تمهيد
اختلف المؤرخون في تقدير عقيدة الشيخ محيي الدين ومذهبه اختلافاً شديداً حتى انقسموا إلى معسكرين يصعب الجمع بينهما ومرد هـذا الاختلاف ـ في نظرنا – إلى أن الشيخ كان شديد التناقض فيما يكتب كثير التقلب بين الالتزام بالشرع وحدوده مرة وتجاوز ما تعارف عليه الفقهاء والعلماء من رسوم الدين وحدوده مرة أخرى. ولأن ابن عربي صوفي أصالة ” يأخذ بمنهج التصوير العاطفي والرمز والإشارة والاعتماد على أساليب الخيال في التعبير باعتبار أن ما يعالج من المسائل يستعصي على العقل غير المؤيد بالذوق أن يدركها ، ويستعصي على غير اللغة الرمزية أن تفصح عن أسرارها ” [1]، فقد تفاوت الناس في فهم مقاصده : هل المراد من أقاويله ظواهرها البادية أو أن الأمر يحتاج إلى فهم أشمل وأدق لا يكون إلا بالتأويل والتفسير باعتبار أن ما يقوله من ( متشابه القول )[2] لذي لا يستقيم فهمه إلا بضروب من التأويل ، ولعل إلى هذا الازدواج في لغة التعبير أشار المؤرخون عندما وصفوه بأنه “ظاهري المذهب في العبارات، باطني النظر في الاعتقادات”[3]. يضاف إلى ما سبق أن الشيخ الأكبر له رغبة في إخفاء مذهبه في وحدة الوجود وخوفاً من التصريح به في صورة واضحة متكاملة في كتاب أو جزء من كتاب خشية اعتراض المعترضين وانكار المنكرين: “فقد أذاعه مشتتاً بين ثنايا التفصيل. مختلطاً بمسائل الفقه والحديث والكلام والتفسير وغيرها … وليس من شك في أنه تعمد هذا التشتيت لعناصر مذهبه إمعاناً في إخفاء حقيقته الكاملة وضناً به على متن ليس أهلا ً له”[4] ولو شرح ” مذهبه بلغة واحدة لوضحت معانيه وارتفع الشك في أمره “[5] وصارمن السهل على الباحث أن ينتهي في شأنه إلى حكم محدد ودقيق.
ابن عربي بين خصومه ومؤيديه
يعـد ابن العربـي من الشخصيات القليلة في العالم الإسلامي التي لازمها دون انقطاع اهتمام خاص منذ أن كانت على قيد الحياة إلى يومنا، وتنوع هذا الاهتمام وتعدد مـن تأيـيد وموالاة ونصرة وكثرة تلاميذ إلى إنكار ومعارضة وخصومة ونقد بلغ درجـة الـتكفير. ولقـد كان تأثيره على غير العادة في جل التيارات الإسلامية ومذاهـبها سنية وشيعية، ظاهرية وباطنية، وبتعدد الأتباع والمؤيدين تعدد الخصوم، وقـد كـان دوما بين هؤلاء وأولئك شد وجذب كانت الغلبة فيه أحيانا للأتباع وأحـيانا للخـصوم بحـسب جملـة من الظروف والمعطيات: المذهبية، السياسية الاجتماعية والحضارية… الخ.
بالرغم من أن خصوم ابن العربـي يتوزعون في مذاهب مختلفة إلا أن أغلبهم يتركـز في مدرسـة الحنابلة[6]، ويعود الإنكار على ابن العربـي إلى الفترة التي كان فيها على قيد الحياة، وقد تكون رحلته من المغرب إلى المشرق بسبب سلطة الفقهاء بالمغـرب وكثـرة تربصهم بالصوفية وبأهل النظر عموما. كما إن تجربة ابن رشد ومحنته التي وإن انتهت بسلام وبعفو سلطاني، غير أن لفظ التراب المراكشي لجثمانه ونقلـه إلى قرطبة، ومن قبله استدعاء السلطان الموحدي “لأبـي مدين شعيب” (520هـ/ 1123م – 594 هـ/ 1197م) إلى بلاطه للمحاكمة، كما ذهب إليه البعض، وإن كـان هناك من ذهب إلى أن تلك الدعوة كانت بهدف معالجة الخليفة الذي يبدو وأنـه كان مريضا نفسيا، كل هذا دفع بابن العربـي إلى الهجرة نحو المشرق خاصة وأن هناك دلائل على أن ابن العربـي لم تكن له علاقة ود مع البلاط الموحدي. ولكـن رحلته إلى المشرق لا تعني أن خصومة الفقهاء له وحتى مناكفة بعض الصوفية له قد انقطعت، بل العكس حصل إذ سجن في مصر بوشاية بعض الفقهاء لما سمعـوه مـنه في علم الأحوال، وقد سعى “علي بن فتح البجائي” أحد علماء المغـرب إلى السلطان في إطلاق سراحه. ولاطلاع فقهاء ومتصوفة مصر على ما يزخر به المغرب من أرباب الحقائق ألف ابن العربـي “رسالة روح القدس” وبعث بما إلى صاحبه الصوفي: “عبد العزيز بن أبـي بكر القرشي المهدوي” ونظرا لتربص الفقهـاء به ما كانت الشروحات التي يقوم بها ابن العربـي من حين لآخر لبعض مـؤلفاته أو التي يقوم بها تلامذته إلا محاولة توضيح آرائه والدفاع عنها. ولقد كان بعـض تلامذتـه مـثل “بدر الحبشي” و”ابن سودكين” نذرا نفسيهما للدفاع عن شـيخهما وتكفلا بنقل انطباعات قرائه إليه خاصة من الفقهاء الذين ينكرون عليه بعض آرائه الصوفية التي تميز بهما. وفي الفقهـاء يعد ابن تيمية (661هـ/ 1263م – 728هـ/ 1328م) النموذج الأمـثـل لخـصوم “ابن العربـي”، بل يعد المرجع الأساس في الحكم عليه بالكفر و”الزندقة”، وعلى فتاويه يستند جل مكفري “ابن العربـي” ومن على شاكلته من المتـصوفة والفلاسفة وعلماء الكلام: من “المعتزلة” إلى “الأشاعرة” إلى “الشيعة” ثم “الفارابــي” و”ابن سينا” فـ “الغزالي” و”ابن الفارض” و”الصدر الرومي” و”ابن سـبعين” وغيرهـم. ولم يسلم من نقد ابن تيمية ربما إلا الرعيل الأول من السلف الــصالح وبعـض ممن هم على مذهبه والمعتدين لمنهجه. وكان “ابن العربـي من أكثـر مـن صب عليهم “شيخ الإسلام” جام غضبه وسلط عليهم سيف تكفيره وسوط الأحكام بالخروج عن الملة.[7]
حـتى أن كتب “ابن تيمية” تكاد لا تخلو من ذكر “ابن العربـي” والرد عليه في جـل المسائل التي طرقها، ولم يكتف بالرد عليه في نصوص مبثوثة في فتاويه حتى خصه بعناوين من تصانيفه مثل: “رسالة في الرد على ابن العربـي” رسالة رد فيها ابن تيمية على ابن العربـي في فكرة إيمان فرعون وأحاط خلالها بمسائل أخرى مثل “ختم الولاية” وعلاقة النبوة والولاية ومصدر علم الولي الخ من المسائل المرتبطة بقضية الإيمان والكفر التي بني عليها ابن العربـي موقفه من مسألة إيمان فرعون وبنى عليها ابن تيمية موقفه من الإبقاء على تكفير فرعون وتكفير من شك في كفره ناهيك عمن قال بإيمانه. وذهـب ابـن تيمية في نقده لابن العربـي إلى القول بأن تعلق صاحب “الفصوص” بالفلسفة وحسن ظنه بها دون أصول الإسلام أخرجه إلى الإلحاد المحض. وللـرد على تكفير ابن العربـي قام ابن عطاء الله السكندري بالدفاع عن شيخه وناظر ابن تيمية وحاول معه جاهدا إقناعه بأن الفصوص كالفتوحات لم يخرج فيه ابن العربـي عن النص، ذلك لأن ابن تيمية ذهب في إحدى رسائله إلى القول بأن ضلال ابـن العربــي وأفكـاره الـتي يكفـر لأجلها تضمنها كتاب الفصوص لا كتاب الفـتوحات، بـل ذهب إلى حد القول أنه كان يحسن الظن بابن العربـي وأنه طالع بعض كتبه و لم يجد فيها ما يسيء الظن به حتى اطلع على الفصوص فوجد فيه ما يجب تكفـر ابـن العربـي لأجله، وفي هذا الصدد قال ابن تيمية: “وإنما كنت قديما ممن يحـسن الظن بابن عربــي ويعظمه لما رأيت في كتبه من الفوائد، مثل كلامه في كثير مـن الفـتوحات، والكنه، والمحكم، والمربوط، والدرة الفاخرة، ومطالع النجوم، ونحو ذلك و لم نكن بعد اطلعنا على حقيقة مقصوده ولم نطالع الفصوص ونحوه”[8].
يـبـدو في هـذا الـنص مدى اطلاع ابن تيمية على مؤلفات ابن العربـي بـتعدادها، وذلـك ليـبين بأن تكفيره له ليس لمجرد آرائه الصوفية بل لما جاء في “فـصوص الحكم” وليبين بأن جل ما جاء في “الفتوحات المكية” لا يخدش عقيدة صاحبها، بل يعظمه ويجله، وهو موقف لا يشاطره كل الفقهاء الذين تصدوا لابن لعربـي، حتى أن البعض من مناصري الشيخ مثل “الشعراني” في دفاعهم عنه قالوا بأن بعض ما في الفتوحات قد يكون مدسوسا عليه، وبهذا تكون قصة تكفيرابن تيمية لابن عربـي مردها ما في “الفصوص”، أكثر من باقي أعماله الكثيرة. لهـذا قـال له ابن عطاء الله السكندري (709هـ/ 1309م) بأن كل ما في الفـصوص من نصوص مطابق لما في الفتوحات وهي تحتاج إلى عمق في الفهم والتأويل فقـط، ومـرافعة التلميذ عن الأستاذ خلص ابن تيمية حسب ما ورد في المناظرة التي جرت بيـنهما إلى القول لـ “ابن عطاء الله السكندري”: “أحسنت والله، إن كان صاحبك كما تقول فهو أبعد الناس عن الكفر، ولكن كلامه لا يحمل على هذه المعاني فيما أرى.”. ليخـتـم في الأخير الصوفي دفاعه عن ابن العربـي بقوله: “إن له لغة خاصـة، وهـي مليئة بالإشارات والرموز والإيحاءات، والأسرار والشطحات”. ونتـيجة المناظـرة بـين الرجلين كانت: إنه لو كان ابن العربـي كما يدافع عنه تلميذه فهو بريء من كل ما وجه إليه من تهم تكفره وتخرجه من الملة.
وللرد على تكفير ابن عربي قام ابن عطاء الله السكندري(ت 709هـ/ 1309م) بالدفاع عن شيخه، وناظر ابن تيمية وحاول معه جاهدا إقناعه بأن الفصوص كالفتوحات لم يخرج فيه ابن العربي عن النص، ذلك لأن ابن تيمية ذهب في إحدى رسائله إلى القول بأن ضلال ابن العربي وأفكاره التي يكفر لأجلها تضمنها كتاب الفصوص لا كتاب الفتوحات، بل ذهب إلى حد القول أنه كان يحسن الظن بابن العربي وأنه طالع بعض كتبه ولم يجد فيها ما يسىء الظن به حتى اطلع على الفصوص فوجد فيه ما يجب تكفير ابن العربي لأجله. ، وفي هذا الصدد قال ابن تيمية:” وإّنما كنت قديما ممن يحسن الظن بابن عربي يعظمه لما رأيت في كتبه من الفوائد، مثل كلامه في كثير من الفتوحات، والكنه، والمحكم، والمربوط، والدرة الفاخرة، ومطالع النجوم، ونحو ذلك ولم نكن بعد اطلعنا مقصوده ولم نطالع الفصوص و نحوه”[9].
ومـن خـصوم ابن عربي الذين لهم وقع خاص وكان تكفيره له رد فعل واضـح هـو: “برهان الدين البقاعي (809 -885هـ/1406 – 1480م) صـاحب كتاب: “مصرع التصوف أو تنبيه الغبـي إلى تكفير ابن عربـي وتحذير العـباد من أهل العناد”، فلقد ترك هذا الكتاب أثرا كبيرا، سواء على المؤيدين له أو مـن الخـصوم والمنكـرين على ابن العربـي أو على المعارضين من المنتصرين له المـدافعين علــيه. وقـد برز كل ذلك في الرد المكثف على صاحب هذا الكتاب وباستخدام المفردات نفسها مثل: “تنبيه الغبـي بتبرئة ابن عربـي” و ” و”تنبيه الغبـي في تنـزيه ابن عربـي”. ولم تتوقف الردود عند هذا الحد بل استمر الحوار بظهور مؤلفات تكفر وأخرى تبرؤ إلى يومنا هذا.
ويــشاطر “البقاعي” صاحب “الفتاوى” في إن دواعي تكفير ابن عربي تضمنها كتابه “فصوص الحكم” أكثر المؤلفات، حيث قال: “وكفـره في كـتابه الفـصوص أظهر منه في غيره، أحببت أن أذكر منه ما كان ظاهـرا، حـتى يعلم حاله فيهجر مقاله، ويعتقد انحلاله، وكفره وضلاله”[10]. ولكثرة تركيزه على “الفصوص” أشار “البقاعي” إلى أنه يمكن اعتبار كتابه “تنبيه ردا علـى الفصوص فقط، حيث قال: “وسميت هذه الأوراق: تنبيه علـى تكفــيـر ابـن عـربـي، وإن شئت فسمها النصوص من كفر لأني لم أستشهد على كفره وقبيح أمره إلا بما لا ينفع معه التأويل من كلامه”[11].
ويذكر أحد الباحثين الجزائريين بأن انتقاد البقاعي لابن عربي يشبه الى حد كبير انتقاد ابن تيمية له: “مـا يلاحـظ على ما جاء في كتاب “برهان الدين البقاعي” أنه يشبه إلى حد كبير ما وجهه ابن تيمية لابن العربـي من مكفرات وما تجعله أهلا لكلمة وحكم الـزنديق، بالـرغم من أنه لم يستند على أقوال ابن تيمية وكأنه أراد القول بأن تكفــيـر ابـن العربـي ليس مسألة تعني ابن تيمية فقط، بل هي مسألة يجمع عليها الفقهـاء، وهذا ما يفسره ورود العدد الهام من الأسماء التي كفرت ابن عربي في کـتابه وكذا النصوص القرآنية والأحاديث النبوية وأقوال العلماء التي استند عليها “البقاعي” في الحكم على ابن العربـي بالكفر والزندقة.
وقـبل أن يتـناول بعض المسائل والآراء الأكبرية بالنقد، بين البقاعي بشكل مجـرد من هو الكافر ومن هو الزنديق، ثم راح يسقط أقوال ابن عربي وبعض آرائـه الـصوفية والكلامـية على تلك المعايير ليجعل القارئ يستنتج بمفرده كفر وزندقة ابن عربـي، ومن المسائل التي كفر البقاعي ابن العربـي لأجل القول بمـا مسألة التنـزيه والتشبيه، وعده فيها في زمرة القرامطة من الإسماعيلية بل عده أكثر انغماسا في أفكار الباطنية من الباطنية الذين امتزجت آراؤهم العقدية بالأفكار الفلسفية الوثنية، ومن المسائل التي كفره لأجلها أيضا: فكرة الانسان الأكبر والعالم الأصـغر، ونظـرته لآدم الجامـع لصورة العالم والحق… الخ من المسائل والآراء الأكبرية.[12]
ولتدعيم موقفه من “ابن عربـي” حشد “البقاعي” فريقا من أسماء العلماء وأقـوالهـم فـيه منها: فتوى زين الدين عبد الرحيم بن الحسين العراقي(725 – 806هـ/1325 – 1406م) بتكفير ابن العربـــي في حديثه عن قوم نوح وفي فكرة “الوحدة” المدركة في نصوصه النثرية وخاصة في أشعاره، وكذلك فتاوى كل من: “بدر الدين حسين بن الأهذل” (المتوفى سـنة 855هـ/ 1451م) و”العز بن عبد السلام” (المتوفي سنة 660هـ/ 1262م) وابـن الجزري الشافعي، و”أبو حيان بن يوسف الأندلسي”، و”ابن عبد السبكي”، و”الفاسي” و”عيسى بن مسعود الزواوي” والقائمة طويلة.
لم يكـن موقف البقاعي هذا من ابن عربـي قد انتظر طويلا لتظهر الكتب الكـثيرة فترد عليه، بل ولأنه أفتى بتكفير الغزالي أيضا أقام له بعض العلماء بزعامة “الـشيخ تقي الدين بن قاضي عجلون”(841هـ- 928هـ/ 1438م –1522م) العلماء والقضاة بـ “الجامع الأموي” في شهر رجب من سنة 884هـ جلـسة مع جمع من الموافـق لشهر سبتمبر 1479م للنظر فيما صدر منه من فتاوى وتم في الأخـير إصـدار فتوى بتكفيره ونجم عن ذلك أن هجمت جماعة الناس على برهان الدين البقاعي في بيته بدمشق وأساءوا إليه إساءة بالغة[13].
بعـد “ابـن تيمية” و”البقاعي” فإن كل الفتاوى الصادرة في ابن عربـي لفكره الفلـسفي الصوفي تدور في فلك فتاوى هذين العلمين، وبصورة خاصة فيما صدر عن ابن تيمية لأنه أكثر تدقيقا في أفكار ابن عربي وأكثر الفقهاء تنقيبا في الفكر الفلـسفي والكلامـي، حـتى أضـحى مرجعا هاما في نقد الفلاسفة والصوفية ومـناهجهم، ومـا نقـده للمنطق الأرسطي ولأفكار الفلاسفة وعلماء الكلام في نظريات: “الجوهر الفرد” و”قدم العالم” و”علم الله بالجزئيات” وغيرها من النظريات والأفكـار إلا أكبـر دلـيل على ذكاء الرجل وإحاطته بالفكر الفلسفي والصوفي والكلامي؛ لهذا فإن كل الانتقادات الموجهة لابن عربـي منذ القرن السابع الهجري، الثالث عشر ميلادي لا تخرج في مجملها ولا تبلغ في جل الأحيان الجدية التي انتقد بما ابن تيمية ابن عربـي وسائر الصوفية والفلاسفة وبقي كل من يروم نقد ابن العربـي تفكيره يردد أحيانا مقالة “برهان الدين البقاعي” وما استشهد به من آراء بعض العلمـاء، وفي جـل الأحيان يردد ما قاله ابن تيمية ولا يتعداه سواء في التدقيق أو التعليل حتى إلى يومنا هذا.
وتجدر الاشارة اليه أن كتب ورسائل البقاعي انتقلت من مصرمن مصرالى الحجاز وأعيد نشرها من جديد وبحث بعض الطلاب عن رسائل مصرية قديمة كُتبت زمن تلك الفتنة، فأعيد نشر وتحقيق بعض الرسائل التي أُلفت في ذم ابن عربي واعتبار كتاباته «قبوحات هلكية» لا «فتوحات مكية». وقد أحصى بعض العلماء الذي يعتقدون في ولاية ابن عربي من المشرق والمغرب أن عددهم زاد على (180) عالمًا، ومن يميلون لابن عربي ولم يصنفوا في تفسير وشرح كلماته (30) عالمًا.. من بين هؤلاء من كان مذهبه شافعيًا وحنبليًا ومن كان من أهل الحديث، ومن كان من أهل الفقه، ومن كان من القضاة، كل هؤلاء في وقت واحد على اختلاف مشاربهم وعلومهم اتفقوا على أن هذا الرجل عبقرية قلّ أن يجود الزمان بمثلها.
ونبه أحد الباحثين المصريين المعاصرين الى رسالتي البقاعي الذائعة الانتشار عند خصوم التصوف، واعتمدت آراؤه وأفكاره حول مخالفة التصوف الوجودي للثابت من عقائد الإسلام، على أنه لم يتم الالتفات إلى صوفية البقاعي التي يظهرها كتابه (عنوان الزمان في تراجم المشايخ والأقران)، وكذلك تفسيره للقرآن الكريم هو – بحسب إقراره وتأكيد علماء عصره- لم يكن ليحمل قيمة علمية لولا اعتماده على الحرالي المراكشي الصوفي، صاحب كتاب (مفتاح الباب المقفل لفهم القرآن المنزل)، والمشهور بإتقانه لعلم الحروف من منطلق صوفيّ. وهو من المدرسة الصوفية الحاتمية نفسها! فلماذا يتمّ اعتماد كلام البقاعي في مسألة ولا يلتفت إلى الأخرى؟ ألا يثير ذلك في النفوس سؤالاً حول حقيقة التكفير ودواعيه، وبحث المسألة بشكل أوسع اعتمادًا على وثائق اجتماعية وتاريخية[14]؟!
ففي عام 1952م نشر عبدالرحمن الوكيل(1913 – 1971م) رئيس جماعة أنصار السنة المحمدية في مصر كتابين للبقاعي، هما: تنبيه الغبي إلى تكفير ابن عربي، وتحذير العباد من أهل العناد ببدعة الاتحاد. وعنون نشرته بـ«مصرع التصوف»، جاءت هذه النشرة كإعلان عن موقفه إزاء التصوف، فبعد أن تلقّى تعليمه في الأزهر، أنعم الله عليه بصبح جديد كما يذكر في مقدمة هذه النشرة بالتعرف على الشيخ محمد حامد الفقي (1892 – 1989م) رئيس جماعة أنصار السنة المحمدية الاسبق في مصر، الذي أحبّ من خلاله نصوص ابن تيمية وتبنّى موقفه العقيدي من ابن عربي، كان عبدالرحمن الوكيل من خصوم التصوف المشاهير في وقته، وتزامن مع نشرته للنصوص التراثية للبقاعي إصداره كتيبًا لنقد أفكار الصوفية وإظهار معايبهم، حمل عنوان «صوفيات» وسّعه فيما بعد نظرًا لإقبال الناس عليه في مصر والشام، وأصدره بعنوان جديد عام 1955م يلخّص رؤيته للتصوف «هذه هي الصوفية» سرعان ما انتشر هذا الكتاب في مصر، وأعيد طبعه في سوريا ولبنان والمملكة العربية السعودية.
ومن النماذج المعاصرة الناقدة لابن عربـي الباحث المصري الازهري (كمال أحمد عون) صاحب كتاب “الفتوحات المكية وما وراءه من أيادي خفية” ردد فيه أحكام ابن تيمية، وزاد مركزا على مسائل في الفـروع وعلـى بعض المسائل التي طبعت فلسفة ابن العربـي كوحدة الوجود ومـسألة الصفات وفكرة إيمان فرعون إلخ منتهيا إلى دعوة السلطات منع تداول مؤلفات ابن العربـي. ولا ينأى عنه ناقد ومكفر آخر لابن العربـي بكتابه: “نظرات في معتقدات ابـن عـربـي” مرتكـزا أيضا على فتاوى ابن تيمية وبعض المعارضين للنهج الكـشفي الصوفي من الدارسين المعاصرين، ومتوقفا مع بعض المسائل منها الوسيلة الـتي يزعم ابن العربـي أنه تلقى علومه ومؤلفاته وهي “الإملاء الإلهي” أو “الإمداد الـرباني”، ومـسألة الأسماء والصفات وحضورها القوي في فلسفة ابن عربـي الـصوفية، ثم أورد جملة من أقوال كثيرة التردد لبعض العلماء في ابن العربـي وفي التـصوف. في حين ذهب أحد المعاصرين المتبنين لمذهب ابن تيمية إلى استخلاص النتيجة التالية وهي: “لا شك أن الشيخ السلفي لم يتجن في حكمه، لأن صاحب المـذهب – ابن العربـي – يقر بوقوعه في حيرة… وكان شيخ الإسلام يستند إلى الآيات القرآنية ليبرهن على زيف الكشف والإلهام الذي يدعيه صاحب مذهب وحدة الوجود، فيهاجمه بعنف ويضعه في مصاف “الزنادقة المتشبهين بالعارفين، أتـباع فـرعون والقـرامطة الباطنيين”[15]. وهكذا يبدو من خلال هذا النص وبوضـوح أن هذا الدارس لم يكتف باجترار وتكرار ما قيل منذ القرن الثالث الهجـري، وكان في ذلك ابن تيمية مجتهدا، ولكنه يبدو أيضا أنه غير مطلع ولا مدرك لمعنى اصطلاحات: “الحيرة”، “القلق” و”الحركة” في فلسفة ابن العربـي، ومـن ثم يبدو أنه غير مدرك لمحتوى وحقيقة الانتقادات التي وجهها ابن تيمية ومدى تعمقه في فهم مراد ابن عربـي في كل هذه القضايا المطروحة للدراسة والنقد[16].
ما يلاحظ في نقد المكفرين لابن عربـي تكرار المسائل نفسها المترددة في فلسفة ابن عربـي الصوفية مثل: الأسماء والصفات، علاقة وجود العالم بأسماء الله وصفاته التي طلبت أن تعرف وأن تتحقق في الوجود كائنات، مصدر معرفته الـتي كـثيرا مـا قال إنها وهب إلهي وأحيانا إملاء من الرسولﷺ، وبعض التأويلات لنصوص قرآنية وأحاديث نبوية تتماشى ومنحاه الصوفي الفلسفي، ثم فلسفته في علم الحروف وما تعلق بها من رمزية حيرت الأتباع قبل الخصوم، خاصة وأن ابن العربـي يتحدث عن إمكانية التصرف بعالم الحروف في الواقع. وغيرهـا مـن المسائل العقدية وحتى الفقهية، ولو أن ابن العربـي في المسائل الاعتقادية كان صريحا بأن نادى بالإيمان الفطري الخال من التأويل، كما أنه في الفقـه تغلـب علـيـه نـزعة نصية ظاهرية واضحة بحكم البيئة التي نشأ فيها، خصوصا في تعاملـه الخاصة في تعمقه وباطنتيه لا يهمل الظاهـر بالكلية. سواء في الفقه أو في أي ميدان معرفي كان، فالظاهر والباطن يؤلفان ولا كمال بانعدام أحدهم.
ولهذه الأسباب نرى المؤرخين له يقفون منه أحياناً موقف الحيرة، يقول ابن حجر العسقلاني( المتوفى سنة 852هـ/ 1449م)عنه: “قال أشياء عدها طائفة من العلماء مروقاً وزندقة، وعدها طائفة من العلماء من إشارات العارفين ورموز السالكين، وعدها طائفة من متشابه القول، وإن ظاهرها كفر وضلال، وباطنهـا حق وعرفان”،[17] . وقال المناوي في طبقات الأولياء: “وقد تفرق الناس في شأنه شيعاً، وسلكوا في أمره طرائق قدداً. فذهبت طائفة إلى أنه: زنديق لا صديق، وقال قوم: إنه واسطة عقد الأولياء ورئيس الأصفياء، وصار آخرون إلى اعتقاد ولايته، وتحريم النظر في كتبه”[18].
وهكذا نجد الشيخ يؤكد تارة الالتزام بظواهر الشرع وحدوده ويرد كل حقيقة لا ترتبط بالشريعة أصلا ً، فيقول: “إياك أن ترمي ميزان الشرع من يدك في العلم الرسمي، بل بادر إلى العمل يكل ما حكم به وإن فهمت منه خلاف ما يفهمه الناس، مما يحول بينك وبين امضاء ظاهر الحكم فلا تعول عليه، فإنه مكر إلهي بصورة علم إلهي من حيث لا تشعر. ثم قال: وأعلم إن تقديم الكشف على النص ليس بشيء عندنا، لكثرة اللبس على أهله، وألا فالكشف الصحيح لا يأتي قط إلا موافقاً لظاهر الشريعة، فمن قدم كشفه على النص” فقد خرج عن الانتظام في سلك أهل الله ولحق بالأخسرين أعمالا ً[19]. ويقول في الفتوحات: “وكل مجاهدة وخلوة وتصفية نفس على غير شريعة ولا مؤمن بها، على ما هي عليه في نفسها، فإن العلم الذي يكون عليه ويجده عند هذا الاستعداد ليس بعلم ميراث، ولا للحق اليه نظر نبي … “[20]. ويقول في مكان آخر: “فأصل رياضتنا ومجاهدتنا، وجميع أعمالنا أعطتنا هذه العلوم والآثار الظاهرة علينا إنما كان من عملنا بالكتاب والسنة، وفيضنا روحاني إلهي لكوننا سلكنا على طريقة الهيئة تسمى شريعة، فأوصلتنا إلى المشرع، وهو الله تعالى، لأنه جعله طريقاً إليه.
ولعل تمسك ابن عربي بالشريعة على النحو، هو ما جعل شيخ الإسلام ابن تيمية، وهو أشد خصومه، يعترف له بأنه أقرب متفلسفة الصوفية للإسلام لأنه” يقرر الامر بالشرائع بكثير مما أمر به المشايخ من الأخلاق والعبادات”[21].
وهكذا استطاع ابن عربي – بما ألف وكتب ـ أن يؤثر في التصوف الإسلامي منهجاً ومعرفة وسلوكا، وقد تعدى أثره المشرق العربي إلى فارس عن طريق عبد الرحمن جامي الشاعر الفارسي المعروف الذي كتب شروحاً وتعليقات على مؤلفات ابن عربي ، منها شرح الفصوص بالعربية وشرح آخر بالفارسية، ( شرح نقش الفصوص) ، كذلك امتد أثره إلى بلاد الأناضول خلال كتابات الشاعر الصوفي جلال الدين الرومي( المتوفى سنة 672هـ/ 1273م) وتلاميذه: صدر الدين القونوي(672هـ/1274م) وشمس تبريزي(645هـ/1248م)، وشراحه ومريديه الذين حاولوا فهم ديوانه (مثنوي ومعنوي) في ضوء الفصوص وعلى طريقته، وهكذا استطاعت شخصية ابن عربي الفذة أن تجذب اليه عدداً من التلاميذ المعجبين به تأثروا به وأخذوا عنه ، فتألفت منهم طريقة صوفية عرفت فيما بعد باسم ( الطريقة الأكبرية ) لم يكتب لها الانتشار الواسع بين جماهير الناس كما انتشرت طرق صوفية أخرى معاصرة لها ولاحقة لها : كالقادرية والرفاعية والبدوية والشاذلية والنقشبندية. بسبب اتهام الفقهاء له، في حياته وبعد مماته[22].
تحليل فلسفة ابن عربي في وحدة الوجود
فلسفة ابن عربي الصوفية تتجه إلى بيان قضايا ثلاث تتشابك في مجموعها وتتشعب عن مشكلة رئيسية شغلت فكره، وجهد هو من أجل توضيحها في صورة مذهب فلسفي متماسك الأجزاء أعني مذهب وحدة الوجود، وما تفرع عنه من القول بوحدة الأديان وقدم النور المحمدي. ولقد سبقت الإشارة إلى جوانب من مذهبه في القول بوحدة الأديان وقدم النور المحمدي ويهمنا الآن تبسيط الكلام في مذهبه في الوحدة تلك القضية التي – ـ كما يقول الدكتور أبو العلا عفيفي “ملكت عليه زمام تفكيره، فصدر عنها وعاد إليها، في كل ما قاله وما أحس به”[23] .
ومذهب الوحدة المطلقة لم يكن له وجود في الإسلام في صورته الكاملة قبل ابن عربي، فهو الواضع لدعائمه والمؤسس لمدرسته والمفصل لمعانيه ومراميه ، والمصور له بتلك الصورة النهائية التي أخذ بها كل من تكلم في هذا المذهب من المسلمين من بعده،” فقد قرر المذهب في صورته النهائية ووضع لها مصطلحا صوفياً كاملا ً استمده من كل مصدر وسعه أن يستمد منه كالقرآن والحديث وعلم الكلام والفلسفة المشائية والفلسفة الأفلاطونية الحديثة، والغنوصية المسيحية ، والرواقية، وفلسفة فيلون اليهودي كما انتفع بمصطلحات الإسماعيلية الباطنية والقرامطة وأخوان الصفـا ومتصوفة الإسلام المتقدمين عليه “[24]. ولهذا صار أيضاً من العسير أنه، في حياته وبعد مماته يربط المذهب بجهة دون أخرى، كما ادعى المستشرق النمساوي فون كريمر( المتوفى سنة1889م)، حيث ربط القول بوحدة الوجود بأصول بوذية، وكما فعل المستشرق البريطاني مرجليوث (المتوفى سنة1940م) حين زعم بأن البحث النظري في عقيدة التوحيد كافٍ في تفسير نشأتها وتطورها، وكما فعل المستشرق الألماني أدالبير ميركس (المتوفي عام 1909م) حيث انتهى إلى أن مذهب وحدة الوجود في الإسلام يونانية في الصميم، وأنها مستمدة من الكتابات المنسوبة إلى ديونيسيوس الأريوفاغي[25]
والقول بوحدة الوجود، كمذهب في الميتافيزيقا يحاول تفسير الوجود. قديم جدا، وقد عرف الفكر الفلسفي صوراً وأشكالا مختلفة متنوعة منه، وهذه الأشكال المختلفة للمذهب تتخذ في الأساس احدى صورتين:
الأولى: صورة الاعتقاد بأن الله هو الطبيعة، فالحق هو الجامع لكل شيء في نفسه الحاوي لكل وجود، الظاهر بصورة كل موجود يتخلل ويسري في كل صور وأشكال الموجودات. وبناء على هذا تستحيل الطبيعة إلى مجرد وهم وحلم وخيال يخترعه العقل، ويصير وجودها كوجود الظلال بالنسبة لأشخاصها وصور المرايا بالنسبة للمرئيات، وهكذا لا يكون للعالم المادي المتكثر وجود حقيقي منفصل قائم بذاته بل باعتبار أنه: إما وجوه وتجليات عقلية (للجوهر الكلي) أو صفات وأحوال (للكل الالهي الواحد). وتغدو الألوهية الحقيقة الكلية المطلقة الأزلية الأبدية التي تستوعب الكون كله. فكل الأشياء في العالم واحد، والله هو الكل في الكل. وتعرف هذه الصورة من المذهب ب (نفي العالم Acosmism)) وهي صورة موغلة في الروحانية الخالصة، وهذا اللون من القول بالوحدة المطلقة مذهب لا يؤمن بالخلق أصلا ً سواء اتخذ الخلق صورة: الخلق الإبداعي دفعة واحدة (الخلق من العدم على مذهب المتكلمين) أم صورة الخلق الفيضي المتدرج في الكمال (على مذهب الفلاسفة الفيضيين) أم بالتولد الذاتي، ذلك لأن كل تصور للخلق ينتهي بداهة إلى القول بطرفين للوجود: الخالق والمخلو، وهو أمر هنا لا ينسجم مع القول بوجود واحد مطلق بل ومناقض له أصلا[26].
والثانية: وهي الصورة المقابلة للوحدة الروحية المطلقة، وفيها تغدو الألوهية اسماً على غير مسمى، وينحصر الوجود فيما يتناوله الحس، وتقع عليه التجربة، ويصبح العالم المادي هو «الكل الواحد الحقيقي، ولا شيء سواه. وتعرف هذه الصورة في الفكر الفلسفي (: (pan – cosmism أو (Naturalism
ومذهب الشيخ الأكبر من صور النوع الأول فهو روحاني خالص ينكر العالم الظاهر ولا يعترف بالوجود الحقيقي إلا الله الحق، أما الخاق فظل للوجود الحق ولا وجود له بذاته. وقد جاء ابن عربي بمذهبه في الوحدة المطلقة مشتتاً بين ثنايا «كتبه ورسائله» لا سيما في كتابيه الفتوحات المكية، وفي فصوص الحكم، وذلك مخافة عرضه في صورته المتكاملة دفعة واحدة في كتاب أو جزء من كتاب تحاشياً لسخط الفقهاء واتهامهم، فيقول في الفتوحات: “وأما التصريح ب (عقيدة الخلاصة) فما أفردتها على التعيين لما فيها من الغموض لكن جئت بها مبددة في أبواب هذا الكتاب مستوفاة مبينة، لكنها متفرقة فمن رزقه الله الفهم فيها يعرفه أمرها، ويميزها عن غيرها، فإنها العلم الحق والقول الصدق وليس وراءها مرمى”.[27]
وهكذا يرى ابن عربي ألا موجود إلا الله ، فهو الوجود الحق والوجود المطلق ، وجوده أزلي أبدي ، بل هو الوجود كله ولا موجود سواه : « وقد ثبت عند المحققين أنه ما في الوجود إلا الله ؛ ونحن إن” كنا موجودين فإنما كان وجودنا به فما ظهر من الوجود بالوجود إلا الحق ، فالوجود الحق وهو واحد فليس ثم شيء هو له مثل” ، لأنه لا يصح أن يكون ثم وجودان مختلفان أو متماثلان ” ، إن الحقيقة الوجودية واحدة لا كثرة فيها ولا تعدد ، والكثرة التي تشهد بها الحواس ، انما هي مجرد صور ومجال تتجلى فيها الصفات الإلهية ، أو أوهام يخترعها العقل ، وليس ثمة فرق بين الحق والخلق ، اللهم إلا بالاعتبار والجهة فالله حق في ذاته ، وخلق من حيث صفاته، وهذه الصفات نفسها عين الذات ، وبذا يجتمع الواحد والكثير والقديم والحادث ، والباطن والظاهر
يقول ابن عربي: ” سبحان من أظهر الأشياء وهو عينها”:
فالحق خلق بهذا الوجه فاعتـبروا وليس خلقاً بذاك الوجه فاذكروا
جمع وفرق فان العين واحــدة وهي الكثيرة لا تبقي ولا تذر.
وبناء على تصوره هذا للوجود، فليس ثمة خلق، ولا وجود من عدم، على نحو ما يذهب إليه المتكلمون، بل مجرد فيض وتجل. “وما دام الأمر تجلياً أزلياً فلا محل لمادة أو صورة ولا لعلة أو غاية ولا لاتفاق أو مصادفة، وإنما يسير العالم وفق ضرورة مطلقة، ويخضع لحتمية لا تخلف فيها، وعالم هذا شأنه لا يتحدث فيه عن خير وشر، ولا عن قضاء وقدر ولا عن حرية أو إرادة، ذلك لأن الكائنات كلها تخضع (لقانون الوجود العام) إذن فلا حساب ولا مسؤولية ولا مدلول لطاعة أو معصية ولا ثواب ولا عقاب، بل الجميع في نعيم مقيم، والفرق بين الجنة والنار في المرتبة لا في النوع، ورحمة ربك وسعت كل شيء. وهكذا نشأت في مجال (الأخلاق) جبرية صارمة هيمنت على الوجود كله، وتعطلت معها إرادة الإنسان وتوقف تفكيره، وامتنعت التفرقة بين الخير والشر وسقطت قيمة الإلزام الخلقي وارتفعت المسؤولية الأخلاقية بزوال ركنيها الرئيسيين: العقل وحرية الإنسان”[28].
يقول ابن عربي:
الحكم حكم الجبر والاضطرار ما ثم حكم يقتضي الاختيار
إلا الذي يعزى إلينا فـفي ظاهره بأنه عن خيــار
لو فكر الناظر فيما رأى بأنه المختار عن اضطرار[29]
أما بخصوص الموقف من ابن عربي وفلسفة وحدة الوجود، فمما لا شك فيه أن مصدر هذه الفكرة هي الفلسفة الافلاطونية المحدثة. وابن عربي ليس في تصوفه الفلسفي صوفياً مسلماً، انما يشبه في التصوف ابن سينا في الفلسفة، فابن سينا – فيلسوف الإسلام كما يدعي هو امتداد للفلسفة اليونانية- كذلك محيي الدين بن عربي انما هو فيلسوف متصوف لا يمثل الإسلام السني أو الشيعي بشيء. إن تصوفه ينتهي بسرعة خطيرة إلى مذهب فلسفي يضعه في نسق الفلسفة العام لا الفلسفة الإسلامية على وجه الخصوص.
إنه ليس رجل تصوف وزهد، بل هو فيلسوف غنوصي صناعي ممتاز، مجمع موفق متسق، نراه يقول:
كنت قبل اليوم أنكر صاحبي
إذا لم يكن ديني الى دينه داني
لقد صار قلبي قابلاً كل صورة
فمرعى لغزلان ودير لرهبان
وبيت لأوثان وكعبة طائف
وألواح توراة ومصحف قرآن
أدين بدين الحب أنى توجهت
ركائبه فالحب ديني وإيماني
إن هذه المحبة ليست دينية، إنما هي وحدة الوجود، وفلسفة فقط، أو حين يقول: “خلقني وخلقته، ولقد أوجدني وأوجدته”.
هذا فيلسوف لا يمت إلى الإسلام بصلة، وإن كان هو يدعي أن تصوفه هو الإسلام وحده، وهو الذي حوى كل ما قبله من ديانات، وأن المسيحية أخطأت خطأها الكبير حين قالت:” إن الله هو المسيح، بينما الوجود واحد أو الوجود إله”.
ومن جهة أخرى فقد نبه أحد الباحثين المصريين المختصين في التصوف الى سؤال وجهه بعض الطلية الى الدكتور علي جمعة مفتي الديار المصرية السابق حول الموقف من ابن عربي وفلسفته بالقول:” حمل بعضُ الطلاب إلى الدكتور علي جمعة سؤالاً قرأه في مصنف يخاصم فكر ابن عربي على الأرجح، ويتناص مع ما رواه السخاوي(المتوفى سنة 902هـ/ 1492م) في القول المبني عن ترجمة ابن العربي، يستفسر فيه الطالب عن إمكانية تأويل كلام ابن عربي وكيف يمكن ذلك؟ وقد نصّ العلماء على أن التأويل يلتمس فحسب لكلام المعصوم، وصاحب العصمة التامة هو النبي، أما دون ذلك فلا حاجة بنا إلى التماس تأويل فيمن نطق بما يشبه الكفر، أو ألغز في كلامه وأثار جدلاً فالبعد عنه أولى”[30].
التمس الدكتور علي جمعة في إجابته من أقوال علماء الفقه وأصوله ما يشير إلى اجتهاد ابن عربي، مثله مثل ابن حزم، اجتهد وأصاب أو اجتهد وأخطأ فهو مأجورٌ، لأنه بين الصواب والخطأ لا بين الحقّ والضلال، كما يتحدث البعض قديمًا أو كما يعاد الحديث عن ذلك اليوم، وفي إجابة الشيخ جمعة أكد أن ظاهرية ابن عربي أثّرت فيه فنحا في كثير من مسائل العقيدة إلى الفكر الظاهري، على أن الأكابر من العلماء عرفوا للشيخ جمعة قدره ولم ينكروا عليه، ومن ذهبوا إلى تكفير الدكتور علي جمعة هم قلّة ممن لم يفهم عبارته”[31].
المصادر والمراجع والهوامش
[1]– أبو العلا عفيفي، مقدمة فصوص الحكم، دار احياء الكتب العربية، بيروت، 1365هـ – 1946م، ص9.
[2] – ابن حجر العسقلاني، لسان الميزان، ج5، ص310.
[3] – المقري، نفح الطيب، ج2، ص362.؛ الكتبي، الوافي بالوفيات، ج2، ص478.
[4] – أبو العلا عفيفي، ابن عربي في دراساتي، مقالة في الكتاب التذكاري، ص16؛ عرفان عبد الحميد فتاح، نشأة الفلسفة الصوفية وتطورها، المكتب الإسلامي، بيروت، 1394هـ – 1974م، ص224.
[5]– المرجع السابق، ص13؛ وانظر أبو العلا عفيفي، مقدمة فصوص الحكم، ص9
[6] – ساعد خميسي، ابن العربي المسافر العائد، منشورات الاختلاف، الجزائر، 1431هـ – 2010م، ص15 .
[7] – المرجع نفسه، ص15 – 16.
[8] – مجموع الرسائل والمسائل، تحقيق: محمد رشاد سالم، ج1، ص179.
[9] – ابن تيمية، مجموعة الرسائل والمسائل، تحقيق بإشراف الناشر ، دار الكتب العلمية، بيروت،1403هـ/ 1983م، مج1، ص179.
[10] – البقاعي، برهان الدين، مصرع التصوف أو تنبيه الغبي الى تكفير ابن عربي، تحقيق: عبد الرحمن الوكيل، دار التقوى، القاهرة، 1989م، ص18.
[11]– المصدر نفسه، ص22.
[12] – ساعد خميسي، ابن العربي المسافر العائد، ص20 – 21.
[13] – المرجع نفسه، ص21 – 22.
[14] – حقق محمادي بن عبدالسلام الخياطي تراث أبي الحسن الْحَرَالِّي المراكشي في التفسير، ونشره في كتاب يحمل هذا العنوان مقارنًا بين نصوصه والنصوص الواردة عند البقاعي، طُبع الكتاب ضمن منشورات المركز الجامعي للبحث العلمي – الرباط، الطبعة الأولى: 1418هـ/1997م.
[15] – مصطفى حلمي، ابن تيمية والتصوف، دار الدعوة، الإسكندرية، 1982م، ص327.
[16] – ساعد خميسي، المرجع السابق، ص24.
[17] – ابن حجر العسقلاني، لسان الميزان، ج5، ص310.
[18] – ابن العماد الحنبلي، شذرات الذهب في أخبار من ورد، ج5، ص192؛ المناوي، جامع كرامات الاولياء، ص119.
[19]– اليواقيت والجواهر، ص31.
[20] – عرفان عبد الحميد، نشأة الفلسفة الصوفية وتطورها، ص225 – 226، نقلاً عن مقالة محمد غلاب، المعرفة عند محيي الدين بن عربي، الكتاب التذكاري، القاهرة، 1969م، ص198.
[21] – ابن تيمية الحراني، جامع الرسائل والمسائل، تحقيق: محمد رشاد سالم، 1969، ج1، ص176.
[22] – أبو الوفا التفتازاني، الطريقة الأكبرية، الكتاب التذكاري، 1969م، القاهرة، ص 295 – 353.
[23] – أبو العلا عفيفي، فصوص الحكم، ص24..
[24] – المصدر نفسه، ص7.
[25] – نيكلسون، في التصوف الإسلامي، ص73 وما بعدها.
[26] – عرفان عبد الحميد فتاح، نشأة الفلسفة الصوفية وتطورها، ص237.
[27] – المرجع نفسه، ص238 نقلا عن كتاب الفتوحات المكية، ج1، ص47.
[28]– محمد توفيق الطويل، فلسفة الاخلاق الصوفية عند ابن عربي، الكتاب التذكاري، 1969م، ص179.
[29] – ديوان ابن عربي، ص217.
[30] – لعل علي جمعة يستند في إجابته إلى ما روي عن شيخ الإسلام زكريا الأنصاري (823-926هـ / 1420-1520م) من أقوال فيما يخصّ مطالعة كتب ابن عربي وابن الفارض، وقد حظيت هذه الأقوال بعناية بعض الباحثين في الأزهر، فخصص جزءًا من دراسته عن زكريا الأنصاري لدراسة هذه المسائل. ينظر: خالد محمد عبده، ابن عربي في مصر، ضده الاخوان، مركز المسبار للدراسات والبحوث، نوفمبر/ كانون الاول 2019م.
[31] – خالد محمد عبده، ابن عربي في مصر، المرجع السابق، مركز المسبار للدراسات والبحوث.