الٲخبار

الكبالا- التصوف اليهودي

ودوره في ظهور الحركات الهدامة في أوروبا

أ.د. فرست مرعي

عضة الهيئة العامة لمركز الزهاوي

    الكبالا اتجاه صوفي ذو شعبتين نظرية تأملية وعملية سلوكية، وهو يعتمد في مفرداته على الجمع والتلفيق من مذاهب الحروفيين في تقديسالأعداد والحروف، ومذاهب الفيضيين القائلين بالكشف والإشراقوالإلهام، مع حنو إلى طريقة الملامتية في الدعوة إلى نبذ مطالب الحياةالجسدية والتنكر لها واللامبالاة بما قد يتعرض لها الصوفي السالك منإهانة وتحقير، والدعوة إلى سلوك طريق التطهر والتزكية بإدامة الذكروإدمان التفكير والاستغراق في الذات الإلهية.

يدعي الكباليون أن فلسفتهم قديمة قدم البشرية، وأنها بدأت مع آدم عليهالسلام نفسه، ثم نقلت عنه إلى نوح عليه السلام، ثم إلى النبي إبراهيمعليه السلام الذي يقولون إنه تأمل في عظمة ومعجزة الوجود الإنسانيوبنية الكون وعمل قوانين الطبيعة فظهر له العالم الأعلى من خلال الوحيوالإلهام، فقام بنقل جزء من أسرار هذه المعرفة إلى أتباعه الذين نقلوهابدورهم شفهيا عبر الأجيال، كما كان كل معلم يضيف براهين تجربتهالشخصية.

ويؤمن المسلمون واليهود بأن النبي موسى( عليه السلام) تلقى التوراة عنربه في جبل الطور بسيناء، لكن الكباليين زعموا أنه ذهب إلى الجبل ثلاثمرات، مدة كل منها 40 يوما، حيث تلقى في الأولى نصوص الشريعةالظاهرية التي تم تدوينها في التوراة ويتم تعليمها للعوام من بنيإسرائيل، وفي الثانية تلقى روح الشريعة التي يتعلمها الأحبار(الحاخامات)، أما الثالثة فتلقى فيها روح روح الشريعة، أي الأسرارالخاصة بعلماء الكبالاه، ويزعمون أن موسى أخفاها في النصوص ولايتم فهمها إلا باستخدام شفرات معينة وعبر التأمل الخاص.

وخلال تعرض اليهود للسبي البابلي 586 – 578ق.م، نُسبت إلى النبيحزقيال رواية وردت في سفر يحمل اسمه، حيث تقول إنه رأى رؤيا عنصعوده إلى السماء تمكن فيها من رؤية الإله على عرشه،{ كَانَ فِي سَنَةِالثَّلاَثِينَ، فِي الشَّهْرِ الرَّابعِ، فِي الْخَامِسِ مِنَ الشَّهْرِ، وَأَنَا بَيْنَ الْمَسْبِيِّينَعِنْدَ نَهْرِ خَابُورَ، أَنَّ السَّمَاوَاتِ انْفَتَحَتْ، فَرَأَيْتُ رُؤَى اللهِ}. فاستفادالكباليون من هذه القصة لابتكار عقيدة رؤية الإله والاتحاد فيه، وفي عام٥۸٦ ق.م بدأوا بتدريس الكبالا ضمن مجموعات صغيرة من التلاميذ.

وعندما سيطرت الدولة الرومانية على أرض فلسطين واضطهدوا بنيإسرائيل عادت الكبالا إلى السرية. ويقولون إن الحاخام (شمعون بنيوحاي) والملقببالراشبي بدأ مرحلة جديدة عام 150م، حيث اختفىفي كهف لمدة 13 سنة بعد أن تعرض أستاذه عاكيفا وزملاؤه للقتل منقبل الرومان، ثم خرج الراشبي ومعه كتاب الزوهار زاعما أن النبي إيليا(إلياس) عليه السلام ظهر له خلال اعتكافه وأملاه عليه كلمة كلمة، كمازعم أنه طبّق ما أملاه عليه بنفسه وترقى إلى أعلى درجات العالم الروحيمتخطيا كافة درجات السلّم البالغ عددها 125 التي وضعها الإله، والتيبإمكان الإنسان إحرازها في هذا العالم.

وترتد حركة الكبالا في أصولها وجذورها إلى المآثر اليهودية الخاصةبالمركبة الإلهية، إلى بلاد بابل، إذ المعتمد عند مؤرخة الفكر الديني عنداليهود أن تعاليم الكبالا، بخاصة في جوانبها العملية السلوكية كانت قدنفذت إلى أوروبا من قبل صوفي عراقي الأصل والنشأة هو (أبو هارونبن صموئيل)، من مدعي الخوارق والكرامات والنزعات الباطنية المنتشرةفي الشرق، الذي هاجر إلى إيطاليا ونشر تعاليمه بين أفراد من عائلةکالانيموسKalonymus) ) الذين نقلوها بدورهم إلى ألمانيا في القرنالعاشر الميلادي، حيث بلغت الكبالا أوج تأثيراته فيها في القرن الثالثعشر، وكان من مشاهير ممثليه “يهودا التقي” (ت ۱۲۱۷م)، المعروفبأثره الذائع الصيت كتاب “التقي” (Sefer Chasidism).

وحركة الكبالا جاءت كرد فعل لمحاولات علماء الكلام اليهود من أمثال“موسى بن میمون” صياغة العقيدة اليهودية صياغة فلسفية صارمة، ومنجهة أخرى فإن تعاليم الكبّالا وما فيها من دعوة إلى إنكار الذات والتطهركانت الملجأ الذي أوى اليهود إليه في أوروبا بعد حملات القتل والتشريدوالإبادة الجماعية وألوان الاضطهاد التي تعرضوا لها، وما كانوا يعانونهمن هوان اجتماعي وسياسي في ألمانيا إبان القرنين الثاني عشر والثالثعشر وما كانوا يتعرضون له من حملات اضطهاد ومصادرة للأملاك،والمخاوف التي كانت تحيط بهم من كل جهة وطرف.

