المقالات

قصة النبي نوح في القرآن الكريم والكتاب المقدس دراسة تحليلية مقارنة في المصادر الإسلامية واليهودية والمسيحية

القسم الاول

أ.د. فرست مرعي اسماعيل

عضو الهيئة العامة لمركز الزهاوي

الملخص

لاشك أن القصص إحدى الأساليب الرسالية التي تضمنها القرآن الكريم من أجل الوصول الى عقل الانسان وشعوره حتى يؤمن –عن اقتناع– بالفكرة الحق التي ترتبط بالله وبالطريق المستقيم الذي يصلب الإنسان الى حب الايمان بالله عزوجل.

وتعتبر قصة نبي الله نوح (عليه السلام) من القصص الديني المشترك في كل من التراث اليهودي والمسيحي والإسلامي، فهي تكون جزءاً من قصة الخلق في الديانات التوحيدية، واستناداً إليها بنت هذه الديانات نظرتها الى الانسان من حيث طبيعته وعلاقته بالكون والطبيعة وعلاقته أيضاً بخالقه.

وعلى الرغم من اتفاق الديانات التوحيدية الثلاثة على البناء العام لقصة نبي الله نوح (عليه السلام) وعمره الطويل وحدوث الفيضان العام في عهده، وقصة الفلك (= السفينة) واستقرارها على الجبل، إلا أن هناك بعض الاختلافات في التفاصيل، حول هل عم الفيضان الكرة الأرضية بأجمعها؟، أو جزء منها؟، أي المنطقة المحيطة بجبل الجودي، فضلاً عن مكان استقرار السفينة في جبل الجودي وفق نص القرآن الكريم في سورة هود، الآية 44، وجبال آرارات وفق نصوص العهد القديم من الكتاب المقدس، وتحديداً سفر التكوين، الاصحاح الثامن – العدد4 ، بالإضافة الى الإشارة الى القرى والمدن والمساجد والاديرة المنبثة حول جبل الجودي، على سبيل المثال: قرية الثماني – هشتيان.

تمهيد

يعد جبل الجودي، محل نبوءة نوح أو “مكان النسب”، المكان الذي استقر فيه الفُلك – السفينة بعد الطوفان العظيم، وَفْقًا للتقاليد اليهودية والمسيحية والإسلامية المبكرة جدًا،واستناداً الى ما ورد في الكتاب المقدس – سفر التكوين:[واستقر الفلك في الشهر السابع، في اليوم السابع عشر من الشهر، على جبال أراراط]، (الاصحاح الثامن، العدد4)، وبناءً على ما ورد على في القرآن الكريم): ﴿وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ﴾ ،(سورة هود، الآية 44).

وردت قصة جبل الجودي في القرآن دون تحديد مكانه في سورة هود، كما جاء ذكره في كتاب الحسن بن أحمد الهمداني المتوفى سنة 360هـ/970م  فقال: ” إن أردت بعد أرض الموصل مررت بتكريت وكان الثرثارعن يمينك وأكثر أهل الموصل مذحج وهي ربيعة فإن تياسرت منها وقعت في الجبل المسمى بالجودي يسكنه ربيعة وخلفه الأكراد وخلف الأكراد الأرمن ، وإن تيامنت من الموصل تريد بغداد لقيتك الحديثة وجبل بارما يسمى اليوم حمرين”[1].

وقد عرف البلدانيون (= الجغرافيون) المسلمون جبل الجودي بالقول:”…هو جبل مطل على جزيرة ابن عمر في الجانب الشرقي من دجلة من أعمال الموصل، عليه استوت سفينة نوح (عليـه السلام)، لما نضب الماء، و في التوراة : أمر الله عز وجل، نوحاً، عليه السلام، أن يعمل سفينة طولها ثلاثمائة ذراع و عرضها خمسون ذراعاً وسمكها ثلاثون ذراعاً وكانت من خشب الشمشاد مقيرة بالقار، وجاء الطوفان في سنة الستمائة من عمر نوح، عليه السلام، في الشهر الثاني في اليوم السابع عشر منه، وأقام المطر أربعين يوماً وأربعين ليلة ، وأقام الماء على الأرض مائة وخمسين يوماً ، واستقرت السفينة على الجودي” في الشهر السابع في اليوم السابع عشر منه، ولما كان في سنة إحدى وستمائة من عمر نوح في اليوم الأول من الشهر الأول خف الماء من الأرض، وفي الشهر الثاني في اليوم السابع والعشرين منه جفت الأرض وخرج نوح ومن معه من السفينة وبنى مسجداً ومذبحاً الله تعالى وقرب قرباناً، هذا لفظ تعريب التوراة حرفاً حرفاً؛ ومسجد نوح، عليه السلام، موجود إلى الآن بالجودي”[2].

ويرى من جزيرة ابن عمر (= الجزيرة)، من شرقيها، جبل الجودي. وفي قمته مسجد نوح، وتحت الجبل قرية الثمانين، وهو الجبل الذي يتفق موضعه في الجزيرة وما حددته الروايات الإسلامية[3].

وقد عرف البلداني – الجغرافي الاصطخري (المتوفى سنة 340هـ) قرية الثمانين[4] بأنها قرية تقع أسفل جبل الجودي، قيل إن جميع من كانوا مع النبي نوح في سفينة النجاة، التي استوت على الجودي، ثمانون رجلاً إذ بنوا تلك القرية ولم يعقب منهم أحد. غير أن بلدانياً آخر أشار الى جبل الجودي بشكل مختلف بقوله:” ودمشق هي إرمُ ذات العِمادِ وكانت قبل دار نوح صلّى الله عليه ومن جبل لبنان كان مبتدأ سفينته، واستوت على الجُوديّ، جبل قَردَى (= قردي)، ولما كثر ولد نوح نزلوا بابل السواد في ملك نمرود بن كوش وهو أول ملك كان في الأرض”[5].

فيما جاء تعريف قرية الثمانين (= هشتيان باللغة الكردية) عند االبلداني ابن حوقل النصيبي (المتوفى بعد سنة377هـ) بقوله: “وجبل الجودي بقرب الجزيرة وفيه القرية المعروفة بثمنين التي يقال إن سفينة نوح عليه السلم (= هكذا ورد في النص) استقرت عليه لقوله تعالى واستوفت على الجوديّ، (ويتصل هذا الجبل كما ذكرت بالثغور باللكام ويقال أنّ جميع من كان مع نوح عليه السلم في السفينة ثمانون رجلاً فبنوا هذه القرية ولم يعقب منهم أحد فسُميّت باسم عددهم”[6].

وقد تطورت هذه القرية الى مدينة، فقد وصفها المقدسي في المائة الرابعة الهجرية/ العاشر الميلادي، بأنها مدينة تقع على نهر غزير يقبل من أرمينية تحت الجودي[7]، وأضاف:” لما خرج نوح من السفينة بنى قرية وسمّاها ثمانين، وكانت أول قرية بعد الطوفان بناها نوح بعددهم لكل رجل ممّن معه بيتاً فهي أول مدينة بنيت بالجزيرة[8]، وهي تقع على مرحلة شمال الحَسَنية (= زاخو الحالية)[9]. وسماها المستوفي القزويني بسوق ثمانين، وقال إن الخراب كان مستحوذاً عليها في أيامه (القرن الثامن الهجري/ الرابع عشر الميلادي)[10].

فيما عرفها ياقوت الحموي في القرن السابع الهجري/ الثالث عشر الميلادي بالقول: بليدة عند جبل الجودي” قرب جزيرة ابن عمر التغلبي فوق الموصل، كان أول من نزله نوح، عليه السلام لما خرج من السفينة ومعه ثمانون إنساناً، فبنوا لهم مساكن بهذا الموضع وأقاموا به، فسمي الموضع بهم، ثم أصابهم وباء فمات الثمانون غير نوح (عليه السلام) وولده، فهو أبو البشر كلهم…” [11].

ويعد القزويني (المتوفى سنة682هـ) أول بلداني أشار الى وجود دير على قمة جبل الجودي مبني منذ أيام نوح ولم تتجدد عمارته الى أيامه[12].

وبخصوص مدينة شرناخ فلا تتوفر عنها معلومات في المصادر الإسلامية، يمكن أن تكون قد بنيت على أنقاض مدينة الثمانين (= هشتيان)، والدليل على ذلك قربها أي الأخيرة من مدينة شرناخ الحالية عاصمة الولاية التركية.

 

 

الفصل الأول

قصة النبي نوح في القرآن الكريم والمصادر الإسلامية حتى استقرار السفينة على جبل الجودي

 

وردت قصة طوفان نبي الله نوح الشهيرة في الكتب السماوية الثلاث التوراة والانجيلوالقرآن الكريم، حيث ذكرت الكتب السماوية جميعها قصة طوفان عظيم حدث لقوم سيدنا نوح عليه السلام وأدى إلى إغراق الكفار والعاصين من البشر عدا المؤمنين الذين ركبوا مع نوح في سفينة النجاة، تلك السفينة التي صنعها نوح بنفسه وبوحي من الله تعالى وتحت رعايته.

وكان الناس يعتقدون حتى أواخر القرن التاسع عشر أن التوراة هي أقدم مصدر لقصة الطوفان لكن في عام 1853م عثر على نسخة من رواية الطوفان البابلية وفي الفترة بين 1889 و1900م اكتشفت بعثة أثرية أمريكية اللوح الطيني الذي يحتوي على القصة السومرية للطوفان في مدينة نيبور(نفر) في جنوب العراق. ويبدو من طابع الكتابة التي كتبت بها القصة السومرية أنها تعود إلى ما يقرب من ثلاثة آلاف عام قبل الميلاد.[13]

وجدير بالذكر أنه تقريبا لم تخل ذاكرة من الشعوب من قصة الطوفان؛ حيث أننا نجد تقريبا أكثر من 500 أسطورة حول الطوفان تنحدر من ذاكرة شعوب مختلفة تتحدث عن هذا الحدث العالمي مثل: البابليون، السومريون، الأشوريون، الفرس، اليونان، البرازيل، الهند، الصين، تايلاند، وحتى في استراليا عند السكان الأصليين، ومعظم جزر المحيط الهادي، وحتى بين الهنود الحمر السكان الأصليين للأمريكيتين، وأوربا وأفريقيا. وجميع قصص الطوفان التي وردت سواء في الديانات السماوية أو في الأساطير العراقية القديمة أوغيرها تتفق أغلبها على أن الإهلاك ثم بطغيان الماء، وأن نجاة الناجين قد تمت في سفينة رست على قمة جبل، وجميع الكتب السماوية اتفقت على حدوث الطوفان في عهد سيدنا نوح عليه السلام[14].

وكان الناس يعتقدون حتى أواخر القرن الماضي أن التوراة هي أقدم مصدر لقصة الطوفان، ولكن الاكتشافات الحديثة أثبتت غير ذلك؛ حيث عثر في عام 1853م على نسخة من رواية الطوفان البابلية. وفي الفترة ما بين 1889 م، 1900م. اكتشفت أول بعثة أثرية أمريكية قامت بالتنقيب في العراق اللوح الطيني الذي يحتوي على القصة السومرية للطوفان في مدينة “نيبور” (نفر) وهي أقدم قصة للطوفان،ومن بعدها جاءت القصة البابلية …الخ. كما جاء ذكر الطوفان في القرآن الكريم في كثير منالسور والآيات.

 

قصة الطوفان في القرآن الكريم

جاء ذكر الطوفان في القرآن الكريم في كثير منالسور والآيات في مواضع متعددة.وطبقا للقرآن الكريم تتلخص قصة الطوفان في عدة مراحل: دعوة سيدنا نوح لقومه فترة طويلة 950 عاما وعدم استجابتهم له إلا قليل، ثم توجه نوح إلى الله بالدعاء على قومه، ثم أمر الله تعالى سيدنا نوح بصناعة السفينة، وما تلاها من حدوث الطوفان. واستنادا الى القرآن الكريم فإن الطوفان عندما حدث مربمراحل متتالية ومتنامية: فبعد أن بني نوح السفينة بوحي من ربه وتحت عينه ورعايته أعطاه الله علامة يعرف بها بداية الطوفانحتى يتمكن أن يحمل من معه وما لديه في تلك السفينة في الوقت المناسب.

وبخصوص موضوع بحثنا فإننا سوف ندرج الآيات القرآنية في سورة هود لأنها تفي بالغرض، لا سيما وان سفينة نوح استقرت في الأخير على جبل الجودي {وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ}. سورة هود: الآية 44.

وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ  (25) أَنْ لَا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ  (26) فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا نَرَاكَ إِلَّا بَشَرًا مِثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ  (27) قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتَانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنْتُمْ لَهَا كَارِهُونَ  (28) وَيَا قَوْمِ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالًا إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ  (29) وَيَا قَوْمِ مَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ طَرَدْتُهُمْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ  (30) وَلَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ وَلَا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللَّهُ خَيْرًا اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا فِي أَنْفُسِهِمْ إِنِّي إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ  (31) قَالُوا يَا نُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ  (32) قَالَ إِنَّمَا يَأْتِيكُمْ بِهِ اللَّهُ إِنْ شَاءَ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ  (33) وَلَا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ هُوَ رَبُّكُمْ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ  (34) أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَعَلَيَّ إِجْرَامِي وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تُجْرِمُونَ  (35) وَأُوحِيَ إِلَى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ فَلَا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ  (36) وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ  (37) وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ قَالَ إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ  (38) فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُقِيمٌ  (39) حَتَّى إِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ  (40) وَقَالَ ارْكَبُوا فِيهَا بِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ  (41) وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبَالِ وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ يَا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنَا وَلَا تَكُنْ مَعَ الْكَافِرِينَ  (42) قَالَ سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ قَالَ لَا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ  (43) وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ(44)[15].

وذكر الطبري في تفسيره أثراً غريباً يتعلق بسفينة نوح من جهة حجمها وطولها والمدة التي صُنعت فيها، والمادة التي تكونت منها، والمخلوقات التي كانت عليها… ونقل تلك التفصيلات السيوطي في تفسيره (الدر المنثور) أيضاً، وهي من الإسرائيليات التي اختلقها اليهود، وأضرابهم على مر العصور، وكانت شائعة مشهورة في الجاهلية، فلما جاء الإسلام نشرها أهل الكتاب الذين أسلموا بين المسلمين، وهؤلاء رووها بحسن نية، ولم يزيفوا، اعتماداً على أن ظاهرها البطلان. وقد أشار ابن كثير إلى غرابة ما رواه الطبري في تفسيره (تفسير القرآن العظيم)، رغم أن تفسيره هو الاخر لا يخلو من إسرائيليات. وقال الرازي بعد أن ذكر هذه الأقوال: واعلم أن أمثال هذه المباحث لا تعجبني؛ لأنها أمور لا حاجة إلى معرفتها البتة، ولا يتعلق بمعرفتها فائدة أصلاً، وكان الخوض فيها من باب الفضول، ولا سيما مع القطع بأنه ليس ههنا ما يدل على الجانب الصحيح. وما قاله الرازي هو الذي ينبغي المصير إليه والتعويل عليه في مثل هذه الأخبار.

يقول السيد محمد رشيد رضا(المتوفى سنة1935م) في تفسيره ( تفسير المنار) بخصوص قصة نبي الله نوح (عليه السلام) وحادثة الطوفان ما نصه:”…أن أحداث التاريخ وضبط وقائعه وأزمنتها وأمكنتها ليس من مقاصد القرآن ، وان ما فيه من قصص الرسل مع أقوامهم فإنما هو بيان لسنة الله فيهم وما تتضمنه من أصول الدين والاصلاح التي أجملناها في بيان حكمة التحدي بعشر صور منه من تفسير هذه السورة، بعشر جمل جامعة لأنواع المعارف والفوائد والعبر والمواعظ والنذر المتفرقة، وبينا أن قصة نوح عليه السلام جاءت في عدة سور في كل سورة منها ما ليس في سائرها من ذلك، ولهذا لم يذكر فيها من حادثه الطوفان إلا ما فيه العبرة والموعظة المقصودة بالذات منها ، فذكرت في بعضها بآية وفي بعضها بآيتين فما فوقها من جمع القلة،وما في هذه السورة هو أطولها وأجمعها”[16].

ويطرح السيد رشيد رضا سؤالاً مفاده هل كان الطوفان عم الأرض كلها، أم كان خاصاً بمنطقة ما؟، فكان جوابه:” نص التوراة – أو سفر التكوين – أن الطوفان كان عاما مهلكا لجميع البشر، إلا ذرية نوح من أبنائه الثلاثة: سام وحام و يافث فانه لم يكن في الارض غيرهم، بحسب ما سبق فيه خبره من خلق السموات والارض آدم وذريته كما تقدم والله تعالى يقول(ما أشهد تهم خلق السموات والارض ولا خلق أنفسهم) أما قوله في نوح عليه السلام بعد ذكر تنجيته وأهله ( 77 : 37 وجعلنا ذريته هم الباقين) فالحصر فيهم يجوز أن يكون إضافيا أي الباقين دون غيرهم من قومه ، وأما قوله ( ٢٦ : ٧١ وقال نوح رب لا تذر على الارض من الكافر من دياراً) فليس نصاً في ان المراد بالأرض هذه الكرة كاها فان المعروف في كلام الانبياء والاقوام وفي اخبارهم أن تذكر الارض و يراد بها أرضهم ووطنهم كقوله تعالى حكاية عن خطاب فرعون لموسى وهارون ( ۱۱ : ٨٧ وتكون لكما الكبرياء في الارض) يعني أرض مصر، وقوله ( 76 : 17 وإن كادوا ليستفزونك من الارض ليخر جوك منها ) فالمراد بها مكة ، وقوله ( 17 : 4 وقضينا إلى بني اسرائيل في الكتاب لتفسدن في الارض مرتين ) والمراد بها الارض التي كانت وطنهم والشواهد عليه كثيرة ولكن ظواهر الآيات تدل بمعونة القرائن والتقاليد الموروثة عن أهل الكتاب على انهلم يكن في الارض كلها في زمن نوح إلا قومه، وأنهم هلكوا كلهم بالطوفان. ولم يبق بعده فيها غير ذريته، وهذا يقتضي أن يكون الطوفان في البقعة التي كانوا فيها من الارض سهلها وجبالهالا في الارض كلها، إلا إذا كانت اليابسة منها في ذلك الزمن صغيرة لقرب المهد بالتكوين وبوجود البشر عليها،فان علماء التكوين وطبقات الارض (الجيولوجية) يقولون ان الارض كانت عند انفصالها من الشمس كرة نارية ملتهبة ثم صارت كرة مائية ثم ظهرت فيها اليابسة بالتدريج[17].

ويشير السيد رشيد رضا الى أن سفر التكوين ليس من توراة موسىوسفر التكوين هذا ليس حجة قطعية فيما ذكر فيه فضلا عما سكت عنه، فان التوراة التي كتبها موسى عليه السلام ووضعها بجانب تابوت العهد كما ذكر في سفر التثنية قد فقدت هي والتابوت بحريق الهيكل، وهذه الاسفار المعتمدة عند اليهود قد كتبت كلها بعد الرجوع من سبي بابل في سنة 536 قبل ميلاد المسيح عليه السلام [18]. ويقولون إن عزرا (= العزير في القرآن الكريم)هو الذي كتبها وجمعها، وليس لها سند متصل اليه دع اتصالها بمن قبله،وقد اشتهر ان الاستاذ جبر ضومط مدرس البلاغة في الجامعة الامريكانية ببيروت ألف رسالة رجح فيهـا ان سفر التكوين مأثور عن يوسف عليه السلام ولما نطلع عليه، وجملة القول أنه ليس له سند إلى من كتبه، ولا يقوم دليل على انه وحي من الله تعالى ولكنه على كل حال أثر تاريخي قديم له قيمته، وأما القرآن فقد قامت البراهين على انه كلام الله ووحيه إلى محمد رسول الله وخاتم النبيين كما فصلناه في مواضع كثيرة أجمعها ( كتاب الوحي المحمدي) [19].

الإسرائيليات في تفسير قصة نوح

وقد ورد في تواريخ أكثر الامم القديمة ذكر للطوفان منها الموافق لخبر سفر التكوين إلا قليلا ومنها المخالف له إلا قليلا وأقرب الروايات اليه رواية الكلدانيين  وهم الذين وقع الطوفان في بلادهم فقد نقل عنهم برهوشع و يوسيفوس ان زيزستروس رأى في الحلم بعد موت و الده أو تيرت ان المياه – تطغى و تغرق جميع البشر وأمره بناء سفينة يعتصم فيها هو وأهل بيته وخاصة أصدقائه ففعل، وهو يوافق سفر التكوين في أنه كان في الارض جيل من الجبارين طغوا فيها وأكثروا الفساد فعاقبهم الله بالطوفان وقد عثر بعض الإنكليز على ألواح من الآجر نقشت فيها هذه الرواية بالحروف المسمارية في عصر أشوربانيبال من نحو 660 سنة قبل ميلاد المسيح، وانها منقولة من كتابة قديمة من القرن السابع عشر قبل المسيح او قبله،فهي أقدم من سفر التكوين. وروى اليونان خبراً عن الطوفان أورده أفلاطون وهو ان كهنة المصريينقالوا لسولون (الحكيم اليوناني) ان السماء أرسلت طوفاناً غير وجه الارض فهلك البشر مراراً بطرق مختلفة فلم يبق للجيل الجديد شيء من آثار من قبله ومعارفهم وأورد مانيتون خير طوفان حدث بعد هرمس الاول الذي كان بعد ميناس الاول، وهذا أقدم من تاريخ التوراة أيضاً[20].

واستطرد السيد رشيد رضا بالقول حول خبر عموم الطوفان بالأرض:” وروي عن قدماء اليونان خبر طوفان عم الارض كلها إلا دوكاليون وامرأته بيرا فقد نجوا منه، وروي عن قدماء الفرس طوفان أغرق الله به الارض بما انتشر فيها من الفساد والشرور بفعل (اهريمان) إله الشر، وقالوا ان هذا الطوفان فار   أولامن تنور العجوز (زول كوفه) إذ كانت مخبز خبزها فيه، ولكن المجوس أنكروا عموم الطوفان وقالوا انه كان خاصاً باقليم العراق وانتهى إلى حدود كردستان. وكذا قدماء الهنود يثبتون وقوع الطوفان سبع مرات في شكل خرافي آخر ها أن ملكهم نجاهو وامرأته في سفينة عظيمة أمره بصنعهاإلهه فشنو وشدها بالدسر حتى استوت على جبل جيافات (هملايا) ولكن البراهمة كالمجوس ينكرون وقوع طوفان عام أغرقالهند كلها.ويروى تمددالطوفان عن اليابان والصين وعن البرازيل والمكسيك وغيرهما وكل هذه الروايات تتفق في ان سبب ذلك عقاب الله للبشر بظلمهم وشرورهم[21].

ومن جانبه يهاجم السيد رشيد رضا المفسرين القدماء الذين حشوا تفاسيرهم بالإسرائيليات، نقلاً عن الصحابة والتابعين، ولم يرفع منه شيء الى النبي صلى الله عليه وسلم بسند صحيح ولا حسن، وجاء بأمثلة منها ليس مجال سردها الآن[22].

وقد نقل معظم المفسرين المعاصرين معلوماتهم بخصوص الطوفان من تفسير المنار للسيد محمد رشيد رضا، وأضافوا إليها المعلومات المستجدة في عصرهم، يقول السيد محمد جمال الدين القاسمي (المتوفى سنة1914م) في تفسيره (محاسن التأويل) بشأن حادثة الطوفان: “ذهب العلماء في الطوفان مذاهب شتى فالأكثرون على أنه عم الأرض بأسرها، ومن ذاهب الى انه لم يعم إلا الأرض المأهولة وقتئذ بالبشر، ومن جانح إلى أنه لم يعمهاكلها ولم يهلك البشر كلهم ولكل فريق حجج يدعم بها مذهبه. قال تقي الدين المقريزي في (الخطط) إن جميع أهل الشرائع أتباع الأنبياء، منالمسلمينواليهود والنصارى قد أجمعوا على أن نوحا هو الأب الثاني للبشر، وأن العقب من آدم عليه السلام انحصر فيه، ومنه ذرأ الله جميع أولاد آدم، فليس أحد من بني آدم إلا وهو من أولاد نوح، وخالفت القبط والمجوس وأهل الهند والصين ذلك، فأنكروا الطوفان. وزعم بعضهم أن الطوفان إنما حدث في إقليم بابل وما وراءه من البلاد الغربية فقط، وأن أولاد (كيومرت) الذي هو عندهم (الإنسانالأول)[23]، كانوا بالبلاد الشرقية من بابل، فلم يصل الطوفان إليهم، ولا إلى الهند والصين والحق ما عليه أهل الشرائع، وأن نوحا عليه السلام، لما أنجاه الله ومن معه بالسفينة، نزل بهم، وهم ثمانون رجلاً سوى أولاده، فماتوا بعد ذلك، ولم يعقبوا، وصار العقب من نوح في أولاده الثلاثة ويؤيد هذا قول الله تعالىعن نوح: {وجعلنا ذريته هم الباقين}.[الصافات:۷۷].

