علمائية ملهمة (38) الإمام ابن حزم الظاهري رحمه الله ” إمام أهل الأندلس “

علمائية ملهمة (38)
الإمام ابن حزم الظاهري رحمه الله ” إمام أهل الأندلس “
نماذج
الكاتب: د. علي الصلابي
هو الإمامُ والمجتهد الكبير، بحر العلوم، وجامع الفنون، وإمام المذهب الظَّاهريِّ وأبرز أعلامه، الفقيه الحافظ، الأديب الوزير، المؤرِّخ الناقد، العالم الموسوعيُّ، صاحب التَّصانيف الباهرة والأقوال الظَّاهرة، أجمعَ أهلِ الأندلس قاطبةً لعلوم الإسلام، وأوسعَهُم معرفةً، مع توسُّعه في علم اللِّسان، ووفور حظِّه من البلاغة، والمعرفة بالسِّيَر والأخبار، الإمام أبو محمَّدٍ عليُّ بن أحمد بن سعيد بن حزمٍ الأندلسيُّ، الشَّهير بابن حزم الظاهري.
أولاً: مولده اسمه ونسبه:
هو علي بن أحمد بن سعيد بن حزم بن غالب بن صالح بن خلف بن معدان بن سفيان بن يزيد.ولد أبو محمد قبل طلوع الشمس، آخر ليلة الأربعاء آخر يوم من شهر رمضان من سنة (٣٨٤هـ)، وقد كانت ولادتهبقرطبة.
ويرى معظم من ترجم له أنه فارسي الأصل، وأن جده الأقصى يزيد هو أول من أسلم من أجداده، وأنه مولى ليزيد بن أبي سفيان. ويرى بعض من ترجم له أنه ليس كذلك، وأنه إسباني الأصل، قال ابن سعيد: (وادعى أنه من الفرس، وهو خامل الأبوة من عجم لبلة)، ويكنى أبو محمد.(معجم الأدباء، ياقوت الحموي، ج12 ص237)
ثانياً: نشأته العلمية ورحلته في طلب العلم:
وصف الحافظ الذهبي (رحمه الله) نشأة ابن حزم فقال: “نشأ في تنعم ورفاهية، ورزق ذكاء مفرطاً، وذهناً سيالاً، وكتباً نفيسة كثيرة”، وهذا يحدد العوامل المساعدة لابن حزم على تلقي العلم، من غنىً يتيح له التفرغ لطلب العلم إلى ذكاءٍ متوقد وحافظة قوية، إلى مكتبة ينهل منها، ولقد أتيح له أن تربيه النساء، يحدثنا (رحمه الله) عن هذا فيقول:
“لقد شاهدت النساء، وعلمت من أسرارهن ما لا يكاد يعلمه غيري لأني ربيت في حجورهن، ونشأت بين أيديهن، ولم أعرف غيرهن، ولا جالست الرجال إلا وأنا في حد الشباب، وحين تنيَّل وجهي، وهُنَّ علمنني القرآن، وروينني كثيراً من الأشعار، ودربنني في الخط”(طوق الحمامة،ضمن رسائل ابن حزم، ص16)
ورحل ابن حزم في طلب العلم، وجال الأندلس، وقد حدثنا مترجموه أنه: “قد انتقل من شرق قرطبة إلى غربها، ومن قرطبة إلى ألمرية”. وقد لوحظ أن رحلته في غالبها ليست باختياره بل كانت إجبارية، وفي هذا يقول العلامة أبو زهرة رحمه الله: ” هذه إشارة إلى رحلات ابن حزم، ولم تكن اختيارية في كثير منها، بل كانت إجبارية في أحيان كثيرة”(ابن حزم خلال ألف عام، عبد الرحمن الظاهري، ج2 ص47 – 48).
ثالثاً: مذهبه الفقهي:
اتجه ابن حزمٍ في بداية أمره إلى دراسة الفقه المالكي، باعتباره المذهب السائد بالأندلس، فقد ثبتَ عنه أنه درس الموطأ على أبي عبد الله بن دحون، فبدأ بدراسته نحو ثلاثة أعوام وبدأ بالمناظرة، ثم انتقل بعد ذلك (رحمه الله) إلى مذهب محمد بن إدريس الشافعيّ، وناضل عن مذهبه وانحرف عن مذهبِ سواه، حتى وسم به ونسب إليه(معجم الأدباء، مرجع سابق، ج4 ص1652). ويبدو أنه وجد في المذهب الشافعي ما يتماشى مع منهجه في تعظيم النصوص، والتمسك بها، فانتقل إليه وتبناهُ، وفي هذا يقول أبو زهرة: “ولعل الذي أعجبه في المذهب الشافعي شدة تمسكه بالنصوص، واعتباره الفقه نصاً أو حملاً على النص، وشدة حملته على مالك عندما كان يفتي بالاستحسان والمصالح المرسلة، وكتابته كتاباً خاصاً في إبطـــال الاستحسان(ابن حزم، حياته وعصره، لأبي زهرة، ص35).
إلا أن هذا الانتقال سرعان ما تبعهُ انتقال آخر إلى المذهب الظاهري، وكان آخِرَ ما استقر عليه في حياته، يقول ياقوت الحموي: “ثم عدل في الآخر إلى قول أصحاب الظاهر مذهب داود بن علي ومن اتبعه من فقهاء الأمصار، فنقّحه ونهجه وجادل عنه ووضع الكتب في بسطه وثبت عليه إلى أن مضى لسبيله” (معجم الأدباء، مرجع سابق، ج4 ص1655).
وفي السياق ذاته يقول الذهبي: “إنه تفقه أولاً للشافعي، ثم أداه اجتهاده إلى القول بنفي القياس كله جليه وخفيه، والأخذ بظاهر النص وعموم الكتاب والحديث، والقول بالبراءة الأصلية، واستصحاب الحال، وصنف في ذلك كتباً كثيرة، وناظر عليه، وبسط لسانه وقلمه” (سير أعلام النبلاء، للذهبي، 18/186).
وهكذا، انتقل ابن حزم بين هذه المذاهب الثلاثة، باحثاً عن أكثرها تعظيماً لنصوص القرآن والسنة، وعن أبعدها عن العقل والرأي، فوجد ضالتهُ في المذهب الظاهري، الذي سيضطر للدفاع والجدال عنه فيما بعدُ.
رابعاً: علوم ابن حزم:
من المعروف أن أبا محمد بن حزم كان موسوعي الثقافة، متعدد جوانب المعرفة، فهو الفقيه والأصولي التحرير، وهو المحدث المدقق، وهو المنطقي البارع، وهو اللغوي، وهو الشاعر المجيد، وهو المؤرخ الأمين، وهو التربوي والمربي الدارس لأغوار النفس، والمدرك لحقيقتها بحسب الطاقة البشرية، إلى غير ذلك.
– ابن حزم المحدث:
عرف ابن حزم بالمحدث عند مترجميه، فقد وصفه ابن ماكولا بأنه: «حافظاً للحديث مصنفاً فيه»(جذوة المقتبس، للإمام عبد الله الحميدي، ص308).وهو محدث كبير، فقد ذكره السخاوي في رسالته في المتكلمين في الرجال فقال: “ثم بعدهم ابن عبد البر، وابن حزم الأندلسيان”. هذا كلام أهل التقعيد من المحدثين بخصوص اعتبار ابن حزم الظاهري أحد الذين تكلموا في الرجال جرحاً وتعديلاً، وأحد الذين اعتمد كلامهم في نقد الرجال، وكان له نقد لرجال الحديث في ثنايا كتبه عبر مناقشاته لمخالفيه ومنافحاته عن رأيه ومذهبه الذي هو عليه، وقد تناقل من جاء بعده من المحدثين كلامه في الرجال جرحاً وتعديلاً في مصنفاتهم في الرجال، كما هو صنيع الإمام الذهبي في ميزان الاعتدال، والإمام ابن حجر في لسان الميزان، وتهذيب التهذيب (الإمام ابن حزم، محمد أبو صعيليك، ص51).
هذا وقد كان من عادته في كتبه نقد الأحاديث التي يرويها بسنده، بذكر الكلام في رواتها، ولا شك أن هناك عدداً لا يستهان به قد تكلم فيه ابن حزم في كتبه جرحاً وتعديلاً، وقد أغرى هذا المعاصرين على جمع الرواة الذين تكلم فيهم ابن حزم، فكان عددهم ثمانين رجلاً، ولا شك أن هذا عدد لا يستهان به لرجل ناقد تكلم فيما يقارب ألف رجل (ابن حزم خلال ألف عام، مرجع سابق، ج4 ص8).
– ابن حزم الفقيه:
بنى ابن حزم اجتهاده على أصول محددة، قد نص عليها في كتبه في الأصول، وقد اعتمد عليها في كتابه (المحلى)، يقول أبو محمد بن حزم (رحمه الله): “لا يحل لأحد أن يفتي، ولا أن يقضي، ولا أن يعمل في الدين إلا بنص قرآن، أو نص حكم صحيح عن رسول الله، أو إجماع متيقن من أولي أمر منا لا خلاف فيه من أحد منهم”. ويقول أيضاً: ” الأصول التي لا يعرف شيء من الشرائع إلا فيها، وأنها أربعة وهي: نص القرآن، ونص كلام رسول الله ﷺ الذي إنما هو عن الله تعالى كما صح عنه نقل الثقات أو التواتر، وإجماع جميع علماء الأمة، أو دليل منها لا يحتمل إلا وجهاً واحداً ” (الأحكام، للإمام ابن حزم، ج1 ص71).
وابن حزم، فقد اعتمد فقط على الكتاب والسنة والإجماع؛ بل إنه يصرح بأنه لا يصح لأحد أن يقلد أحداً، ولو كان صحابياً؛ وصريح ذلك أنه لم يبح تقليد الصحاب. أما الأئمة الأربعة، فقد اتفقوا على القول برأي الصحابي، قال ذلك أبو حنيفة ومالك، وكتبه الشافعي في الرسالة، وأخذ به أحمد، وكان ذلك من أعمدة فقهه التي قام عليها. وبهذا كانت مناهج ابن حزم مخالفة لمناهج الأئمة الأربعة في استنباطهم، وقد حمل فقهه اسم الفقه الظاهري؛ لأنه لم يعتمد إلا على ظاهر الكتاب والسنة، ولم يعتمد على نصوص القرآن الكريم والسنة النبوية معللة، بحيث تعرف علتها، ويقاس عليها غيرها.كما أن ابن حزم يأخذ الحكم من النص، ولا يعلل النص، ولذلك يسمى هذا المنهاج المنهاج الظاهري أو الفقه الظاهري.
وابن حزم هو فقيه شديد المراس، ولا شك أن من جاء بعده قد تأثر به، ونسج على منواله، كما أن بعضاً من أهل العلم قد نكب عن طريقه، وأساء الظن به وإن كان الخطب في الخلاف يسيراً، وقد تأثر أئمة أعلام بآراء ابن حزم الفقهية، وكانت لهم موافقات له، يقول العلامة أبو عبد الرحمن بن عقيل: ومن المتعاطفين مع ابن حزم وأهل الظاهر الإمامان الأمير الصنعاني والشوكاني، فكانا كثيري النقل من مذهب ابن حزم وأهل الظاهر، بل كان الشوكاني كثير التنديد بمعارضي أهل الظاهر (ابن حزم، حياته وعصره، مرجع سابق، ص261).
– ابن حزم المؤرخ:
ومن جوانب نبوغ ابن حزم معرفته بالتاريخ وبحثه فيه، وقد وصفه مترجموه بذلك، يقول الدكتور عبد الكريم خليفة: «أما في مجال التاريخ والأخبار، فابن حزم مؤرخ مبرز، واسع الاطلاع، عميق المعرفة، درس تاريخ مختلف الشعوب في المشرق والمغرب، وكان له إلمام واسع بحوادث الأندلس مما جعل تلميذه الحميدي يروي عنه معظم الحوادث والأخبار في كتابه (جذوة المقتبس)، وهذا يلقي ضوءاً على ثقافته التاريخية، وماله فيها من باع طويل، كما يدل على مقدرته في النقد والتمييز. ولذا فقد وصفه الدكتور زكريا إبراهيم بالمؤرخ الممتاز لاجتماع صفات الصدق والضبط والدقة وقوة الملاحظة، وحسن الاستدلال بما جعل منه راوية أميناً، ومحققاً نزيها، ومؤرخاً واسع الأفق”. (ابن حزم الأندلسي حياته وأدبه، عبد الكريم خليفة، ص110)
– المعرفة بالأنساب:لابن حزم معرفة بعلم الأنساب، فقد صنف فيه كتابه «جمهرة أنساب العرب»، وقد قال في مقدمته: فجمعنا في كتابنا هذا تواشج أرحام قبائل العرب، وتفرع بعضها من بعض، وذكرنا من أعيان كل قبيلة مقداراً يكون من وقف عليه خارجاً من الجهل بالأنساب، ومشرفاً على جمهرتها”، وعن أهمية الأنساب يقول (رحمه الله): «فوجب بذلك أن علم النسب علم جليل رفيع، إذ به يكون التعارف (جمهرة أنساب العرب، للإمام ابن حزم، ج1 ص6).
– معرفته بالسيرة النبوية:فقد صنف ابن حزم فيها تصنيفاً، وقد كان كتابه (جوامع السيرة) نموذجاً طريفاً للتأليف في السيرة، وقد حدثنا عنه الدكتور زكريا إبراهيم فقال: ” ومن هنا فقد قدم لنا ابن حزم في كتابه جوامع السيرة عرضاً طريفاً للسيرة النبوية كشف لنا به عن سعة اطلاعه، ودقة ضبطه في تقييد التواريخ، ووضوح منهجه في معالجة المسائل التاريخية من حيث موضوعها وزمنها، وقد وصف ابن حزم في هذا الكتاب باتخاذه منهجاً واضحاً في معالجة السيرة النبوية، وذلك بتفصيله الحديث على كل رواية من روايات أصحاب المغازي”(جوامع السيرة، للإمام ابن حزم، ص10 – 11).
خامساً: وفاته:
غادر أبو محمد ابن حزم (رحمه الله) إشبيلية إلى قريته (منت ليشم) التي كان يمتلكها ويتردد عليها، وظل بها يمارس التصنيف والتدريس حتى وافته المنية عشية يوم الأحد 28 شعبان 456 هـ /15 يوليو 1063 م (سير أعلام النبلاء، مرجع سابق، ج18 ص211).
المراجع:
1- ابن حزم حياته وعصره، آراؤه وفقهه، للشيخ محمد أبو زهرة، دار الفكر العربي للطباعة -بمصر، ط1، ١٩٥٤م.
2- ابن حزم خلال ألف عام، جمع وتحقيق :الشيخ أبي عبد الرحمن بن عقيل الظاهري، دار الغرب الإسلامي – بيروت، ط1، ۱۹۸۲م.
3- ابن حزم الأندلسي حياته وأدبه، د عبد الكريم خليفة، الدار العربية – بيروت.
4- الأحكام في أصول الإحكام، للإمام أبي محمد علي بن أحمد بن سعيد بن حزم الأندلسي، طبعة دار الآفاق الجديدة – بيروت، بتحقيق الشيخ أحمد شاكر.
5- طوق الحمامة في الألفة والألاف، للإمام أبي محمد علي بن أحمد بن سعيد بن حزم، مؤسسة العربية للدراسات والنشر، ضمن مجموعة رسائل، بتحقيق: الدكتور إحسان عباس،ط2 ١٩٨٧م.
6- معجم الأدباء : لياقوت الحموي – طبعة مطبعة هندية بالموسكي بمصر سنة ١٩٢٨ .
7- سير أعلام النبلاء، للإمام أبي عبد الله الذهبي – مؤسسة الرسالة للطباعة والنشر – بيروت، بتحقيق جماعة من المحققين.
8- ابن حزم الكبير ، “دراسات في الادب والفلسفة” د. عمر فرّوخ، دار لبنان للطباعة والنشر – بيروت، ط1، 1400ه – 1980م.
9- الإمام ابن حزم الظاهري، “أعلام المسلمين”، محمد عبد الله أبو صعيليك، دار القلم – بيروت، ط1، 1415ه – 1995م.