يقول المسيري في موسوعته:”إن القبالاه هي مجموعة التفسيراتوالتأويلات الباطنية والصوفية عند اليهود، فاسمها مشتق من كلمة عبريةتفيد معنى التواتر أو القبول أو التقبل أو ما تلقاه المرء عن السلف، أيالتقاليد والتراث“، وكان يُقصد بها أصلاً تراث اليهودية الشفوي المتناقلفيما يعرف باسم «الشريعة الشفوية»، ثم أصبحت الكلمة تعني منذأواخر القرن الثاني عشر «أشكال التصوف والعلم الحاخامي المتطورة»،وقد أطلق العارفون بأسرار القبَّالاه على أنفسهم لقبالعارفين بالفيضالرباني، ويمكن القول إن هذا المذهب يمثل الجانب الصوفي الباطنيلليهودية”.

وكان من أشد العوامل تأثيراً في انتشار تعاليم الكبالا، ظهور المدونةالصوفية الجامعة الكبرى المعروفة بالزوهار Spledour “ZoharRedianit في القرن الثالث عشر والمكتوبة في أجزاء منها بالآراميةوأخرى بالعبرية. وقد اعتبر الزوهار المنبع والمصدر للنزعات الروحية بيناليهود في اتجاهيها الرئيسيين: التأملي الفلسفي والممارسة العملية. والمتواتر عند مؤرخة الفكر الديني اليهودي أن أول من جمع مادة الزوهارمن مصادر متنوعة ومختلفة هو “موسى الليوني القرطبي” (ت ١٣٠٥) الذي نَسَب مادتها وما فيها من رؤى وأحلام وأساطير إلى الراباي“سيمون بن يوخاي” Simon Ben Yochai (100١٦٠ تقريباً) منرجال القرن الثالث للميلاد، والذي عاش عقب فشل حركة التمرد التيقادها ( شمعون باركوخبا ) منتحل المسيحانية، وهرب متخفياً عام ١٣٢مأيام حكم الامبراطورالروماني هادريان، نظراً لمضايقة السلطات الرومانيةله ولأتباعه، وأنه غاب تقية على نفسه لمدة ثلاث عشرة سنة بجوار البحرالميت، حيث تدعي الأساطير أن النبي إيلياء كان يزوره خلالها ويعلمهالأسرار. ومشاهير رجالا الكبالا جميعاً كانوا من يهود السفارديم أي منالأندلس العربية أمثال: أبو العافية وإسحاق بن لطيف بن نخمان (١١٩٥ – ١٢٧٠م).

وتبحث فصول المدونة في مسائل تتعلق بوحدة الألوهية والمظاهر الأزلية التي تتجلى فيها الربوبية للعالم، والسر الخفي لأسماء الله الحسنى، وأن الله تعالى لا يُحَدُّ ولا يمكن إدراكه بالعقل إلا في تجليات فيوضاته فيعشر مراتب متتالية: Sefirot ، والروح الإنسانية طبيعتها ومالها، وطبيعةالخير والشر وأفكار تتعلق بالمسيحانية والخلاص.

وتفصل الزوهار في ذلك كله بأسلوب رمزي باطني للأسفار الخمسة،بدعوى أن ذلك هو الأسلوب الأمثل والأقدر على كشف المعاني المستورةللنصوص، وأنه تبعاً لهذه الحقيقة، لا يجوز الوقوف عند المعاني والدلالاتالمباشرة لهذه النصوص. وتعتمد الزوهار في الكشف عن هذه المعانيالمستترة منهجاً رباعياً في التأويل صار يُعرَفُ اختصاراً بالأحرف الأولىمن اسم كل منهج بـ : Derash Pardes الجنة. وهذا المنهج الرباعيالجامع يتألف من   ( Peshat ) وهو التفسير الحرفي و( Remez ): ويعني التأويل المجازي و  Deresh) ): ويعني الشرح والبيان، وأخيراً Sod وهو التفسير الذوقي للنص.

والزوهار، كلمة عبرية تعنيالإشراقأوالضياء“. وكتاب الزوهار أهمكتب التراث الكبالي، وهو تعليق صوفي مكتوب بالآرامية على المعنىالباطني للعهد القديم، ويعود تاريخه الافتراضي، حسب بعض الروايات،إلى ما قبل الإسلام والمسيحية، وينسب الكتاب أيضاً إلى أحد معلميالمشناهالحاخام شمعون بن يوحاي” (القرن الثاني الميلادي)، وإلىزملائه. ولكن يقال إنموسى دي ليونمكتشف الكتاب في القرنالثالث عشر مؤلفه الحقيقي أو مؤلف أهم أجزائه، وأنه كتبه بين عامي١٢٨٠-١٢٨٥م، مع بدايات أزمة يهود إسبانيا وخروجهم منها. وبعد مرورمائة عام على ظهوره، أصبح الزوهار بالنسبة إلى المتصوفة في منزلةالتلمود بالنسبة للحاخاميين. وشاع الزوهار بعد ذلك بين اليهود حتىاحتل مكانة أعلى من مكانة التلمود، وبخاصة بعد ظهور الحركةالحسيدية .

ويتضمن الزوهار ثلاثة أقسام : الزوهار الأساسي، وكتاب الزوهار نفسه،ثم كتاب الزوهار الجديد. ومعظم الزوهار تعليق أو شرح على نصوصالكتاب المقدس، وبخاصة أسفار موسى الخمسة ونشيد الأنشاد وراعوثوالمراثي. وهو عدة كتب غير مترابطة تفتقر إلى التناسق وتحديد العقائد،فهو يضم مجموعة من الأفكار المتناقضة والمتوازية عن الإله وقوى الشروالكون. وفيه صور مجازية ومواقف جنسية صارخة تجعله شبيهاً بالكتبالإباحية وهو ما ساهم في انتشاره وشعبيته. والمنهج الذي يستخدمه ليسمجازياً تماماً، ولكنه أيضاً ليس حرفياً، فالمفسر يفرض على النص المعنىالذي يريده من خلال قراءة غنوصية تعتمد على رموز الحروف العبريةومقابلها العددي . والزوهار مكتوب بأسلوب آرامي مصطنع يمزج أسلوبالتلمود البابلي بترجوم أو نكيلوس، وهو كتاب طويل جداً مؤلف من ٨٥٠ ألف كلمة في لغته الأصلية ، والموضوعات التي يعالجها هي طبيعة الإلهوكيف يكشف عن نفسه لمخلوقاته، وأسرار الأسماء الإلهية، وروح الإنسانوطبيعتها ومصيرها، والخير والشر، وأهمية التوراة والماشيح والخلاص. ويتحدث الزوهار عن التجليات النورانية العشرة (سفيروت) التي يجتازهاالإله للكشف عن نفسه. وقد ظهرت أولى طبعات الزوهار بين عامي ١٥٥٨ و ١٥٦٠م في إيطاليا. وظهرت له طبعة كاملة في اثنين وعشرين مجلداًفي القدس بين عامي ١٩٤٥م و ١٩٥٨م، كما ترجم إلى الإنكليزيةوالفرنسية .

لقد تهيأت لتعاليم الزوهار فرص الانتشار والسيطرة على عقول كثيرينوذلك بعد طرد اليهود جبراً من الأندلس عام ١٤٩٢م، حيث حمل تعالميها المهجرونعنها عنوة إلى الشرق: تركيا ومصر وفلسطين وإلى دول أوروبا الغربية، مثل:إيطاليا وألمانيا وهولندا وإنكلترا، وحيثما حلّ أتباع الزوهار عمدوا إلى نشرتعاليمها وترسيخ مفاهيمها وتعميم طرائق السلوك الموصولة بهذه التعاليم، حيثبلغت أوج عظمتها بمدينة صفد ومدرستها الصوفية، التي كان من مشاهيرهاموسى القرطبي (١٥٢٢-١٥٧٦م) وإسحاق لوريا (١٥١٤ – ١٥٧٢م) الملقببالأسدARI) ) الذي التحق بحلقة صفد بعد إقامة قصيرة في جزيرة وسط نهرالنيل انكب خلالها على دراسة أدبيات القبالا المأثورة.

وبخصوص الحسيدية التي تبنت الكبالا، فهي حركة روحانية اجتماعيةيهودية نشأت في القرن السابع عشر. يعد( بعل شيم توف) مؤسس الطائفةالرئيسي، حيث نشرها في أنحاء شرق أوروبا، والفكر الحسيدي وخصوصًا فيالأجيال الأولى تميز بالدعوة إلى عبادة الرب وطاعته ومحبة إسرائيل واتباعهالصالحين. وفي الأجيال الأخيرة تمتاز الحسيدية بشكل أساسي بوضع مزاراتحسيدية مخصصة حول سلالات الحسيديم.

ففي القرن السابع عشر كانت هناك عدة عمليات موازية من يهود أوروباالشرقية وضعف الحكم المركزي في مملكة بولندا الكبرى التي كانت تحكممساحات واسعة من ليتوانيا وأوكرانيا، وكان حال الوضع الأمني والاقتصاديمتدهورا جدا. وبعد ذلك انهار الحكم المركزي في المملكة وفي أعقاب ذلك وزّعواالأراضي في أوكرانيا وفودوليا وانتقل الحكم إلى العثمانيين إبان سيطرتهم عليها. فالشعور بانعدام الأمن المادي بين اليهود، وانعكاس الازمة الأولى فيمذابح سنوات المراسم التي في أعقابها عندما غزا القوازق الروس بولنداوأصابوا قبل كل شيء يهودها؛ لذلك فإن هذه التغيرات السياسية شهتدت زيادة ملحوظة في معاداة اليهود من جانب الحكومة البولندية والنبلاء للحد من المهنالمسموح بها لليهود.

وكان الاتحاد البولندي الليتواني قد اتخذ وسيلة النقل البحري لتجارةالسلع ونقلها من الشرق إلى الغرب، مع تطور النقل البحري انخفضت قابليةالنقل البري وقوافل التجارة قلّت. ومن هنا ضرب معيشة اليهود، جزء منهم أصبحرزقهم من السمسرة والتبادل التجاري، وبعد هذا تغلبوا على الصعوبات فيحياتهم ومعيشتهم.

لذلك تقلصت فرصة تعلم التوراة إلى حداً كبير. وفي بداية القرن الثامنعشر تم تشكيل وعي كبير في المجتمع اليهودي بين مجموعة صغيرة نسبيا منالعلماء الذين كانوا يعرفون التوراة وبين عامة الناس الذين لم يكن لديهم القدرةعلى التعلم ومعرفة التوراة، وكانت بشكل بدائيه وسطحيه، خلال هذه الفترة، لميكن هناك مرجعية يهودية كبرى في أوروبا الشرقية.

ومن جهة البحث الروحاني، فمن من بين الذين تعلموا التوراة والذينشعروا بأن حياتهم الفكرية تدور حول فراغ مظلم، أيقظت لديهم تعطشاً للحياةالتي تملأ النفس، وبحثوا عن مايريدون في نظرية الكبالا (الصوفية) ولم يصلواإلى غايتهم.

ووفقاً للتقاليد الحسيدية، أنعزل من يعتبر مؤسس الحركة الحسيدية هوربي موسى بن نحمانطيلة عشرة سنوات في جبال كربات ( الواقعة بينقطبي كوسوفا الذي يقع في غاليسيا). وفي بداية طريقه كان يتجول بين الجبالوالقرى وشجع اليهود البسطاء، ولكن بعد تكاثر تلاميذه جلس في مدينة مزبوزالتي تقع في بودوليا (أوكرانيا حالياً). ومنذ ذلك الوقت قاد الحسيديم طوال ستةوعشرين سنه، حتى وفاته في سنة 1760، ومن بين المزايا الفريدة لطريقته، كانتالصلاة تقام بتدبر وخشوع تام في أسرار التوراة، وسط عدد صغير منالأصدقاء والطلاب، من ضمنهم مشهورين آخرين الذين عملوا في جبالالكاربات، وتلاميذ حكماء آخرين، احتشدوا حول “ربي موسى بن نحمان”وشخصيته وتعلموا طريقته في العبادة. ومن هذا الوسط نمت الحركة الحسيدية. وكان لـ “ربي موسى بن نحمان” تلاميذ، وربما بعضهم كانوا أتباعه في حياته،ولكن أثناء حياته (وإلى حدِ كبير في حياة تلاميذ المجيد ممزريتش) لم تكن هناكحركة حسيدية جماعية. وبعد وقت قصير من وفاته، توج ابنه “ربي تسفي”بالنيابة عن والده ولكن في عيد (الأسابيع) في سنة 1761م، يوم الذكرى الأولىلوالده انتقلت قيادة الحركة الحسيدية للتلميذ “ربي موسى بن نحمان” ربي دوفبعر (المجيد ممزريتش) قائلاً: “الالهية أخذت الالتزام على ظهرها وذهبت إلىمزريتش.

وبدأ الجيل الثاني للحسيديم للقيام بجهود كبيرة في سبيل نشر هذه الفكرة الحسيدية بين اليهود. وكان هناك رسل من قبل “المجيد ممزريتش ” يخرجون لنشر الحركة الحسيدية بين اليهود في أرجاء شرق أوروبا (فولهيناوغاليسيا وروسيا البيضاء وليتوانيا).

لقد اتخذ الربائيون موقفاً صارماً ومعادياً من الزوهار، وأنكروا تعاليمهاالباطنية؛ بل وأمر الربائي (مائير بن سيمون) بحرق كتبها ومصتفاتهافي نهاية القرن الثالث عشر الميلادي باعتبارها مزيجاً مركباً من الشعبذةوالسحر والخرافات والدعوة إلى تناسخ الأرواح.

 والكبالا (بالعبرية كابالا) هي معتقدات وشروحات روحانية فلسفية تفسرالحياة والكون والربانيات. بدأت عند اليهود وبقيت حكراً عليهم لقرونطويلة حتى أتى فلاسفة غربيون وطبقوا مبادئها على الثقافة الغربية فيما يسمى العصر الجديد (new age). بشكل عام، وهي فلسفة تفسرالعلاقة بين الله اللامتغير والأبدي والسرمدي، ويرمز له بعين سوف(بالعبرية)، وبين الكون المتهالك والمحدود، أي مخلوقات الله. لا تعتبرالقبالة كدين إذ أنها فلسفة تفسر الباطنية في الدين كما أن طقوسها لاتنفي القيام بالطقوس الدينية لكن معتنقيها يعتقدون أن الإرشاداتوالطقوس الواردة في القبالة تساعد الشخص على تطوير نفسه ليفهمبواطن الدين، وبخاصة بواطن التوراة والتقاليد اليهودية.

يعتقد أتباعها أن تعاليم القبالة أقدم من التاريخ الذي نعلمه وهي سابقةلكل الأديان والطرق الروحية التي نعرفها وهي تشكل المخطط الأساسيلكل الإبداعات الإنسانية من الفلسفة والدين والعلوم والفنون والأنظمةالسياسية.

انبثقت الكبالة كشكل بدائي من الباطنية اليهودية في القرن الثاني عشرفي إسبانيا وفي منطقة البروفانس بالتحديد الواقعة في جنوب فرنسا، ثمأعيد تشكيلها بعهد النهضة اليهودية في القرن السادس عشر فيفلسطين العثمانية. ثم تطورت في القرن العشرين فيما يسمى بالتجديداليهودي وانتشرت في أوساط روحانية غير يهودية كما تلقت الاهتمام منالدوائر الأكاديمية.

استعملت كلمة (قبالة) العبرية بمعان مختلفة خلال فترة التاريخ اليهودي. تعود كلمة قبالة، أو كبالا، إلى الكلمة العبرية (قِبِلْ) والتي تعني(استلام)، أو (استقبال) أو (تلقي). بشكل عام، تدل على القوانين الدينيةوالروحانية التي استلمها الانبياء والكهنة اليهود على مر التاريخ. وللمفارقة، (قبالة) في اللغة العربية تعني “وثيقة يلتزم بها الإنسان لأداءعمل أو دين أو غير ذلك. أو عمل يلتزمه الإنسان”. وقد يبدو أن الكلمتينالعربية والعبرية لهما نفس المعنى لمشاركتهما نفس الجذور (قبل) في مايسمى اللغات السامية. لهذا، من المستحسن تعريب المصطلح بالـ(قبالة)بدلا من الـ(كبالا). كما أن هناك من عرّب الكلمة إلى (الكوبالة) أو(الكبّالة) أو (القوبالة).

وأول استعمال لجذر (قبل) كان في التوراة اذ وردت خمس عشر مرة،وردت مرتين في سفر الخروج للدلالة على البساط الذي كان يغطي(تابوت العهد). الا انها اخذت دلالات أخرى في اجزاء مختلفة من التوراةمثل (مراسلة) في التوراة و(معارضة) في الانبياء و(استقبال أو استلام)في الكتابات.

وخارج التوراة، كانت في البدء تستعمل للدلالة على القانون الشفهي، أيالتلمود،     الذي (استلمه) اليهود بعد التدمير الثاني للمعبد (= هيكل سليمان) في القرن الأول الميلادي. وانتشرت بين اعوام 150م وحتى600م. ومنذ القرن الثاني عشر الميلادي، اخذت الكلمة معناها المتداولاليوم والذي تدل على التعاليم الروحية والباطنية التي استلمها الملهموناليهود بعد ذلك ليؤلفوا “القبالة” (بالعبرية) لتعني الباطنية الروحانيةاليهودية.

ان الدور الذي قام به الدعاة اليهود في بث روح الثورة والتمرد وانشاءالجمعيات السرية واثارة الحركات الهادمة عظيم جداً وان كان منالصعب أن نعينه بالتحقيق. فمنذ أقدم العصور ترى أثر التعاليم اليهوديةالفلسفية السرية ظاهراً في معظم الحركات الثورية والسرية، والمصدرالذي تجتمع فيه التقاليد اليهودية السرية انما هو فلسفة الكابالا.

والكابالا هي مزيج من الفلسفة، والتعاليم الروحية، والشعوذة، والسحر،متعارف عند اليهود منذ أقدم العصو . وقد ظهر أثر تعاليمها واضحاً فيالمجتمعات الأوروبية . وبالاخص منذ القرن الثاني عشر الميلادي . وخلاصة هذه التعاليم هي أن الله هو كائن مطلق، ولما كان هذا الكائنبشعر بوجوده فهو ينفث نفسه الى عالم الارواح النقية والملائكة من طرقمختلفة، وان روح الانسان تنتقل من جسم الى جسم حتى تعود فيالنهاية الى الله وتفنى فيه . وكان دعاة الكابالا يعلقون أهمية كبرى علىالسحر والشعوذة، وأسرار الطلاسم والرموز والارقام .

