
محمد البرزنجي
شهدت سوريا في السنوات القليلة الماضية تطورات ميدانية، وتقبلبات سياسية وصراعات عسكرية وأمنية كبيرة، مما خلفت جروحا دامية على المستويات المختلفة في الكيان السوري، وقد رافقت هذه التطورات تغيرات متسارعة في الوضع الإقليمي، بما فيها التطورات الدراماتيكية الكبيرة على مستوى النظام الإقليمي، بالإضافة إلى ما شهده النظام الدولي –ولا يزال- من تطورات كبيرة سياسيا وأمنيا وعسكريا واقتصاديا.
في ظل هذه الدوامة من التغيرات المتسارعة، سيواجه المشهد السياسي في سوريا تحديات كبيرة وفرصاً محتملة، وكلها مرتبطة بتحقيق شروط لا يمكن الرهان على تحقيقها، لأن الوضع غير مستقر لحد الآن، سواء على الصعيد الداخلي أو الإقليمي أو الدولي، لذلك تتظافر العوامل والمتغيرات الداخلية وتأثير القوى الإقليمية والدولية في تشكيل الواقع السوري وسيناريوهاته المستقبلية بعد انتهاء فترة حكم بشار الأسد.
فعلى الصعيد الداخلي، أولاً: دمرت الحرب البنية التحتية، فهي بحاجة إلى إعادة الإعمار، وهذا ما يتطلب جهود جبارة لإعادة بناء المدن المدمرة والأماكن المتضررة. وبما أن الدولة والنظام السياسي فيها كانت استبدادية طيلة عقود مضت، فإن الثقافة السياسية للشعب والنخبة السياسية أيضا بحاجة ماسة إلى ترميم وتنشئة جديدة، ومعلوم أن التحول الثقافي يحتاج إلى وقت ليس بقصير، وإن قبول نظام ديمقراطي -أو غير استبدادي على الأقل- سيكون صعب التحقق على مستوى الشعب والنخبة السياسية أيضا في الواقع العملي، لأن تحول النظم والثقافة السياسية لا يتم بين ليلة وضحاها، بل يحتاج إلى جهود جبارة مستديمة، كما يتطلب بناء دولة مؤسسات قوية ونشطة وانتماء شعبي قوي بين طوائف الشعب المختلفة لهذا البلد.
وبما أن طريقة إدارة الدولة في الماضي وطبيعة الصراعات، أدتا إلى انقسام اجتماعي وطائفي، وما زاد من هذه الانقسامات الطائفية والمذهبية والعرقية الحرب المدرة التي شهدتها السنوات الماضية، لذلك فإن البلد بحاجة ماسة إلى المصالحة الوطنية والسلم الاجتماعي وتحقيق العدالة الانتقالية، وهذا ما يحتاج إلى ترسيم مشروع وطني وبرنامج متكامل يتسع لتشمل حقوق أطياف الشعب السوري كافة، بما يؤدي إلى التئام الجراح وخلق بيئة مواتية للتعايش بسلام يؤدي إلى الازدهار.
من جانب آخر، يعد تعدد القوى المسلحة والمليشيات والسلاح المنفلت بيد الفصائل المسلحة والقوات غير نظامية، لاسيما المدعومة منها من الخارج، تحديا ملموسا وعائقا كبيرا أما الاستقرار السياسي والأمني وحتى السلم المجتمعي. هذا بالإضافة إلى ملف اللاجئين والنازحين السوريين الذي يحتاج إلى حل سريع.
وعلى الصعيد الإقليمي والدولي، ثانياً: نظرا للموقع الاستراتيجي لسوريا، وطبيعة نسيجه الاجتماعي والطائفي والمذهبي والموارد التي تمتلكها، فإنها أصبحت مصدر اهتمام القوى الخارجية والاستقطاب الجيوستراتيجي للقوى الكبرى، فكل من هذه الدول تريد أن تكون مصالحها، سياسيا وأمنيا واقتصاديا، محفوظة مستقبلا في هذا البلد. وبالتأكيد ستلعب تركيا والولايات المتحدة الأمريكية الدور الرئيس والمتنافس في صياغة المرحلة القادمة، في مقابل انسحاب الدور الكبير الذي لعبه كل من موسكو وطهران في السابق. هذا بالإضافة إلى دور إسرائيل وبعض الدول الخليجية التي تحاول أن تكون لها موقعا في مستقبل المشهد السوري، وهي قد حاولت بالفعل، سواء على الصعيد العسكري والأمني أو على الصعيد السياسي والاقتصادي.
من جانب آخر، تحتاج العودة إلى النظام الإقليمي العربي وملامح هذه العودة ورسم السياسة الخارجية الجديدة لسوريا بعد عزلة دولية دامت لسنوات عديدة، يحتاج إلى التمكن من الاستقرار في الداخل والسيطرة على الوضع السياسي والأمني وإرساء نظام قائم على المؤسسات يحوى أطياف الشعب كافة، وتحفظ حقوقهم.
وبعد إسقاط الدور الروسي والإيراني في سوريا، تسعى الولايات المتحدة والدول الغربية عموما إلى توظيف هذا التراجع الروسي-الإيراني الكبير في المنطقة لصالحها، كما تدفع باتجاه حل سياسي داخل سوريا لضمان مصالحها وتخفيف حدة أزمة اللاجئين السوريين، كما تفكر بملف العقوبات، وهي مرتبطة بشكل نظام الحكم القادم، هل سيكون نظاما أكثر انفتاحاً، بما يجبر الغرب على المحاولة لإعادة دمج سوريا في الاقتصاد العالمي، أم لا؟
من جهة أخرى، ستظل القضية الكردية محورية داخليا وإقليميا، وهي مصدر صراع دام في الداخل السوري ومصدر قلق كبير لدى تركيا، وأداة بيد الولايات المتحدة الأمريكية والقوى الغربية. ستبقى المشهد مفتوحا ومشروطا بقادم الأيام بما تشهدها من تطورات وقرارات مصيرية بين قوى الداخل والقوي الإقليمية والدولية. ومستقبل هذه القضية سيرسم مستقبل النظام السياسي السوري واستقراره من عدمه.
سيناريوهات مستقبل سوريا:
نظرا لقراءة متفحصة للواقع السوري الراهن ومشهده السياسي والاقتصادي والأمني، فإن استشراف مستقبل سوريا سيكون صعبا ومشروطا في الآن ذاته، لكن إذا أخذنا أداة السيناريوهات لقراءة هذا المستقبل، يمكن رسم سيناريوهات محتملة وممكنة ومفضلة لمستقبل سوريا:
- سيناريو الانقسام (تفكك الدولة): أي تقسيم فعلي للدولة إلى مناطق نفوذ متعددة تحت سيطرة قوى مختلفة. بمعنى أنه إذا ما لم يتم التوصل داخليا بين القوى المختلفة لاسيما بين الإدارة الجديدة في دمشق وبين القوى الكردية من جهة، وخارجيا بين تركيا والدول الغربية والولايات المتحدة على وجه الخصوص من جهة أخرى، إلى اتفاق سياسي وأمني شامل ترضي الجميع بشكل من الأشكال، فقد تتجه سوريا نحو التقسيم الفعلي، وتنشأ مناطق نفوذ داخلية وإقليمية ودولية داخل هذا البلد. وهذا يؤدي إلى استمرار النزاع على الموارد والنفوذ وعدم تحقيق استقرار طويل الأمد.
- سيناريو الاستمرار (استمرار الصراعات وحالة الفوضى): هذا السيناريو تفترض بقاء صراعات والنزاعات المسلحة بين القوى المحلية والتجاذبات والصراعات بين القوى الإقليمية والدولية دون الوصول إلى حل يرضي به الجميع.
- سيناريو التغيير (الاستقرار التدريجي وتشكيل حكومة وطنية شاملة): هذا السيناريو يفترض تحسن الأوضاع السياسية والأمنية والعسكرية، وإصياغة دستور جديد يضمن حقوق الإنسان بكافة أطيافه. كما يفترض الوصول إلى حل توافقي بين الأطياف الرئيسة في سوريا للوصول إلى تشكيل حكومة توافقية في ظل نظام سياسي فيدرالي أو ديمقراطي تعددي يرضي الجميع وبدعم ومساندة إقليمية ودولية تؤسس لدولة المؤسسات وحفظ حقوق المواطنين كافة وإجراء مصالحة وطنية شاملة تؤدي خطوة بخطوة إلى سلم إجتماعي وتلاحم وطني يقود إلى استقرار نسبي في البلاد. كما تؤدي إلى خلق واقع سياسي جديد في سوريا يعبر عن تطلعات الشعب من جهة، كما يؤدي إلى تراجع نفوذ القوى الخارجية رويدا رويدا.
صفوة القول:
يشهد الواقع السياسي في سوريا الجديدة مرحلة انتقال حذر مفتوح على كل الاحتمالات، وهي مفترق طرق مشروطة بما سيشهده الواقع السوري والتجاذبات الإقليمية والصراعات الدولية، وبالتالي فهي مرحلة معقدة وغير مستقرة، وإن تشكيلها بنجاح وباتجاه الاستقرار وبناء دولة المواطنة الحقيقية، يعتمد على يعتمد على قدرة صناع القرار في هذا البلد على تحقيق المصالحة الوطنية وبناء المؤسسات، وضمان المشاركة السياسية. بالتالي فسوريا الآن لديها فرص جدية وجيدة لتحقيق الاستقرار السياسي والعمل من أجل رفع العقوبات الاقتصادية عليها والحصول على الدعم الدولي لإعادة الإعمار، باإضافة إلى الشروع بمصالحة وطنية والقيام بإعادة المهجرين والنازحين إلى مأواهم. في الوقت ذاته، فإن المرحلة القادمة محفوفة بمخاطر جسيمة وتحديات كبيرة، ما لم يتم التوصل إلى اتفاق وتوافق شاملين بين الأطراف المختلفة، وما لم يتم الاتفاق على مواجهة القوى المتطرفة أو المجموعات المسلحة، وكذلك الحد من التدخلات الخارجية –الإقليمية منها والدولية- التي قد تحاول فرض مصالحها.
أخيراً، يمكن القول: إن مستقبل سوريا مرتبط بمدى قدرة الأطراف الداخلية على التوصل إلى اتفاق شامل وطني ترقي إلى ما يتطلبه الشعب والمرحلة، كما تعتمد على إرادة القوى الخارجية للوصول إلى حلول تضمن الاستقرار لسوريا ونظامها السياسي والاقتصادي والأمني بما لا يشكل تهديدا على أي طرف، وهذا بحاجة إلى إرادة سياسية وطنية حقيقية وتعاوناً دولياً متعدد المستوى.