ومن جهة أخرى يذكرإبن الأثير في كتابه (الكامل في التاريخ)،وابن خلدون في كتابه (تاريخ العرب والعجم والبربر ومن عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر) اتفقوا على أن الطوفان الذي كان في زمن نوح وبدعوته، ذهب بعمران الأرض أجمع، بما كان من خراب المعمور، وهلك الذين ركبوا معه في السفينة،ولم يعقبوا فصار أهل الأرض كلهم من نسله، وعاد أبا ثانيا للخليقة[24].

وبخصوص آثار الطوفان ونتائجها، ينقل القاسمي عن البعض دون الإشارة إليهم:”قال بعضهم (في تقرير عموم الطوفان، مبرهنا عليه) إن مياه الطوفان قد تركت آثاراً عجيبة في طبقات الأرض الظاهرة، فيشاهد في أماكن رواسب بحرية ممتزجة بالأصداف، حتى في قمم الجبال، ويرى في السهول والمفاوز بقايا حيوانية ونباتية مختلطة بمواد بحرية، بعضها ظاهر على سطحها، وبعضها مدفون على مقربة منه. واكتشف في الكهوف على عظام بعيدة الائتلاف، معها بقايا آلات صناعية، وآثار بشرية، مما يثبت حيوانية متخالفة الطباعان طوفانا قادها إلى ذاك المكان، وجمعها قسرا فأبادها، فتغلغلت بين طبقات الطين فتحجرت،وظلت شهادة على ما كان، بأمر الخالق تعالى”[25].

وقد استفتى مفتي الديار المصرية الاستاذ الامام محمد عبده (المتوفى سنة1905م) في هذه المسألة فأفتى بما ننقله من الجزء الاول من تاريخه وهو: فتوى الاستاذ الامام في طوفان نوح، جواباًعلى سؤال ورد على الاستاذ الاسام مفتي الديار المصرية من حضرة الأستاذ الشيخ عبد الله القدومي خادم العلم الشريف بمدينة نابلس، وفيه نص السؤال: وصلنا مكتوبكم المؤرخ في 4 شوال سنة 1317 الذي نهيم به أنه ظهر فيبلكم نشء جديد من الطلبة ديدنهم البحث في العلوم والرياضة والخوض في توهين الادلة القرآنية، وقد سمع من مقالتهم الآن أن الطوفان لم يكن عاما لإنحاءالارض، بل هو خاص بالأرض التي كان بها قوم نوح عليه السلام، وأنه بقيناس في أرض الصين لم يصبهم الغرق، وان دعاء نوح عليه السلام بهلاك الكافرين  لم يكن عاما بل هو خاص بكفار قومه، لأنه لم يكن مرسلا إلا إلى قومه بدليل  ما صح ” وكان كل نبي يبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى الناس كافة ، فادا قيل لهم : ان الآيات الكريمة ناطقة بخلاف ذلك، كقوله تعالى حكاية عننوح عليه السلام (رب لا تذر على الارض من الكافرين ديارا)، وكقوله تعالى(وجعلنا ذريته هم الباقين )، وقوله تعالى ( لا عاصم اليوم من أمر الله إلا من رحم )، قالوا هي قابلة للتأويل ولا حجة فيها، وإذا قيل لهم ان جهابذة المحدثين أجابوا بأنه صح في أحاديث الشفاعة أن نوحاً عليه السلام أول رسول بعثه الله إلى أهل الارض، وانه يتعين أن يكون قومه أهل الارض، ويكون عموم بعثته أمراً اتفاقياً لعدم وجود أحد غير قومه، ولو وجد غيره لم يكن مرسلا اليهم ـ سخروا من المحدثين واستندوا إلى حكايات منسوبة إلى أهل الصين ورغبتم منا بذلك المكتوب كشف الغطاء عن سر هذا الحادث العظيم، والإفادة بما يقتضيه الحق، و يطمئن اليه القلب.

والجواب على ذلك والحمدالله:” أما القرآن الكريم فلم يرد فيه نص قاطع على عـموم الطـوفان ولا عموم رسالة نوح عليه السلام. وما ورد من الأحاديث، على فرض صحة سنده، فهو أحاد لا يوجب اليقين. والمطلوب في تقرير مثل هذه الحقائق هو اليقين لا الظن، إذا عد اعتقادها من عقائد الدين. وأما المؤرخ، ومريد الاطلاع، فله أن يحصل من الظن ما ترجحه عنده ثقته بالراوي أو المؤرخ، أو صاحب الرأي. وما يذكره المؤرخون والمفسرون في هذه المسألة لا يخرج عن حد الثقة بالرواية، أو عدم الثقة بها، ولا يتخذ دليلاً قطعيا على معتقد ديني. أما مسألة عموم الطوفان في نفسها، فهي موضوع نزاع بين أهل الأديان، وأهل النظر في طبقات الأرض وموضوع خلاف بين مؤرخي الأمم: فأهل الكتاب وعلماء الأمة الإسلامية على أن الطوفان كان عاما لكل الأرض، ووافقهم على ذلك كثير من أهل النظر، واحتجوا على رأيهم بوجود بعض الأصداف والأسماك المتحجرة في أعالي الجبال، لأن هذه الأشياء مما لا يتكون إلا في البحر، فظهورها في رؤوس الجبال دليل على أن الماء صعد إليها مرة من المرات، ولن يكون ذلك حتى يكون قد عم الأرض. ويزعم غالب أهل النظر من المتأخرين أن الطوفان لم يكن عاما، ولهم على ذلك شواهد يطول شرحها. غير أنه لا يجوز لشخص مسلم أن ينكر قضية أن الطوفان كان عاما لمجرد حكايات عن أهل الصين أو لمجرد احتمال التأويل في آيات الكتاب العزيز. بل على كل من يعتقد بالدين،ألا ينفي شيئا مما يدل عليه ظاهر الآيات والأحاديث التي صح سندها، وينصرف عنها إلى التأويل، إلا بديل عقلي يقطع بأن الظاهر غير مراد. والوصول إلى ذلك في مثل هذه المسألة يحتاج إلى بحث طويل، وعناء شديد، وعلم غزير في طبقات الأرض، وما تحتوي عليه، وذلك يتوقف على علوم شتى، نقلية وعقلية. ومن هدى برأيه بدون علم يقيني، فهو مجازف، ولا يسمع له قول، ولا يسمح له ببث جهالاته، والله سبحانه وتعالى أعلم”[26].

ويستطرد السيد القاسمي الحديث حول شمول الطوفان لكل الأرض بالقول: “واستظهر بعضهم أن الطوفان كان عاما، إذ لم يكن العمران قائما إلا بقوم نوح، فكان عاما لهم، وإن كان من جهة خاصا بهم، إذ ليس ثم غيرهم،قال: هبط آدم إلى الأرض، وهو ليس بأمة إذا مضت عليها قرون ولدت أمما، بل هو واحد تمضي عليه السنون، بل القرون، ونمو عشيرته لا يكاد يكون إلا كما يتقلص الظل قليلاً قليلاً، من آدم إلى نوح ثمانية آباء، فإن كان ثمانية آباء يعطون من الذرية أضعافا وآلافا حتى يطؤوا وجه الأرض بالأقدام، وينشروا العمران في تلك الأيام، فتلك قضية من أعظم ما يذكره التاريخ أعجوبة للعالمين! أما تلك الجبال التي وجدت فوقها عظام الأسماك، فإن كانت مما وصل إليه الطوفان من المكان الخاص الذي سبق به البيان، فلا برهان. وإن كانت في غير ذلك المكان، فإن لم يكن وضعها إنسان، كما وجدها إنسان، كان نقل الجوارح والكواسر لتلك العظام، إلى تلك الجبال مما يسوغه الإمكان. بهذا وبغيره مما لا يغيب عن الأفهام، تعلم أن الطوفان خاص عام: خاص بمكان، عام سائر المكان”[27].

وفي السياق نفسه أشار السيد سعيد حوى (المتوفى سنة1889م) في تفسيره (الأساس في التفسير) الى بعض النقاط التي تضفي مزيدا من المعلومات الى قصة نبي الله نوح والطوفان، ومن أهمها:

۱ – بسبب من الصراع العنيف بين الكنيسة والفكر العلماني عند الغربيين، فقد تتبع الكثيرون من الغربيين ما له علاقة بقصة نوح عليه السلام، وكتبوا في ذلك الكتب الكثيرة، وقد وجد المتتبعون لحفريات ما بين النهرين الكثير مما له علاقة بقصة نوح، كانت بمثابة رد على الفكر الإلحادي الذي غلب عليه الإنكار. وقد تبين من خلال الحفريات، أن قصة الطوفان كانت مشتهرة على مدى العصور القديمة عند أهل المنطقة، ولعل من أبرز الآثار التي أشارت إليها ما اشتهر باسم ملحمة (كلكامش) هذه الملحمة الأسطورية التي كتبت ـ فيما يبدو ـ بعد الطوفان بقرون كثيرة، وفيها كلام واضح عن الطوفان، وعن نوح عليه السلام، وهذه الملحمة واحدة من أثار كثيرة عثر عليها، تشير إلى الطوفان وإلى نوح عليه السلام.

٢ – وقف الكثيرون من أئمة البلاغة عند قوله تعالى: {وقيل يا أرض ابلعي ماءك ويا سماءأقلعي…}، ومما قاله الألوسي فيها:(هذا واعلم أن هذه الآية الكريمة قد بلغتواحدةمن مراتب الإعجاز أقاصيها، واستذلت مصاقع العرب فسفعت بنواصيها، وجمعت من المحاسن ما يضيق عنه نطاق البيان، وكان من سمهري البلاغة مكان السنان)[28].

2 – ما هو الجودي الذي ورد ذكره في القرآن؟ قال مجاهد: هو جبل في الجزيرة. وقال قتادة: قد أبقى الله سفينة نوح عليه السلام على الجودي من أرض الجزيرة عبرة وآيةحتى رآها أوائل هذه الأمة، وكم من سفينة قد كانت بعدها فهلكت، وصارت رماداً “ويذكر سفر التكوين أنه جبل أرارات”، وقد استطاعت الأقمار الصناعية – ومن قبل ذلك أحد الذين تتبعوا هذا الأمر – أن يحددوا مكان بقاياها التي لازالت موجودة حتى الآن، معجزة دائمة على الدهر، وهي في المنطقة السوفياتية من أرمينيا حالياً، هكذانقلت إذاعة إسرائيل في إحدى نشراتها والله أعلم.[29]

 

 

المبحث الثاني

قصة النبي نوح في العهد القديم حتى استقرار السفينة على جبل آرارات

 

قبل التطرق الى الكتابات اليهودية، لا بد من الإشارة الى أن غالبية من تطرق الى سيرة النبي نوح وقصة الفيضان تطرقوا الى الإصحاحات العديدة من نهاية الخامس وانتهاءً بالتاسع من سفر التكوين ففيها القول الفصل في هذا المضمار، وتجري أحداثها على النحو التالي: 32 وكان نوح ابن خمس مئة سنة. وولد نوح: ساما، وحاما، ويافث.

1 وحدث لما ابتدأ الناس يكثرون على الارض، وولد لهم بنات، 2 ان ابناء الله راوا بنات الناس انهن حسنات. فاتخذوا لأنفسهم نساء من كل ما اختاروا. 3 فقال الرب: «لا يدين روحي في الانسان الى الابد، لزيغانه، هو بشر. وتكون ايامه مئة وعشرين سنة». 4 كان في الارض طغاة في تلك الايام. وبعد ذلك ايضا اذ دخل بنو الله على بنات الناس وولدن لهم اولادا، هؤلاء هم الجبابرة الذين منذ الدهر ذوو اسم”.

5 ورأى الرب ان شر الانسان قد كثر في الارض، وان كل تصور افكار قلبه انما هو شرير كل يوم. 6 فحزن الرب انه عمل الانسان في الارض، وتأسف في قلبه. 7 فقال الرب: «امحو عن وجه الارض الانسان الذي خلقته، الانسان مع بهائم ودبابات وطيور السماء، لأني حزنت اني عملتهم». 8 واما نوح فوجد نعمة في عيني الرب.

9 هذه مواليد نوح: كان نوح رجلا بارا كاملا في اجياله. وسار نوح مع الله. 10 وولد نوح ثلاثة بنين: ساما، وحاما، ويافث. 11 وفسدت الارض امام الله، وامتلات الارض ظلما. 12 ورأى الله الارض فاذا هي قد فسدت، اذ كان كل بشر قد افسد طريقه على الارض.

13 فقال الله لنوح: «نهاية كل بشر قد اتت امامي، لان الارض وامتلات ظلما منهم. فها انا مهلكهم مع الارض. 14 اصنع لنفسك فلكا من خشب جفر. تجعل الفلك مساكن، وتطليه من داخل ومن خارج بالقار. 15 وهكذا تصنعه: ثلاث مئة ذراع يكون طول الفلك، وخمسين ذراعا عرضه، وثلاثين ذراعا ارتفاعه. 16 وتصنع كوا ً للفلك، وتكمله الى حد ذراع من فوق. وتضع باب الفلك في جانبه. مساكن سفلية ومتوسطة وعلوية تجعله. 17 فها انا ات بطوفان الماء على الارض لأهلك كل جسد فيه روح حياة من تحت السماء. كل ما في الارض يموت. 18 ولكن اقيم عهدي معك، فتدخل الفلك انت وبنوك وامراتك ونساء بنيك معك. 19 ومن كل حي من كل ذي جسد، اثنين من كل تدخل الى الفلك لاستبقائها معك. تكون ذكرا وانثى. 20 من الطيور كأجناسها، ومن البهائم كأجناسها، ومن كل دبابات الارض كأجناسها. اثنين من كل تدخل اليك لاستبقائها. 21 وانت، فخذ لنفسك من كل طعام يؤكل واجمعه عندك، فيكون لك ولها طعاما». 22 ففعل نوح حسب كل ما امره به الله. هكذا فعل.

1 وقال الرب لنوح: «ادخل انت وجميع بيتك الى الفلك، لأني اياك رأيت بارا لدي في هذا الجيل. 2 من جميع البهائم الطاهرة تأخذ معك سبعة سبعة ذكرا وانثى. ومن البهائم التي ليست بطاهرة اثنين: ذكرا وانثى. 3 ومن طيور السماء ايضا سبعة سبعة: ذكرا وانثى. لاستبقاء نسل على وجه كل الارض. 4 لأني بعد سبعة ايام ايضا امطر على الارض اربعين يوما واربعين ليلة. وامحو عن وجه الارض كل قائم عملته». 5 ففعل نوح حسب كل ما امره به الرب.

6 ولما كان نوح ابن ست مئة سنة صار طوفان الماء على الارض، 7 فدخل نوح وبنوه وامراته ونساء بنيه معه الى الفلك من وجه مياه الطوفان. 8 ومن البهائم الطاهرة والبهائم التي ليست بطاهرة، ومن الطيور وكل ما يدب على الارض: 9 دخل اثنان اثنان الى نوح الى الفلك، ذكرا وانثى، كما امر الله نوحا.

10 وحدث بعد السبعة الايام ان مياه الطوفان صارت على الارض. 11 في سنة ست مئة من حياة نوح، في الشهر الثاني، في اليوم السابع عشر من الشهر في ذلك اليوم، انفجرت كل ينابيع الغمر العظيم، وانفتحت طاقات السماء. 12 وكان المطر على الارض اربعين يوما واربعين ليلة. 13 في ذلك اليوم عينه دخل نوح، وسام وحام ويافث بنو نوح، وامرأة نوح، وثلاث نساء بنيه معهم الى الفلك. 14 هم وكل الوحوش كأجناسها، وكل البهائم كأجناسها، وكل الدبابات التي تدب على الارض كأجناسها، وكل الطيور كأجناسها: كل عصفور، كل ذي جناح. 15 ودخلت الى نوح الى الفلك، اثنين اثنين من كل جسد فيه روح حياة. 16 والداخلات دخلت ذكرا وانثى، من كل ذي جسد، كما امره الله. واغلق الرب عليه.