وقد أدمجت تعاليم الكابالا وأسرارها ورموزها في وثيقتين عبريتين هما ( السفر جزيرا، أو كتاب الخلق، وهو مجموعة من الاحاديث والخطب رويتعلى لسان ابراهيم، و (السفر هازوهار) أو كتاب الضوء المعروف عادة(زوهار) وقد كتب بأسلوب آرامي يحمل على الاعتقاد بأنه قد وضع فيالقرن الثاني عشر أو الثالث عشر، ويرى بعض الباحثين المحدثين أنه منتصنيف موسى الديوني الاسباني

ويظهر أن أساطير الكابالا، وتعاليمها ورموزها، كانت المنبع لمعظمالجمعيات السرية الغربية من فرسان المعبد الى البناء الحر (الماسونية) في وضع نظمها ورموزها، وانها كانت في الغالب مبعث الوحي لكثير منالطوائف الخارجة والهادمة كاخوة الشيطان، وأصحاب القداس الاسود،وطوائف السحرة على اختلاف طوائفهم وغاياتهم، وجمعية المسممين،وغيرها من جمعيات الخفاء. وكون اليهودية مبعث الروح الثورية على كرالعصور، وكون اليهود دعاة الثورة وقادة التفويض والهدمذلك مما يقرهالبحث التاريخي السليم، واليك ما يقوله كاتب أحد كتاب اليهودالفرنسيين “برنار لازار” (1865 1903م) في في كتابه عن (عداءالسامية عداوة اليهود):” ان لشكوى دعاة الخصومة السامية أساساًعلى ما يظهر، فاليهودي يضطرم بروح ثوري، وهو داعية للثورة سواءشعر بذلك أو لم يشعر”، والواقع ان الدور الذي لعبه اليهود في الثوراتوالحركات الحديثة ظاهر لا سبيل الى انكاره، وبالبحث والاستعراض برىأنه دور مزدوج فهو يستند الى المالية والخفاء معاً . ذلك ان اليهود منذالعصور الوسطى امتلكوا ناصية الشؤون المالية في معظم المجتمعاتالأوربية، وجردوا عليها في نفس الوقت سيلاً من ضروب السحر والحفاء،وأمدوها بأقطاب المشعوذين والسحرة، وكانوا حيثما هبت ريح الثورةالاجتماعية أو السياسية بحثمون من وراء ستار، ويميلون الى الجانبالظافر ليأخذوا نصيبهم من الاسلاب والغنيمة، وحينما كانت الشعوبالنصرانية تنهض للخروج على نظمها كان الاخبار والفلاسفة والاساتذةوالمشعوذون اليهود يأخذون بناصر الثوار ويؤيدونهم في وثباتهم الهادمة . واذا كان اليهود في معظم هذه الثورات والحركات لا يضرمون النار، ولايثيرون العاصفة، فقد عرفوا دائماً كيف يسيرونها لفائدتهم وتحقيقغاياتهم”.

في منتصف القرن السابع عشر كانت التعاليم الروحية اليهودية قد نفذتالى جميع أنحاء أوربا . والظاهر أن تيار هذه التعاليم قد تسرب إلى أممالغرب من شرق أوربا، فمنذ القرن السادس عشر اجتمع اليهود واستقروافي بولنده، وظهر هنالك جماعة من السحرة والمشعوذين اليهود تعرف (الزاركيم) أو جماعة (بعل شم)، والكلمة الاخيرة معناها ( سيد الاسم ) يتصدرها نظرية كابالية تزعم أن بعض اليهود الذين تتوفر فيهم شروطمعينة من القدسية يستطيعون أن يستخدموا الاسم الاعظم دون وازع . ( والبعل شم ) هو شخص يمتلك هذه القوة ويستخدمها في كتابةالطلاسم، ومخاطبة الارواح، ومعالجة الامراض وغير ذلك . ثم غدت بولونيا، وبالاخص مقاطعة بودوليا مركزاً  للحركة الكابالية التي تمخضت هناك عن سلسلة من فورات الخفاء والشعوذة المدهشة.

وفي سنة ١٦٦٦م اضطرب العالم اليهودي من أقصاه إلى أقصاه لظهورداعية يسمى “شبتاي تسفي” (1626 1675م) وهو ابن تاجر من مدينة أزمير(مدينة تركية حاليا واقعة على ساحل بحر إيجة) يدعىمردخاي، زعم أنه هو المسيح المنتظر، وكانت فكرة المسيح المنتظر ذائعةعندئذ في المجتمع اليهودي، وكانت الاوساط اليهودية الرجعية تؤمن بقربظهور هذا المسيح، ولذلك صادفت دعوة شبتاي تأييداً كبيراً بين يهودفلسطين ومصر وشرق أوربا، بل أيدها كثير من اليهود المتنورينوأصحاب الاموال لأغراض سياسية ومالية، وكان شابتاي متمكناً منتعاليم الكابالا، عالماً بأسرارها ونظرياتها الروحية بارعاً في ضروبالشعوذة، وقيل انه كان يأتي الخوارق، وان جلده كان ينضح المسك، وكانينهمك في الاستحمام في البحر ويعيش فى حالة ذهول مستمر . وقدانقسم اليهود ازاء مزاعم شابتاي الذي انتحل لنفسه لقب ( ملك ملوكالارض) الى قسمين : خصوم، وأنصار، فأما الخصوم فهم الاخباروالدعاة وكان هؤلاء يناصبونه العداء ويكثرون من لعنه والحملة عليه . أماأولئك الذين استهوتهم دعوته و آمنوا بمزاعمه و تعاليمه فقد انقلبوا عليهحينما سخط منه السلطان العثماني ” محمد الرابع” (1648- 1693م) وطلب اليه أن يثبت دعواه بأن يستقبل السهام المسمومة بصدره ، فارتدعن اليهودية فجأة وزعم أنه اعتنق الاسلام ، بيد أنه استمر يتقلب فيمزاعمه وتعاليمه ازاء المسلمين واليهود طوراً بعد طور فيتظاهر أمام كلفريق بأنه من دينه وحزبه، وبتلك الوسيلة استطاع أن يغنم مؤازرة نفر مناليهود والمسلمين معاً . غير أن الاحبار اليهود خشوا من دعوته على تعاليماليهودية فسعوا به الى السلطان حتى أمر باعتقاله وسجنه في احدىقلاع بلغراد، وهنالك توفي في سنة 1675م.

على أن تحطيم المسيح المنتظر لم يحمد من حماسة أنصاره ، بل استمرتدعوة شابتاي في القرن الثامن عشر، وأسفر نشاط المدرسة الكابالية عنفورة جديدة في بولونيا ، فظهر كثير من دعاة الزار كيم وبعل شم، وكانأشهر أولئك الدعاة (اسرائيل

البدولي ) الذي أسس طائفة ( الحسيديم ) في سنة ١٧٤٠م . وكان اسرائيليخاصم اليهودية الرحمية، ويرجع تعاليمه إلى (الزوهار)، بيد أنه لم يسلماطلاقاً بنظرية الكابالا في أن الكون هو صورة من صور الله ، بل زعم أن الكونكله هو الله، وأن الشعر عنصر من عناصر الله اذ ليس الشعر خبيثاً في ذاتهولكن في علاقته بالانسان.

وعلى ذلك فليس للخطيئة وجود مادي . وكان اسرائيل بارعاً في ضروبالسحر والشعوذة ، فالتف حول دعوته كثير من اليهود الذين خرجوا علىتعاليم التلمود وتقاليده الاخلاقية، ثم ظهر في أثره داعية آخر هوهايلبرين المسمى حويل بن أوري في ساتانوف وعكف على مزاولةالشعوذة والحوارق باسم الله وجمع حوله نفراً من الانصار ، استمروا بعدوفاته يستغلون سذاجة العامة حيناً

وقد كانت أشهر الجمعيات الكابالية طائفة الفرنكيين، الذين عرفوا أيضاً(بالزوهاريين) ، أو أخوان الشعلة لانتمائهم إلى الزوهار ( كتاب الضوء )،ومؤسسها هو يعقوب فرنك) “ ، وهو داعية من أمهر دعاة الكابالاوأعلمهم بأسرارها وتعاليمها، جمع حوله في منتصف القرن الثامن عشرفي بودوليا ( = احدى مقاطعات أوكرانيا) جمهوراً كبيراً من الانصاروالدعاة، وعاش في بذخ شرقي هائل لم يهتد أحد الى حقيقة مصدره،وأسس طائفته التي لبثت حيناً تبث نظريات الالحاد والهدم بواسطةجماعات سرية تماثل في نظامها محافل البناء الماسونية”. ونقم الاحباراليهود من الزوهاريين نشاطهم في هدم اليهودية، واشتدت الخصومة بينالفريقين، حتى أعلن الزوهاربون في النهاية خروجهم على اليهودية علناًواعتنقوا النصرانية ومنهم فرنك نفسه، واتحدوا مع أسقف أسقف كامنيكعلى مقاومة الاحبار واليهودية . غير أن ارتدادهم لم يكن الا رياء وسبيلامن سبل الهدم خصوصاً وان فرنك كان يذيع بواسطة دعائه في تركيا أنهاعتنق الاسلام، وعلى ذلك قبض عليه في وارسو بتهمة الارتداد الكاذبونشر الاتحاد والكفر، وزج به الى السجن حيناً، فلما اطلق سراحهاستمر في دعوته وتجول في أواسط أوربا مع ابنته حوء التي استطاعتأن تؤثر في عقل الامبراطورة ماريا تريزا . غير أنه أتهم بالزندقة أيضاًوأخرج من النمسا، فانتقل الى ألمانيا واستقر في أوفنباخ بالقرب منفرنكفورت وتسمى بالبارون فون اوفنباخ ، واستأنف بذخه الطائل مماكان يرد اليه من هبات انصاره والمعجبين به. وقد وصف ملمان في كتابه(تاريخ اليهود) ، بذخ فرنك فيما يلي :“كانت له حاشية من بضع مئات منالفتيان والفتيات اليهود ذوي الحسن الرائع، وكان يذاع أن صناديقالاموال تنهمر عليه في كل يوم ولا سيما من بولندا، وكان يخرج كل يومفي موكب حافل ليقيم شعائره في العراء في عربة تجرها جياد مطهمة،ويحرسه عشرة أو اثنا عشر فارساً يرتدون الثياب الموشاة بالذهب، وقدرفعوا الرماح، ووضعوا في قبعاتهم أهلة أو شموساً أو أقماراًوكانأنصاره يعتقدون فيه الخلود . بيد أنه توفي في سنة ۱۷۹۱م، ودفن فيبذخ يعدل بذخ حياته .

ونحن نذكر مما تقدم لنا سرده من حجر أقطاب السحرة في القرن الثامنعشر أن البارون (فون أوفنباخ) لم يكن مثلا وحيداً من نوعه ، فهناك شبهعجيب بينه وبين زميليه الشهيرين “الكونت سان جرمان” و”الكونتكاجليوسترو” ، وقد كان كل يدعي القدرة على الخوارق ويفتن في ضروبالشعوذة، ويعيش في بذخ عظيم لا يعلم مصدره، والأول يهودي بلا ريب،أما زميلاه فقيل أنهما يهوديان أيضاً، وكلهم من دعاة المدرسة الكابالية،ومن الراسخين في تعاليمها وأسرارها ، وكلهم أنفق أعواماً طويلة فيالمانيا. ثم ان كاجليوسترو انضم الى جمعية (الرقابة الصارمة) في كهفخفي يبعد عدة أميال يسيرة عن اوفنباخ حيث كان يقيم فرنك، ويقال فوقذلك أنه زار في شبابه بولندا حيث ظهر فرنك . أفليس لنا بعد ذلك أننستنتج أن أولئك الدعاة الذين عاشوا في عصر واحد وبأسلوب واحدكانت تربطهم رابطة خفية ؟ وأن ليس من ضروب المصادفة المحضة أنيظهر السحرة الكاباليون في بولندا والمانيا في نفس الوقت الذي يظهرفيه السحرة في فرنسا وأن ليس من المصادفة أيضاً أن يؤسس فرنكطائفة الزوهاريين (اخوان الشعلة) في سنة ١٧٥٥م أي بعد عام واحد منتأسيس”مارتين باسكو” لطائفة ( الشعلة الفرنسية) في سنة ١٧٥٤م،أليس من المستطاع أن تعرف المصدر الذي قذف بسيل السحرة هذا الىغرب أوربا في طوائف المشعوذين التي أسسها (هايلبرين) و(اسرائيلالبدولي) و(فرنك)، أو بعبارة أخرى في مهاد الكابالا اليهودية، أضف الىذلك ان أكبر داعية من دعاة الكابالا واخوة بعل ثم وهو المعروف “بزعيمالشعب اليهودي بأسره” كان طبقاً للادلة والوثائق التاريخية عضواً فيجمعية البناء الحر الماسونية ومتصلا بزعماء الجمعيات السرية، وانهيهودي لا سبيل إلى الريب في يهوديته هذا الداعية الغريب هو (حاييمصموئيل يعقوب فوك) المعروف بالدكتور فوك، أو دي فوك، أو فوكون . وقدولد في بودوليا في بدء القرن الثامن عشر، واتصل بالزوهاربين، ولبثحيناً زاول ضروب السحر والشعوذة في بودوليا والمانيا ، وكان يزعم أنهذو قدرة خفية، وانه يستطيع اكتشاف الكنوز الدفيئة .

ويروي المؤرخ (ارشنهولتس) أنه شهد فوك يأتي أعمالا خارقة في برنزفيكينسبها الى تبحره في الكيمياء . ثم اضطهد فوك وطورد في فستفالياوحكم عليه بالحرق لاتهامه بالسحر ففر الى انكلترا، وهنالك استقبلبالترحاب وطار صيته، وأذيعت عن قدرته أغرب الروايات، من ذلك ما قيلمن أنه يستطيع أن يبقي شمعة صغيرة تضبية مدى أسابيع، وانهيستطيع بتلاوة عزيمة أن يملأ قبواً من الفحم، وان أي حلية برهنها لدى المقرض تنسل ثانية إلى منزله، وانه أنقذ البيعة اليهودية الكبرى من فتكالنارحينها شبت فيها بأن كتب أربعة أحرف عبرية على أعمدة بابها.

ظهر فوك في لندن في سنة ١٧٤٢م معدماً لا مورد له، بيد أنه ما لبت ان اثرى فجأة وبدت عليه امارات البذخ الطائل فاتخذ له قصراً فخماً أقام فيه بيعةبخاصة و ازدانت موائده بانية الذهب والفضة ، وفي مذكراته التي ما زالتباقية ما يفيد أنه كان يخرج من قصره الى غابة ابنج وهنالك تعقد اجتماعاتخفية في قاعة أعدت لذلك وتدفن صناديق من الذهب، وقبل أيضاً انه كان يركبعربته ذات مرة فانفصلت احدى عجلاتها فارتاع السائق ولكن فوك أمره أنيسوق مطمئناً واستمرت العربة في سيرها، والعجلة المنفصلة تتبعها حتىالغابة والروايات عن خوارق فوك وقدرته العجيبة كثيرة لا نهاية لها، وكان مهيباًمبجلاً من المجتمع اليهودي واحباره. ولكن شهرته اثارت نقمة يهودي يدعى(امدن) هجاه واتهمه بأنه من أنصار المسيح الكاذب وأنه يستغل سذاجةللمؤمنين وكتب عنه الى يهود بولونيا ما يأتي : “لقد نال فوك مركزه بإدعائهالوقوف على أسرار الكابالا، وزعمه القدرة على اكتشاف الكنوز، وقد خدعباكاذيبه ضابطاً غنياً جرده من ثروته. ويهرع اليه النصارى الاغنياء ويغدقونأموالهم عليه، ويغدق هو المال من جهته على دعاة طائفته لكي يذيعوا ذكرهوشهرته” .

ولكن في الظاهر فان فوك كان حذراً في علائقه مع النصارى الباحثين وراءالاسرار الخفية، اذ يقال انه انكر معرفته لتركيب الاكسير الذهبي من أميرملكي سأله الارشاد عن تركيه، وقد اخير في احدى صحف هذا العصر عامسنة ١٧٦٢م إلى يهودي متنصر هو أعظم وأخبث محتال في العالم ، قد سجنونفي من جميع الولايات الالمانية، ويقول الدكتور ادلر ان هذا اليهودي هو فوكبعينه ، بيد أنه ليس ثمة ما يريد ان فوك كان من دعاة السحر الاسود، وتوفيفوك في ابريل سنة ۱۷۸۲م واحتفل بدفنه احتفالا فخماً في احدى مقابر لندنومما نقش على قبره : “هنا يثوي الشيخ الشريف، وهو رجل عظيم قدم منالمشرق، وهو حكيم متبحر، وداعية كاباليوقد طار صيته إلى أقاصيالانحاء والجزر النائية …”.

ومن ثم نرى الفرق واضحاً بين أساليب فوك، وأساليب (سان جرمان )و(كاجليوسترو) و(فون او فنباخ)، فيما يخوض هؤلاء ثمار مخاطرات عدة، ويزاولونالشعوذة والكيمياء أينما حلوا، ويزعمون انهم وقفوا على سر الأكبر الذهبي ،اذا بقوك يعمل في هدوء ، وينقطع المزاولة الاسرار الخفية الهادئة ، ولا يحتكبالدهماء وعامة المغامرين ، أفليس لنا أن نستنتج من ذلك ان فوك كان يشغلمنصباً اسمى وارفع أعني منصب القيادة والارشاد كان فوك بلا ريب أحد هذهالرؤوس الخف6ية التي تدير في الخفاء شؤون الجمعيات السرية ، وتلجأ اليهاالجمعيات السرية في استقاء النصح والتعاليم . وقد ظهر ذلك مؤخراً فيرسائل نشرت تبادلها (سافالايت دي لانج) والمركيز (دي شيد بيان)، ورد فيهاالنسبة لفوك ما يأتي :

ان الدكتور فوك هذا معروف الكثير من الالمان . وهو رجل خارق جدا من كل وجه، ويعتقد البعض انه زعيم كل اليهود، ويرجعون كل ما هو غريب ومدهش فيحياته وتصرفاته الى غايات سياسية محضة ، وقد أشير اليه في مذكراتالشغاليه را تنسوف بإشارات غريبة فذكر انه من اخوة الصليب الوردي، وقدكانت له وقائع مع الماريشال (دي ريشيليو) وهو بحاثة كبر وراء حجر الفلاسفة ،وكذلك كانت له سير عجيبة مع البرنس (دي روهان جنبه) و(الشغاليه ديلوكسيبورج) . فيما يختص بلويس الخامس عشر الذي تنبأ بموته . وهو قطببين جميع الطوائف المتبحرة في العلوم الخفية . وفي وسع البارون دي جليخنأن يفيدك عنه بمعلومات نفيسة ، فحاول أن تقف على اكثر من هذا فيفرنكفورت ) واذا فهنا تستطيع أن نظفر بلمحة عن واحد من أولئك الدعاةالحقيقيين الذين كانوا يعملون من وراء الجمعيات السرية والذين اخفواشخصياتهم في عمار من الظلمات والغموض ، ذلك ان فوك لم يكن حكيمامنفرداً بل كان له تلاميذ ينفذون الى الحظيرة ، العليا من الاسرار . والظاهر أنكاجليوسترو وسان جرمان واضرابهما لم يكونوا الا بعض هؤلاء التلاميذ.

ثم أن هنالك ما يلقي شيئاً من الضوء على ذلك في حياة الشاعر الالماني(جوتهولد ليسنج) . فقد تمت الاشارة الى أن المؤرخ (ارشنهولتس) تكلمعن بعض خوارق شاهدها من فوك في برنزفيك، وفي سنة ۱۷۷٠م عينالشاعر ليسنج أميناً لمكتبة دوق برنزفيك، وكان يسخر من البناء الحروتعاليمه بادىء بدء، غير أنه تحول عن رأيه فجأة والتحق بأحد محافلهامبورك في سنة ١٧٧١م، وفي سنة1778م نشر قصته الشهيرة ناتانالحكيم Nathan der Weise عن متصل البناء الحر. ونظم خمسمحادثات عن البناء الحر أهداها. الى دوق برنز فيك كبير المحافل الالمانيةعنوانها «ارنست وقوك ، ورد Ernest und Patk : Gespräche für Freimaner » محادثات للبنائين الاحرار الحوار فيها على لسان فوكصراحة ووصف بأنه يشغل أسمى مراتب البناء الحر. هذا إلى أن صداقةليستج مع موسى مندلسون الفيلسوف اليهودي البرابني قد حملت بعضالباحثين على القول بأن مندلسون هو الذي أوحى إلى لينج بموضوعالقصة وصفات أبطالها ، ولكن لم لا يكون الموحي بذلك هو قوك نفسه وقدمر في برتزفيك وعرض فيها خوارقه؟

هذه المحادثات تلقى مزيداً من الضوء على المؤثرات الخفية التي كانتتعمل من وراء البناء الحر، ويوصف فيها عرض البناء الحر بأنه العملعلى احداث نظام لا تكون الانسانية فيه ضرورية ، ويرمز فيها ليستجلنفسه باسم ارفت، ويشرح فوك فكرته.

في انشاء دولة عامة أو بالحري دول متحد: لا تفرق فيها بين الناسفوارق قومية أو اجتماعية أو دينية ، وفيها ينعم الانسان بأوفر قبط منالمساواة . يد أن أهم ما يلفت النظر فيها هو تكرار إشارة فوك الى أنهيوجد ثمة وراء البناء الحر شيء أعرق وأعظم في نماياته من جمعية البناءالحر، وان البنائين الاحرار المحدثين لا يعنون به في الغالب . ثم يجيبأرنست حينما يشكو من عدم وجود المساواة الحقة في المحافل بالنظرلاقصاء اليهود عنها ، أنه أي فوك لا يشهدها، وان البناء الحر الحقيقي لايبدو في أشكال ظاهرة، وان المحفل في علاقته بالنسبة للبناء الحركالكنيسة في علاقتها مع الإيمان أو بعبارة أخرى ان الدعاة الحقيقيين لايظهرون في الميدان . والظاهر من تأمل هذه الشروح أن فكرة الدولةالعامة هي المثل الذي اتخذه اللاحكوميون المحدثون قاعدة لنظمهم فيتغيير الحياة البشرية، وانها هي الجمهورية العامة التي غدت شعارالاشتراكية الدولية، والشيوعية، ودعاة الثورة العالمية.

ومن جهته يقول الكاتب الفرنسي المشهور فولتير: كان اليهود هم الذين يلتجااليهم عادة في تأدية الشؤون السحرية وهذا الوهم القديم يرجع الى اسرارالكبالا (القبالة) التي يزعم اليهود انهم وحدهم يملكون اسرارها.

ويقولجيو جينودى موسو“: إني لاخجل من البحث في الموضوعات القذرةالواردة في الكتاب ( الكبالا=القبالة) والتي سيطالعها النبلاء… ان القبالة ترتعدحتى فرائص عزرائيل، فالعلوم الشريرة والمشؤومة تتسرب الى خارج صفحاتهكسم الثعبان الزعاف”.

وتقوم فلسفة القبالة على شجرة ( ويسمونها شجرة الحياة ) اصلها في السماءوفروعها في الارضأي انها مقلوبة او تبدءا بالذات العليا وتنتهي بالعالمالدنيويوتتكون من عشر طبقات يتاح السفر بينها بالروح بعد الموت.

وعلى أية حال فإن كتب اليهود من التلمود والكبالا كانت قد منعت في أوروبا، وينقل الاب رانايتس عن الطبعة الاخيرة من فهرس أكسبور جاتوريوس ما يلي:” بأمر أبينا السيد المقدس ليو الثالث عشر الحاكم الآن أُصدر في سنة 1887م ما يلي: التلمود والكتب اليهودية الاخرى حركت للاسباب الاتية …، إنَّ سيدنا المقدس البابا كليمنت الثامن، في أمره ضد الكتابات غير التقيَة، والكتب اليهودية الصادر في روما سنة 1592م، حرَّمها وأدانَّها… وكان واضحاً ومفصَّلاً ونظامياً وذا إرادة، حين قال: إن التلمودية العاقَّة والكبَّالة، وغيرها من كتب اليهود الشائنة، هي مُدانة بكل معنى الكلمة، ويجب أن تبقى دائماً مُدانة ومحرَّمة، وأوامره عن هذه الكتب، يجب أن تظل ثابتة منيعة لا تنتهك حرمتها.

‎ٲ.د. فَرسَت مرعي

د.فرست مرعي اسماعيل مواليد ۱۹٥٦ دهوك ٲستاذ التاريخ الاسلامي في جامعة دهوك له ۲۱ كتابا مؤلفا باللغتين العربية والكردية ، و٤۰ بحثا ٲكاديميا في مجال تخصصه

‎ٲ.د. فَرسَت مرعي

د.فرست مرعي اسماعيل مواليد ۱۹٥٦ دهوك ٲستاذ التاريخ الاسلامي في جامعة دهوك له ۲۱ كتابا مؤلفا باللغتين العربية والكردية ، و٤۰ بحثا ٲكاديميا في مجال تخصصه

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً