الإسلام في الملايو.. كيف أصبحت إندونيسيا أكبر دولة مسلمة دون قتال؟
أحمد إبراهيم
“إن (أهالي منطقة البتَك وسط سومطرة) الذين كانوا قد أبدوا معارضة عنيدة في دخول الإسلام قرونا عديدة، مع أنهم كانوا يُحاطون بمجموعتين من السكان المسلمين المتعصبين (على حدّ وصف أرنولد)، وهما الأتشينيون في الشمال وأهل الملايو في الجنوب، قد استجابوا في السنين الأخيرة للجهود السلمية التي بُذلت لإدخالهم في الإسلام، وأظهروا حماسة في هذه السبيل”.
(المستشرق البريطاني توماس أرنولد في كتابه “الدعوة إلى الإسلام”)
تُعتبر شعوب جنوب شرق آسيا وعلى رأسها إندونيسيا التي تضم بين جنباتها ما يقارب 240 مليون إنسان، 94% منهم مسلمون على المذهب الشافعي، شاهدة على معجزة انتشار الإسلام إلى تلك الأقطار البعيدة دون خيل أو سيف أو رُمح أو إجبار أو قهر، تلك التهمة التي طالما وُجِّهت للإسلام أينما حلّ الفاتحون الأولون من نفر من المستشرقين المتعصّبين ومَن اتخذ نهجهم، وهي التهمة التي تنفيها إندونيسيا مع الإسلام منذ دخوله إلى تلك الأقطار قبل ثمانية أو تسعة قرون وحتى يومنا هذا.
إن حكاية إندونيسيا وأرخبيل الملايو وعلى رأسها ماليزيا الحالية قد شهد عليها مجموعة من الرّحالة الكبار أمثال ابن بطوطة وماركو بولو، هذان الرجلان اللذان أدركا وجود الإسلام في تلك الجزر وأهمها جاوا أو سومطرة، وكيف انتشر دون سيف أو إجبار، لكن من المُحال أن نعرف على وجه الدقة التاريخ الحقيقي لأول دخول للإسلام إلى الملايو وإندونيسيا في قلبها، إذ يكاد يُجمع المؤرخون مسلمهم وغير مسلمهم على أن العرب الذين زاولوا التجارة مع تلك البلدان البعيدة كانوا قد بدأوا تلك التجارة منذ فترة مبكرة من تاريخ الإسلام تعود إلى القرن الثاني الهجري/الثامن الميلادي، وأنهم أصحاب الدور الأكبر في إيقاد شعلة الدعوة في تلك المناطق.
وكما يقول المستشرق البريطاني الكبير “توماس أرنولد” في كتابه “الدعوة إلى الإسلام” فقد “كانت التجارة العربية في مستهل القرن السابع الميلادي قد لقيت مع الصين عن طريق سيلان (سريلانكا) رواجا عظيما، حتى لقد وجدنا تُجّار العرب في أواسط القرن الثامن يُقيمون في كانتون في جموع غفيرة، وفي الفترة التي بين القرنين العاشر والخامس عشر، حتى قدوم البرتغاليين، كان العرب سادة التجارة مع الشرق دون منازع، لذلك نستطيع أن نزعم في شيء من التأكيد المقبول أنهم لا بد أن يكونوا قد أسسوا مستعمراتهم التجارية في بعض جزائر أرخبيل الملايو كما فعلوا في الأماكن الأخرى في عصر مبكر جدا”[1].
وبهذا كان للعرب المسلمين وتجّارهم على وجه التحديد الفضل في نقطة البداية التي يمكن أن نعرف من خلالها كيف انتشر الإسلام في هذه الأقطار البعيدة في أقصى الشرق من الكرة الأرضية؟ وكيف تطورت مسيرته حتى أصبح أهله من أشهر المتحمسين إلى دينهم الجديد؟ فكيف بدأت الحكاية وإلامَ انتهت؟ ذلك ما سنراه في سطورنا التالية.
تُمدّنا المصادر التاريخية بمادة مهمة عن عرب الجنوب الحضارمة والعُمانيين وأدوارهم العظيمة التي لعبوها منذ انتشار الإسلام في القرن الأول الهجري وحتى مجيء البرتغاليين في القرن العاشر الهجري، ألف عام لعب فيها هؤلاء البحّارة والتجار الحضارمة والعُمانيون دور الريادة المطلق في المحيط الهندي، بل تطور الأمر إلى هجرات واسعة من الحضارمة اليمنيين المسلمين إلى مناطق كثيرة في أرخبيل الملايو، حتى إنهم استطاعوا تأسيس سلطنات مستقلة في جزيرة جاوا، مثل سلطنة سياك وسلطنة بونتياك وسلطنة أتشي[2].
وكان من أبرز الأمور التي أدّت إلى أسلمة إندونيسيا هي زواج هؤلاء التجار الحضارمة والعُمانيين وغيرهم من المسلمين الذين بدأوا في الوفود من سواحل الهند الجنوبية والمليبار وغيرها من النساء الجاويات، وكان زواج ملك جاوا الوسطى في القرن الثاني عشر الميلادي من الأميرة المسلمة أتّشمبنا حدثا مفصليا، فقد اشترطت عليه هذه الأميرة أن يُسلمَ أولا قبل الزواج بها فأسلم، وكان إسلام هذا الملك فاتحة عهد إسلامي جديد انتشر فيه الإسلام في جاوا الوسطى ونشأت إمارات إسلامية صغيرة، ثم اتحدت سنة 1511 وذلك قُبيل الاحتلال البرتغالي لهذه الجزر بأشهر قليلة[3].
ويُخبرنا توماس أرنولد أن التجار والمهاجرين المسلمين العرب والهنود قد رأوا أن “أقوم السبل لإدخال دين المسلمين إلى هذه البلاد أن اتخذوا لغة القوم وكثيرا من عادات الأهالي وتزوّجوا من نسائهم، ونجحوا آخر الأمر في أن يُدخلوا أنفسهم في زمرة الزعماء الذين يتبوءون أرفع مكانة في الدولة، وعملوا يدا واحدة على نحو أكثر حذقا وتناسقا مما كان يصنعه الأهالي”[4]. وكان الهدف الأسمى لهذه الوحدة بين المهاجرين المسلمين آنذاك الدعوة إلى الإسلام ونشره بين الطبقات الاجتماعية الوثنية.
ويبدو أن هذه الجهود الجماعية التي كانت منظّمة قد حمل لواءها في مناطق مملكة “أتشيه” شمالي سومطرة آنذاك شيخ عربي اسمه عبد الله العارف وتلميذه الشيخ برهان الدين اللذان عملا بجهد لافت على نشر العقيدة الإسلامية، أولا في المناطق الداخلية زمن الشيخ العارف، ثم في مناطق السواحل على يد تمليذه برهان الدين في منتصف القرن الحادي عشر الميلادي/السادس الهجري، ويذكر الرحالة الإيطالي الشهير ماركو بولو الذي قضى خمسة أشهر على ساحل سومطرة الشمالي سنة 1292م أنه وجد مملكة “برلاك” الصغيرة على الزاوية الشمالية الشرقية من الجزيرة مسلمة؛ لأن تجار العرب قد أدخلوا الإسلام فيها، نظرا لكثرة تردُّدهم عليها في القرن الثامن، كما يقول[5].
وتدل بعض الأخبار التاريخية أن ملك منطقة مراسيلو “سمدره” في جاوا قد أسلم هو الآخر على يد بعثة من الدعاة أرسلها أحد أشراف مكة المكرمة في القرن الثاني عشر الميلادي برئاسة رجل اسمه الشيخ إسماعيل، وهي ذاتها التي أسهمت في نشر الإسلام في مناطق جديدة من جنوب الهند ومناطق أخرى من مضيق ملقا في جنوب شرق آسيا، وقد اتخذ هذا الملك لقبا جديدا بعد الإسلام وهو “الملك الصالح” وتزوج من ابنة ملك مملكة “برلاك” القريبة، وأنجب منها ولدين كان أكبرهما الملك “الظاهر”[6].
وقد زار الرحالة المغربي الأشهر ابن بطوطة هذه المناطق في حدود عام 743هـ/1345م، ورأى الملك الظاهر ابن الملك الصالح سلطان الجاوا، يقول ابن بطوطة: “وهو من فضلاء الملوك وكرمائهم، شافعي المذهب، محبّ في الفقهاء، يحضرون مجلسه للقراءة والمذاكرة، وهو كثير الجهاد والغزو، ومتواضع يأتي إلى صلاة الجمعة ماشيا على قدميه، وأهل بلاده شافعية محبون في الجهاد، يخرجون معه تطوعا، وهم غالبون على مَن يليهم من الكفار، والكفار يعطونهم الجزية على الصلح”[7].
وهذا الوصف من ابن بطوطة يعني أن أهل البلاد أنفسهم بعدما دخل الجيل الأول منهم إلى الإسلام طواعية واقتناعا على يد الدُّعاة المسلمين تجارا كانوا أم علماء، عربا كانوا أم هنودا و”باكستانيين”، فإن الجيل الثاني منهم قد حمل على عاتقه مهمة نشر الإسلام في إندونيسيا وماليزيا المجاورة، وكونهم من أصحاب المذهب الشافعي يؤكد أن الدعوة الأولى قد جاءت من الحضارمة الشوافع وكذلك من أبناء المليبار أو الملابار جنوب الهند، فقد دان هؤلاء وأولئك ولا يزالون بالمذهب السني الشافعي، مما يدل على تأثيرهم الكبير في انتشار الإسلام في أرخبيل الملايو وفي قلبه إندونيسيا وماليزيا الحاليتين.
ومن خلال ابن بطوطة أيضا نرى أن العلاقات بين سومطرة التي كان الإسلام فيها يتسع بفضل الدعوة في المرحلة الأولى وبفضل فتوحات المسلمين الجدد من أبناء البلد وعلى رأسهم الملك الصالح وابنه الملك الظاهر، نرى أن علاقاتها مع الدول الإسلامية المجاورة كانت تتعمّق وتتسع، لا سيما مع ملوك المغول المسلمين في الهند والعرب في اليمن وعُمان والجزيرة العربية.
وبفضل جهود ملوك سومطرة وتوطد دعائم الإسلام في سواحلها، فقد أخذ الإسلام يشق طريقه إلى المناطق الداخلية كما يقول توماس أرنولد، وكانت دعوة الشيخ إسماعيل الذي أرسله شريف مكة على رأس بعثة لنشر الإسلام في هذه المناطق قد آتت ثمارا وافرة، فقد تحدّث رحالة صيني زار هذه الجزيرة سنة 1413م عن بلدة لامبري الداخلية، فقال إن عدد الأُسر التي كانت تُقيم فيها ألف أسرة، كلهم مسلمون، وعلى جانب عظيم من كرم الأخلاق، وكان ملوك هذه المنطقة يعتقدون جميعا في الإسلام، وأخذ الإسلام يتعمق في المناطق الوسطى والشرقية من سومطرة[8].
ويلحظ أرنولد أن موجة انتشار الإسلام لم تخفت مع احتلال الهولنديين في القرن السادس عشر، يقول: “أخذ الإسلام ينتشر بالوسائل السلمية، وخاصة عن طريق الجهود الحماسية التي بذلها الموظفون المرؤوسون من الأهالي الذين جاء بهم النظام الجديد وكانوا جميعا من سكان الملايو المسلمين، وكذلك عن طريق نفوذ التجار الذين طوّفوا في البلاد، وحذا حذوهم في نشر الدعوة جماعة (الحاجي) وغيرهم من علماء الدين المعروفين”. ويقول: “إن (أهالي منطقة البتَك) الذين كانوا قد أبدوا معارضة عنيدة في دخول الإسلام قرونا عديدة، مع أنهم كانوا يُحاطون بمجموعتين من السكان المسلمين المتعصبين (على حدّ وصف أرنولد)، وهما الأتشينيون في الشمال وأهل الملايو في الجنوب، قد استجابوا في السنين الأخيرة للجهود السلمية التي بُذلت لإدخالهم في الإسلام، وأظهروا حماسة في هذه السبيل”[9].
ومن إقليم جاوا والملايو أخذ الإسلام في التوسع في القرنين الخامس عشر والسادس عشر إلى المناطق المجاورة من جنوب شرق آسيا مثل كمبوديا وتايلند، ومع فاتحة العصور الحديثة حرص أبناء هذه المناطق على إرسال أبنائهم إلى التعلم في الأزهر الشريف في مصر، وكان أشهرهم الشيخ ظاهر جلال الدين الأزهري الذي كان من أكبر دعاة الإسلام في سومطرة وماليزيا التي توفي فيها سنة 1956م، وهو أحد أبناء مدرسة الشيخ محمد عبده، والشيخ مختار لطفي والشيخ إلياس يعقوب وقد تعلما في الأزهر أيضا، وأسسا مجلة “مروان أزهر” أي نداء الأزهر باللغة الإندونيسية في مصر[10].
تلك قصة مختصرة للغاية لانتشار الإسلام في أرخبيل الملايو وفي قلبه إندونيسيا وماليزيا الحاليتين، وهي قصة لم تؤرّخ تأريخا جادا مفصّلا على غرار ما رأينا في مناطق قلب العالم الإسلامي، وإن لعب فيها الدّعاة والتجار أعظم الأدوار مقارنة بالفاتحين في مناطق أخرى، هؤلاء العلماء والتجار الذين حجب التاريخ أسماءهم وشخوصهم وتواريخهم وجهودهم ربما، لكن لا يزال أثرهم باقيا إلى الآن في إسلام إندونيسيا التي تعتبر أكبر دولة إسلامية من حيث عدد السكان في يومنا هذا بربع مليار نسَمة، وتلك قصة مدهشة في كل تفاصيلها ولا ريب!
——————————————————————————-
المصادر
[1] أرنولد: الدعوة إلى الإسلام ص401، 402. [2] الهجرة اليمنية الحضرمية إلى إندونيسيا ص89. [3] صور من الشرق في إندونيسيا ص108. [4] الدعوة إلى الإسلام ص403. [5] انتشار الإسلام في إندونيسيا ص72. [6] السابق. [7] رحلة ابن بطوطة 4/114. [8] توماس أرنولد: السابق ص407. [9] السابق ص408. [10] انتشار الإسلام في إندونيسيا ص72.المصدر : الجزيرة