاش العلمي الدائر حول تلك القضية، فهي تعني محددات بيولوجية أيضا لكنها ليست جينية، تبدأ من تغيرات الهرمونات الخاصة بالأم أثناء الولادة وقبلها، وكذلك التغيرات الحادثة في الدماغ أثناء الطفولة، والتعرض لأمراض بعينها، والتجارب الجنسية المبكرة، وصولا إلى التأثيرات الخاصة بثقافة المجتمع نفسه، لكن في النهاية، فإننا لا نعرف بعد أسباب هذا النوع من الميل الجنسي، وما تؤكده الدراسة الأخيرة هو أن الحتمية البيولوجية هي وهم كبير تم الترويج له على مدى عقود عدة.

سەنتەری زەھاوی

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً