المقالات

تٲملات في العلاقة التاريخية بين الفقه والحديث

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه

وبعد:

إن التعمق في بداية تدوين السنة وظهور الكتب الفقهية الحديثية يرشدنا إلى أن الحديث وحده لم يكن مطلوبا بحد ذاته، وأن أحاديث الأحكام التي بني الفقه عليها قد حظيت بالأخذ والحفظ والنجاة أكثر من غيرها، لما كان عليه الحياة العملية التعبدية والمعاملاتية في بداية التدوين المؤيدة لتلك الروايات.

فلو نظرنا إلى الكتب التي دونت في بدايات تدوين السنة وإلى رجالات الفقه الحديثي نرى أن كتبهم مبنية على حقل الأحكام العملية أكثر من غيرها من الحقول، وقد ثبت أن أول من صنف في الحديث هوعبد الملك ابن جريج (المولود في سنة خمسين للهجرة والمتوفى سنة مئة وخمسين ) الذي روى الشافعي عن تلاميذه أكثر رواياته الحديثية الفقهية، وكذلك الإمام أحمد، وكان له كتابان (الجامع) و(السنن) وكانا قيد التداول حتى القرن الرابع حيث اطلع عليه ابن النديم صاحب كتاب الفهرست في القرن الرابع، وقال عن كتابه السنن: “ ويحتوي على مثل ما يحتوي عليه كتب السنن مثل الطهارة والصيام والصلاة والزكاة وغير ذلك“. فالناظر إلى هذه العبارة يتبين له بأن كتب الحديث آنذاك كانت مشتملة على هذه الأحكام. وكذلك الموطأ نرى أن كل كتبه وأبوابه لا يخرج عن المواضيع الفقهية سوى جزء يسير منآخر كتابه الذي خصصه بالمرويات المتعلقة بالقدر والشعر وحسن الخلق والرؤيا وغيرها وعلق عليها.

    ويفيدنا هذا الواقع في المرويات في العصور الأولى بأن الحديث لم يكن مطلوبا ألفاظه وحروفه بل فقهه و روحه ومعانيه، أما القرآن فقدركز الصحابة ومن بعدهم – مع كل ذلك -على حفظ دقة ألفاظه وقراءته كما نزل..

إن ظهور أصحاب الحديث في القرن الثالث كأمثال الإمام أحمد والبخاري و مسلم وابي داود والترمذي وغيرهم كان تقدما ملحوظا في الجمع المنظم والتدوين والتأليف المرتب، وكان يظهر على أبواب هذه الكتب آثار الفقه، ومبين عليه تأثير الفقهاء ومدارسهم ومذاهبهم حينذاك. كذلك لا تخلو أكثر هذه الكتب من الاعتبارات والتحليلات والجمع بين الروايات وأحوال ورودها، فمثلا نرى البخاري قد يأتي في بداية الباب بحديث مشكل، ثم يأتي بروايات مبينة للرواية الأولى وذلك لما اشتمل عليه سبب الورود أو الحادثة الملصقة بها، وقد يأتي بألفاظ أخرى للرواية يبين حالة الرواية والراوى وكذلك حال الرسول صلى الله عليه وسلم عند النطق به.

وكان من ترسبات الحضارة والتقدم في العصر العباسي الأول- مع ما كان لها من فضل على العلوم- تمييز الحقلين الحديثي والفقهي ثم الفقهي والأصولي بصورة متكاملة، فقد دونت كتب فقهية خالية من الحديث كما دونت كتب حديثية صرفة دون الإشارات الفقهية والإستنباطات والإجتهادات، مما تأثر سلبا على كلا الحقلين.

وفي عصور التقليد جعل من المحدثين حزبا يواجهون أهل الأصول والعقل فتركوا أحسن ضابط للتعامل مع متون السنة ألا وهو عرضها على القواعد الكلية المثبتة بالقرآن الكريم و السنن الكلية الصحيحة و تبنوا مرويات تحتاج إلى مراجعات دقيقة في أسانيدها ومتونها، وأثبتوها في كتب الحديث ومصنفاتها.

ولم يكن حال الفقهاء في عصور التقليد أحسن منهم حيث تركوا الرواية وتبنوا أقوال رؤس المذاهب وأئمتها وجعل بعضهم أقوال أولئك الأئمة مثل نصوص الشارع يدخلها التعارض والترجيح والنسخ وما إليها، حتى جعل بعضهم السنن شواهد على صحة أقوال أئمتهم وإن كانت الرواية ضعيفا، وما كان مخالفا من أقوال الأئمة للحديث تركوا الحديث وأوله. وقول الكرخي مشهور في هذا المجال .

تكمن مشكلة الدارسين للأحاديث في العصور المتأخرة أنهم لم يفرقوا بين أفعال الرسول وأقواله ومكان وزمان ورود الحديث وما كان مطلوبا وما كان خاصا بالرسول صلى الله عليه وسلم أو بواقع خاص. بينما نجد الفقهاء ورؤس أصحاب المذاهب و شيوخهم حتى القرن الثالث الهجرى يعطون هذه المسائل حقها، فقد يتركون روايات حديثية صحيحة عندهم ولا يعملون به معللين بهذه الأحوال وغيرها ونجد كثيرا أن الإمام أبا حنيفة ومالك قد تركا أحاديث صحيحة من حيث السند ولم يعملوا بها لتلك الإعتبارات.

والناظر إلى الأصوليين يرى أنهم قد أولو اهتماما كبيرا لبيان ضوابط منهجية للتعامل مع الروايات الحديثية، فما من مدرسة أصولية إلا ولها ضوابط في قبول متن روايات الحديث حيث لا مجال لسرد ضوابطهم وبيان أمثلتهم لنقد بعض الروايات حسب ضوابطهم..ربما نستطيع الإشارة إلى بعضها في ثنايا المناقشات.

الذي بين أيدينا في هذا العصر مدونات حديثية ضخام، واجتهادات فقهية مستنبطة من تلك الأحاديث، والأهم من ذلك كله قواعد كلية مبنية في التعامل مع هذه المرويات حسب اختلاف المذاهب، وباختصار بين أيدينا تراث كثير ودراسات وفيرة حول السنة والفقه والأصول.

والمطلوب من الدارسين والباحثين في هذا العصر هو القيام بنقلة ابستمولوجية حظارية بالسنة، وكذلك تحديد التوقع المعياري من السنة، لا التأصيل مرة أخرى حول اختراع الضوابط الجديدة أو رفض الجهود السابقة في هذا المجال، فالسنة موجودة والدراسات حولها موجودة فلابد أن نوظفها مرة أخرى فقهيا – لا أن نوظف الفقه حديثيا –.

    فلابد إذن من التفكير داخل السنة ودراساتها من كونها دخلت فيه أقوال غير الرسول صلى الله عليه وسلم فلابد من إعادة قراءتها بضوابطها المتبعة قبل عصر التقليد،  ومن خارجها أيضا من فرظية أنها وحدة متكاملة صدرت من شخصية عظيمة يستحق الإجلال والتحفظ في تعاطيها.

    والأهم من ذلك كله فإن إعادة توظيفها على أساس أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان له أكثر من دور في حياته، فقد كان رئيسا للدولة و كان قاضيا و كان زوجا و أبا وواعضا .. إلى غير ذلك من الأدوار، فكل رواية من رواياته لو  وظفناه في حقله الخاص وحال الرسول فيها عند النطق بها لاستفدنا كثيرا من بيان روح الأحكام والمرويات، ولخرجنا من أكثر الإشكالات التي تعيق حركة التعامل مع المرويات في مختلف العصور.

وأخيرا ينبغي أن لا نخاف من نقد الحديث وظهور مدارس أخرى لدراسة المتن، فالنقد قد بدأ من الصحابة . كما أدعو كما دعى إليه الشيخ محمد الغزالي في التسعينات: ” أن نقوم بتوثيق الروابط بين الأحاديث الشريفة ودلالات القرآن القريبة والبعيدة، فلن تقوم دراسة إسلامية مكتملة ومجدية إلا بالأمرين معا

د.حسین محمد ئیبراهیم

اترك تعليقاً