17 وكان الطوفان اربعين يوما على الارض. وتكاثرت المياه ورفعت الفلك، فارتفع عن الارض. 18 وتعاظمت المياه وتكاثرت جدا على الارض، فكان الفلك يسير على وجه المياه. 19 وتعاظمت المياه كثيرا جدا على الارض، فتغطت جميع الجبال الشامخة التي تحت كل السماء. 20 خمس عشرة ذراعا في الارتفاع تعاظمت المياه، فتغطت الجبال. 21 فمات كل ذي جسد كان يدب على الارض من الطيور والبهائم والوحوش، وكل الزحافات التي كانت تزحف على الارض، وجميع الناس. 22 كل ما في انفه نسمة روح حياة من كل ما في اليابسة مات. 23 فمحا الله كل قائم كان على وجه الارض: الناس، والبهائم، والدبابات، وطيور السماء. فانمحت من الارض. وتبقى نوح والذين معه في الفلك فقط. 24 وتعاظمت المياه على الارض مئة وخمسين يوما.

1 ثم ذكر الله نوحا وكل الوحوش وكل البهائم التي معه في الفلك. واجاز الله ريحا على الارض فهدأت المياه. 2 وانسدت ينابيع الغمر وطاقات السماء، فامتنع المطر من السماء. 3 ورجعت المياه عن الارض رجوعا متواليا. وبعد مئة وخمسين يوما نقصت المياه، 4 واستقر الفلك في الشهر السابع، في اليوم السابع عشر من الشهر، على جبال أراراط. 5 وكانت المياه تنقص نقصا متواليا الى الشهر العاشر. وفي العاشر في اول الشهر، ظهرت رؤوس الجبال.

6 وحدث من بعد اربعين يوما ان نوحا فتح طاقة الفلك التي كان قد عملها 7 وارسل الغراب، فخرج مترددا حتى نشفت المياه عن الارض. 8 ثم ارسل الحمامة من عنده ليرى هل قلت المياه عن وجه الارض، 9 فلم تجد الحمامة مقرا لرجلها، فرجعت اليه الى الفلك لان مياها كانت على وجه كل الارض. فمد يده واخذها وادخلها عنده الى الفلك. 10 فلبث ايضا سبعة ايام اخر وعاد فارسل الحمامة من الفلك، 11 فاتت اليه الحمامة عند المساء، واذا ورقة زيتون خضراء في فمها. فعلم نوح ان المياه قد قلت عن الارض. 12 فلبث ايضا سبعة ايام اخر وارسل الحمامة فلم تعد ترجع اليه ايضا.

13 وكان في السنة الواحدة والست مئة، في الشهر الاول في اول الشهر، ان المياه نشفت عن الارض. فكشف نوح الغطاء عن الفلك ونظر، فاذا وجه الارض قد نشف. 14 وفي الشهر الثاني، في اليوم السابع والعشرين من الشهر، جفت الارض.

15 وكلم الله نوحا قائلا: 16 «اخرج من الفلك انت وامراتك وبنوك ونساء بنيك معك. 17 وكل الحيوانات التي معك من كل ذي جسد: الطيور، والبهائم، وكل الدبابات التي تدب على الارض، اخرجها معك. ولتتوالد في الارض وتثمر وتكثر على الارض». 18 فخرج نوح وبنوه وامراته ونساء بنيه معه. 19 وكل الحيوانات، كل الدبابات، وكل الطيور، كل ما يدب على الارض، كأنواعها خرجت من الفلك”.

20 وبنى نوح مذبحا للرب. واخذ من كل البهائم الطاهرة ومن كل الطيور الطاهرة واصعد محرقات على المذبح، 21 فتنسم الرب رائحة الرضا. وقال الرب في قلبه: «لا اعود العن الارض ايضا من اجل الانسان، لان تصور قلب الانسان شرير منذ حداثته. ولا اعود ايضا اميت كل حي كما فعلت. 22 مدة كل ايام الارض: زرع وحصاد، وبرد وحر، وصيف وشتاء، ونهار وليل، لا تزال”.

1 وبارك الله نوحا وبنيه وقال لهم: «اثمروا واكثروا واملأوا الارض. 2 ولتكن خشيتكم ورهبتكم على كل حيوانات الارض وكل طيور السماء، مع كل ما يدب على الارض، وكل اسماك البحر. قد دفعت الى ايديكم. 3 كل دابة حية تكون لكم طعاما. كالعشب الاخضر دفعت اليكم الجميع. 4 غير ان لحما بحياته، دمه، لا تأكلوه. 5 واطلب انا دمكم لأنفسكم فقط. من يد كل حيوان اطلبه. ومن يد الانسان اطلب نفس الانسان، من يد الانسان اخيه. 6 سافك دم الانسان بالإنسان يسفك دمه. لان الله على صورته عمل الانسان. 7 فاثمروا انتم واكثروا وتوالدوا في الارض وتكاثروا فيها”.

8 وكلم الله نوحا وبنيه معه قائلا: 9 «وها انا مقيم ميثاقي معكم ومع نسلكم من بعدكم، 10 ومع كل ذوات الانفس الحية التي معكم: الطيور والبهائم وكل وحوش الارض التي معكم، من جميع الخارجين من الفلك حتى كل حيوان الارض. 11 اقيم ميثاقي معكم فلا ينقرض كل ذي جسد ايضا بمياه الطوفان. ولا يكون ايضا طوفان ليخرب الارض». 12 وقال الله: «هذه علامة الميثاق الذي انا واضعه بيني وبينكم، وبين كل ذوات الانفس الحية التي معكم الى اجيال الدهر: 13 وضعت قوسي في السحاب فتكون علامة ميثاق بيني وبين الارض. 14 فيكون متى انشر سحابا على الارض، وتظهر القوس في السحاب، 15 اني اذكر ميثاقي الذي بيني وبينكم وبين كل نفس حية في كل جسد. فلا تكون ايضا المياه طوفانا لتهلك كل ذي جسد. 16 فمتى كانت القوس في السحاب، ابصرها لأذكر ميثاقا ابديا بين الله وبين كل نفس حية في كل جسد على الارض». 17 وقال الله لنوح: «هذه علامة الميثاق الذي انا اقمته بيني وبين كل ذي جسد على الأرض”. 18وكان بنو نوح الذين خرجوا من الفلك ساما وحاما ويافث. وحام هو ابو كنعان. 19 هؤلاء الثلاثة هم بنو نوح. ومن هؤلاء تشعبت كل الارض. 20وابتدأ نوح يكون فلاحا وغرس كرما. 21 وشرب من الخمر فسكر وتعرى داخل خبائه. 22 فابصر حام ابو كنعان عورة ابيه، واخبر اخويه خارجا. 23 فاخذ سام ويافث الرداء ووضعاه على اكتافهما ومشيا الى الوراء، وسترا عورة ابيهما ووجهاهما الى الوراء. فلم يبصرا عورة ابيهما. 24 فلما استيقظ نوح من خمره، علم ما فعل به ابنه الصغير، 25 فقال: «ملعون كنعان! عبد العبيد يكون لإخوته”.  26 وقال: «مبارك الرب اله سام. وليكن كنعان عبدا لهم. 27 ليفتح الله ليافث فيسكن في مساكن سام، وليكن كنعان عبدا لهم. 28وعاش نوح بعد الطوفان ثلاث مئة وخمسين سنة. 29 فكانت كل ايام نوح تسع مئة وخمسين سنة، ومات.

حينئذ طبقا للتوراة تيقن نوح أنه ومن معه يستطيعون النزول إلى الأرض. وبعد خروج نوح من السفينة أو “التابوت ” كما تسميه التوراة يقوم بجمع الأحجار ويبني مذبحا يحرق فوقه بضع حيوانات، فتتصاعد رائحة القريان المشوية لينتشقها الإله الذي سيبارك نوحا ونسله حيث سيعمرون الأرض. أما عن سبب الطوفان في التوراة فهو أن الله رأى الناس قد ظلمت وفسدت وامتلأت الأرض فسادا وظلما طبقاً للتوراة. وهكذا فإن الزمن الذي بقي فيه نوح ومن معه داخل السفينة طبقا للتوراة وبعد حسابه نستنتج أنه كان أشهرا وربما سنة وهذا غير معقول لأسباب كثيرة.

 

 

قصة نوح في سفر التكوين

وأما قصة نوح في سفر التكوين وهو السفر الاول من الاسفار التي يسمونها التوراة فهي قصة تاريخية وردت في سياق أنساب ذرية آدم وتسلسلها في السنين المعدودة، الى أن تتصل ببنى اسرائيل المقصودين بالذات لمؤلفه دون غيرهم من البشر وهذا التاريخ نقضه من أساسه علم الجيولوجية وما كشف من آثار الانسان المتحجرة وغيرها. وفي الفصل الاول من سفر التكوين بيان خلق السماوات والارض في ستة أيام في سادسها خلق آدم، وفي الفصل الثاني تفصيل لما خلق الله في الارض ومنه انه غرس جنة في عدن شرفا ووضع فيها آدم، وفي آخره ذكر خلق حواء من ضلع منأضلاع آدم اليسرى، وفي الفصل الثالث خبر معصية آدم بأكله من شجرة الحياة طاعة لامرأته التي أغوتها الحية وحملتها على الاكل منها ،وفي الفصل الرابع تناسل آدم وحواء ،وفي الخامس مواليد آدم إلى نوح وهو البطن التاسع من ذريته وكان بين خلق آدم وولادة نوح 1056 سنة منها 930 سنة مدة حياة آدم عليه السلام وأما قصة نوح عليه السلام فاستغرقت فيه أربعة فصول من 6 – 9 في آخر التاسع منها ان نوحا عاش 950 سنة وفي أول السادس بيان سبب الطوفان وهو بمعنى ما في القرآن إلاانه بأسلوب تلك الكتب التي تشبه الله تعالى بالإنسان في الصورة والمعنى أو ما تكر رفيه من انه خلق آدم على صورته ( ١ : ٢٦ وقال الله نعمل الانسان على صورتنا كشبهنا فيتسلطون على سمك البحر و على طير السماء و… ۲۷ فخلق الله الانسان على صورته، على صورة الله خلقه ذكراً وأنى) وهذا ما يعنينا في هذا السفر من قصة نوح (5: 6 ورأى الرب ان شر الانسان قد كثر في الأرض. وأن كل تصور أفكار قلبه انما هو شرير كل يوم 6 فحزن الرب انه عمل الانسان في الارض و تأسف في قلبه فقال الرب أمحو عن وجه الارض الانسان الذي خلقته الانسان مع بهائم ودبابات وطيور السماء لأني حزنت عليهم أني عملتهم 8 وأما نوح فوجد نعمة في عيني الرب 9 هذه مواليد نوح : كان نوح رجلا باراً كاملا في أجياله وسار نوح مع الله 10 وولد نوح ثلاثة بنين : ساما وحاما و يافث 11 وفسدت الارض أمام الله وامتلأت ظلها ١٢ ورأى الله الارض فاذا هي قد فسدت إذ كان كل بشر قد أفسد طريقه على الارض 13 فقال الله لنوح : نهاية كل بشر قد أتت أمامي لان الارض امتلأت ظلما منهم فها أنا مهلتهم مع الارض 14 اصنع لنفسك فلكا  من خشب جفر) الخ وهنا وصف طول الفلاك وعرضه وارتفاعه و بابه في جانبه وطبقاته الثلاث ومن يدخل فيه معه وهم امرأنه وبنوه الثلاثة وأزواجهم الثلاث ومن كل حي من كل ذي جسد زوجين اثنين، وكل من يبقى في الارض وتحت السماء يهلك ، وقد كرر ذكر من يدخل الفلك وذكر تاريخ دخول الفلك من عمر نوح ومدة المطر وهو أربعون يوما ومقدار ارتفاع الفلك فوق الجبال وهو كل ذلك في الفصلين السادس والسابع وذكر في الفصل الثامن رجوع المياه عن الارض بالتدريج واستقرار الفلك على جبال أراراط وما كان من خروج نوح ومن معه من السفينة ( قال ) ٨ : ٢٠ و بنی نوح مذيحاً للرب وأخذ من كل البهائم الطاهرة ومن كل الطيور الطاهرة وأصعد محرقات على المذبح فتنسم الرب رائحة الرضى وقال الرب في قلبه : لا أعود ألمن الارض أيضا من أجل الانسان، لان صور قلب الانسان شرير منذ حداثته ولا أعود أيضا أميت كل حي كما فعلت ٢٣ مدة كل أيام الارض زرع وحصاد و بر دوحر وصيف وشتاء و نهار وليل لاتزال) وفي الفصل التاسع مباركة الله لنوح وبنيه وإكثارهم لملؤا الارض وتأمينهممن عودة الطوفان بإعطائهم ميثاقه وهو قوس السحاب بل جعلها أمانا لكل الاحياء ، وقال في أبناء نوح 19 ، 9 هؤلاء الثلاثة بنو نوح ومن هؤلاء تشعبت  كل الارض ) وفيه ان الرب لمن كنعان بن يافث وجعله وذريته عبيداً لذرية ساموحاملأنه نظر إليعورة جده نوح إذ تعرى وهو سكران هذه خلاصة قصة نوح في سفر التكوين وليس فيها انه كان رسولا ولا انه دعاقومه إلى الله، ولا انه آمن معهأحد، ولا انه كان له ولد كافر غرق مع قومه ولا امرأة كافرة ولا ندري أكان كفرها قبل الطوفان فغرقت أم بعده. ولكنه يوافق القرآن في أن سبب الطوفان غضب الله على البشر بفسادهم وظلمهم ولكن بأسلوبه الشبه اللهسبحانهبالإنسان في صفاته الباطنة كصورته الظاهرة[30].

التعريف بنوح في التوراة

وتم التعريف بنبي الله نوح على أنه اسم سامي معناه راحة، وهو ابن لامك ابن متوشالح بن اخنوخ بن يارد بن مهلائيل بن قينان ابن انوش بن شيث بن آدم. سماه ابوه نوحا قائلا:” هذا يعزينا عن عملنا وتعب ايدينا من قبل الأرض التي لعنها الرب”[31]. وكان نوح رجلا بارا وکاملا. وسار مع الرب مثل اخنوخ،وأعلن ايمانه المطلق بالله وکرز به[32]. إلا ان البشر كانوا قد فسدوا وخرجوا عن الطريق القويم واقترفوا الا ثام وعملوا الشر حتى حزن الرب انه عمل الانسان في الأرض وقرر أن يمحوه من العالم ولكن الله استثنی نوحا لأنه كان يجد نسمة في عيني الرب.فأخبره الله عن نيته بمحو البشر وأمره أن يصنع لنفسه فلكا من خشب ليحتمي به وينجو بنفسه ومعه عائلته وبعض الحيوانات. فصنع نوح الفلك. (تكوين،6). ودخله ومعه امرأته وبنوه الثلاثة ونسائهم وزوج من كل نوع من البهائم النجسة ومن الطيور وسبعة ازواج من البهائم والطيور الطاهرة. وبعد سبعة ايام نزل طوفان على الارض واستمر المطر بتل لمدة اربعين يوما وليلة وغرق به كل من كان على الأرض من شر، ومن حيوانات(تكوين،۷)وكف المطر بعد الاربعين يوماوليلة وابتدأت المياه تنحسر. وأطلق نوح غرابا ثم حمامة عدة مرات حتى لم تعد الحمامة وأدرك أن الماء قد انحسر ولكن نوحا لم يخرج من الفلك مع عائلته والحيوانات التي كانت معه الا بعد أن دعاه الله إلى ذلك. وبني نوح مذبحا للرب وقدم فوقه بعض الحيوانات الطاهرة ولما تنسم الله رائحة الرضا قرر ألا يلعن الأرض بعد ولا يميت كل حي(تك، ۸). وجعل الله قوس القزح علامة لوعده. وبارك الرب نوحا وبنيه وقال لهم”اثمرواوأكثرواواملأواالأرض”. ويعني هذا أن نوحا هو الاب الثاني عشر بعد آدم. وأوصى الرب نوحاً ألا يأكل الحيوانات التي بدمها او الميتة بمرض وبأن يقاصَّ القاتل بالقتل[33]. وقد استقر فلك نوح بعد طوفان الماء فوق جبال أراراط (= آرارات)[34].

واشتغل نوح في الزراعة. وزرع مع ما زرع من نبات كرمة فأثمرت عنبا وصنع منه مسكراً وشربه وسكر فسخر ابنه الصفير حام منه وكشف عورته. ا ولكن أخوي حام وضعا الرداء على ابيهما. فلما استفاق نوح وعرف ما فعله حام آمن کنعان (ابنحام) وقال انه سيكون عبدا لإخوتهوبارك سام ويافث. ثم مات نوح عن عمر بلغ تسع مئة وخمسين سنة (تك:۲۹). ومع الايام أصبح الساميون العائلة المتزعمة على باقي نوح. وشبه المسيح حالة الناس عند مجيئه الثاني المنتظر حالة الشر ایام نوح عند مجي. الطوفان[35] . وكثيرا ما اشار الانبياء والرسل الى نوح والى الطوفان[36].والجدير بالذكر ان هناك اساطير عن الطوفان شبيهة بطوفان نوح موجودة في تراث بعض الأمم وأقدمها اسطورة الطوفان عند البابليين، وهناك اساطير مشابهة لها عند اليونان والرومان. والقصة البابلية عن الطوفان جزء من ملحمة جلجامش.واما الرجل الذي أنقذ نفسه وعائلته والبهائم في فلك كما جاء في القصة البابلية فكان اسمه: اوتنافشتيم[37]. وأوجه الشبه في القصتين العبرية والبابلية تثبت صحة قصة الطوفان في الكتاب المقدس[38].

 

 

 

المصادر والمراجع والهوامش

 

[1]- الهمداني، صفة جزيرة العرب، (الرياض: دار اليمامة للبحث والترجمة والنشر، 2008م)، ص75.

[2]– ياقوت الحموي، معجم البلدان، (بيروت، دار صادر، 1986م)، ج2، ص179 -180.73.

[3]– كي لسترنج، بُلدان الخلافة الشرقية، ترجمة: بشير فرنسيس وكوركيس عواد، (بيروت: مؤسسة الرسالة، ط2، 1405هـ – 1985م)، ص123.

[4]– الثمانين: لا تزال هذه القرية باقية وتقع الى الشرق من مدينة شرنخ عاصمة الولاية، نعرف حالياً باسم هشتيان.

[5]– ابن خرداذبه، أبي القاسم عبيد الله بن عبد الله، المسالك والممالك، (بريل – بيروت: مطبعة بريل – دار صادر، 1889م)، ص76 – 77؛ في اعتقاد الباحث أن الفقرة الأخيرة من باب الاساطير والخرافات التي كثيراً ما حشيت بها كتب المؤرخين والبلدانيين.

[6]–  كتاب صورة الأرض، (ليدن – بيروت: مطبعة بريل – دار صادر، 1928م)، ص229.

[7]– المقدسي، شمس الدين أبو عبد الله محمد بن أحمد بن أبي بكر، أحسن التقاسيم في معرفة الأقاليم، علق عليه ووضع حواشيه: محمد أمين الضناوي، (بيروت: دار الكتب العلمية،2003م – 1424هـ)، ص126.

[8]– المقدسي، أحسن التقاسيم في معرفة الأقاليم، ص127.

[9]– المقدسي، المصدر السابق، ص134.

[10]– لسترنج، بُلدان الخلافة الشرقية، ص123 – 124 نقلاً عن ابن المستوفي في كتابه

[11]– ياقوت الحموي، معجم البلدان، المصدر السابق، ج2، ص84.

[12]– آثار البلاد وأخبار العباد، (بيروت: دار صادر، د، ت)، ص369.2018م)، ص54.

[13]– خزعل الماجدي، أنبياء سومريون، (الدار البيضاء: المركز الثقافي للكتاب، 2018م)، ص432.

[14]– حسين محمد ربيع، سيميائية الصورة في الخطاب الصحفي للتنظيمات المتطرفة: دراسة تحليلية سمبولوجية لعينة من الرسائل البصرية مجلة دابقوفقًا لمقاربة روالن بارت، مجلة البحوث الإعلامية- جامعة الازهر، العدد الثامنوالاربعون،محرم 1439هـ – أكتوبر 2017م، ص313.

[15]– سورة هود، الآيات 25 – 44.

[16]– محمد رشيد رضا، تفسير القرآن الحكيم الشهير بتفسير المنار، (بيروت: دار المعرفة، ط2، د، ت)، مج12، ص101.

[17]– محمد رشيد رضا، تفسير المنار، المرجع السابق، مج12، ص106.

[18]– يقصد السيد رشيد رضا عندما أحرق الملك البابلي الكلداني نبوخذ نصر مدينة أورشليم – القدس ونفى سكانها الى بابل عام586- 587ق.م ونفى سكانها اليهود الى بابل في وسط العراق فيما عرف بالسبي البابلي.

[19]– المرجع نفسه، مج12، ص104. وللسيد رشيد رضا كتاب مطبوع تحت الاسم المنوه عنه آنفاً.

[20]– المرجع نفسه، مج12، ص105.

[21]– المرجع نفسه، مج12، ص105 – 106.

[22]– المرجع نفسه، مج12، ص104 – 105؛ ولمزيد من المعلومات ينظر: وحيد السعفي، العجيب والغريب في كتب تفسير القرآن، (دمشق: صفحات للدراسات والنشر، 2009م)، ص208 – 211.

[23]– عند الفرس الايرانيين يعد كيومرت أو كيومرث بمثابة آدم عليه السلام.

[24]– القاسمي، محاسن التأويل، (القاهرة: دار الحديث، 1424هـ – 2003م)، مج6، ص107.

[25]– القاسمي، محاسن التأويل، مج6، ص107.

[26]– محمد رشيد رضا، تاريخ الأستاذ الامام الشيخ محمد عبده، (القاهرة: الهيئة المصرية العامة للكتاب،2012م)، ج1، ص666

[27]– القاسمي، تفسير محاسن التأويل، مج6، ص108.

[28]– سعيد حوى، الأساس في التفسير، (القاهرة: دار السلام للطباعة والنشر والتوزيع والترجمة، ط6، 2003م – 1424هـ)، مج5، ص2560 – 2561.

[29]– سعيد حوى، الأساس في التفسير، المرجع السابق، مج5، ص2561.

[30]– المرجع نفسه، مج12، ص103.

[31]– سفر التكوين5، الاصحاح29.

[32]– رسالة بطرس الثانية، الاصحاح5؛رسالة العبرانيون، الاصحاح 11، العدد 7.

[33]– سفر التكوين ۱، الاصحاح 1 -7.

[34]– في الحقيقة أن تسمية جبل آراراتتنسب الى الدولة الآورارتية التي حكمت شرقي تركيا الحالية قبل منتصف الالف الأول وكانوا معاصرين للإمبراطورية الآشورية الحديثة.، وكانت عاصمتهم مدينة توشيبا التي بنيت مدينة وان – فان على أنقاضها.

[35]– انجيل متى، الاصحاح24، العدد 38.

[36]– سفر اشعيا، الاصحاح54، العدد 9؛ سفر حزقيال، الاصحاح 14، العدد 14؛ رسالة بطرس الأول، الاصحاح 3، العدد 20؛ ب رسالة بطرس الثانية، الاصحاح2، العدد 5.

[37]– يعتقد كثير من مؤرخي التاريخ القديم بأن أوتونابشتم الذي ورد ذكره في ملحمة كلكامش في تاريخ العراق القديم هو نفسه نبي الله نوح (عليه السلام).

[38]–  بطرس عبد الملك وزملائه، قاموس الكتاب المقدس،(القاهرة: دار الثقافة، ط 7، 1991م)، ص 982 – 983.

‎ٲ.د. فَرسَت مرعي

د.فرست مرعي اسماعيل مواليد ۱۹٥٦ دهوك ٲستاذ التاريخ الاسلامي في جامعة دهوك له ۲۱ كتابا مؤلفا باللغتين العربية والكردية ، و٤۰ بحثا ٲكاديميا في مجال تخصصه

‎ٲ.د. فَرسَت مرعي

د.فرست مرعي اسماعيل مواليد ۱۹٥٦ دهوك ٲستاذ التاريخ الاسلامي في جامعة دهوك له ۲۱ كتابا مؤلفا باللغتين العربية والكردية ، و٤۰ بحثا ٲكاديميا في مجال تخصصه

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً