المقالات

تجليات القيم الحضارية في طوفان الأقصى

أ.د . صباح البرزنجي

القيم هي مجموعة من العقائد و الأفكار و المفاهيم المعيارية التي تسود في المجتمع و تلقى قبولاً وافراً بحيث لا يسمح بتجاوزها و التنكر لها ، فيكون المجتمع بأنماطه و طبقاته و مستوياته المختلفة حارساً لها و ساهراً على استمرارها .

و يمكن تصنيف القيم إلى قيم دينية و ثقافية و اجتماعية و سياسية و اقتصادية ، وما إلى ذلك من أقسام و فروع ، لعل أهمها ما يتصل بالحضارة الإنسانية في مجموعها . و التي يمكن تسميتها بالقيم الحضارية و مثلوا لها بحب الأوطان و احترام الوقت و التعايش مع الآخر و التسامح الفكري و الرقي بالمعارف و الآداب و الفنون و التمدن و احترام الخصوصيات الدينية و المذهبية و القومية و الفكرية .

ومعلوم لدى الناقد البصير أن البشرية في وضعها الراهن تعاني أزمات كبيرة و معقدة ، من أبرزها أزمة القيم عموما و الحضارية منها خصوصاً ، بعد هيمنة النظرة المادية الذرائعية الغربية التي تعالج كل شيء وفق فلسفتها الليبرالية و العلمانية و ترد كل المعايير إلى هذا المعيار الأحادي الذي صاغه العقل الغربي المسيطر بالحديد و النار ، بعد بداية الهيمنة الرقمية المعلوماتية و اللوجستية العسكرية العابرة للقارات و التي تستهدف القيم المعنوية و الحضارية قبل كل شيء ، و دافعها في ذلك استئصال روح المقاومة الفطرية لدى الشعوب المتمسكة بتراثها و دينها و عقيدتها و رؤيتها للإنسان و الكون و الحياة .

ويبدو أن النظرة المادية في تصورها للحياة و عناصرها الماورائية باتت بأمس الحاجة إلى لمس هذه القيم و تجربتها في الواقع الإنساني ، لذا قيض الله في عصرنا و يقيض في كل عصر مجموعة من الربانيين القائمين على الحق ، بحيث تتجلى فيهم هذه القيم الحضارية ( ليكونوا شهداء  على الناس و يكون الرسول عليهم شهيدا ) ، وهؤلاء الشهداء في عصرنا الحاضر ليسوا سوى المجاهدين المرابطين في فلسطين ، وتحديدا في غزة الجهاد و المقاومة ، وعلى خطى الشهداء الأبرار من أحمد ياسين الى الرنتيسي و أبي العبد و غيرهم الكثير ، الذين سطروا بدمائهم الزكية و أرواحهم النقية أروع الملاحم البطولية ، و أبلغ الشواهد الرسالية على زرع القيم الحضارية في نفوس الأجيال و عقولها ، بحيث تنبعث لمقاومة الاحتلال الصهيوني المدعوم أمريكياً و غربياً ، دونما ضعف و تنازل أو تردد في المنازلة ، و العمليات الاستشهادية التي زلزلت الأرض من تحت أقدام الصهاينة المحتلين و حماتهم بالمال و السلاح و السياسة و الاعلام المتهالك المضلل .

لقد ضرب أبطال الجهاد و المقاومة البواسل في غزة الصمود و المصابرة أروع الأمثلة للتعبير عن الارتباط بالوطن و الأرض و المقدسات و التفاني من أجلها ، كما ضربوا أروع الأمثلة في الالتزام باخلاقيات الجهاد و المقاومة في تعاملهم الانساني مع الأسرى و المحتجزين ، إذ لم يتعاملوا معهم بعقلية الانتقام و الإبادة و التهجم و التهكم المعتادة يومياً من لدن الكيان الصهيوني الغاصب  . هذا الكيان الذي مازال يضرب بعرض الحائط كل الموازين و الاتفاقيات الدولية و يتعامل بعنجهية بادية للعيان مع المبادرات الداعية لوقف إطلاق النار و يطلق العنان للمستوطنين الحاقدين ليفعلوا ما بدا لهم من الانتهاكات الصارخة و التجاوزات الخطيرة على المدنيين العزل و الأبرياء من الشيوخ و الأطفال و النساء .

في المقابل نجد المرابطين الربانيين يسلكون سلوك الصحابة و التابعين في الذود عن المحارم و الأوطان و استنهاض الهمم و القوى الوطنية للدفاع عن الأقصى و المقدسات ، غير آبهين بما يصيبهم من أذى و تدمير و تهجير و سياسات الأرض المحروقة و الإبادة ، فأصبح المحتل لا يهدأ له بال و لا يسكن له حال ، و المستوطنون يعيدون هواجس الخوف و الوجل التي كانت تراود أجدادهم يوم قالوا لنبي الله موسى ( إن فيها قوماً جبارين وانا لن ندخلها حتى يخرجوا منها فإن يخرجوا منها فإنا داخلون ) .

لقد تجلت إرادة الله تعالى في عملية طوفان الأقصى بنصر معنوي و سياسي و إعلامي للمؤمنين بقضاء الله و قدره ، فوقف العالم أجمع على قوة افرادة و صلابة الموقف و متانة الحق الذي يستندون اليه في جهادهم المتواصل و المستمر و في شوقهم للشهادة و حنينهم إلى الفردوس الأعلى ( مع النبيين و الصديقين و الشهداء و الصالحين و حسن اولئك رفيقا ) .

كيف لا و قد اتخذهم الله أخلاء و أولياء له في يوم تخلى الكثير من الناس عن القيم الحضارية و المفاهيم العليا الإنسانية  ، و انخرطوا في مشاريع التطبيع و الاستسلام و التخاذل بذرائع واهية جدا .فرضوا بالدناءة و الخسران بدل العزة و الرضوان . لكن أهل غزة بكافة فئاتهم و طبقاتهم وقفوا صفاً واحدا كالبنيان المرصوص ، يبتغون من الله فضل الشهادة و عزيمة النصر و رفعة الرؤوس جزاء وفاقاً لطوفانهم الجارف لعروش الطغاة المستبدين و المزلزل لعساكرهم الخاوية و جيوشهم العاوية .

إن هذه الملحمة الإيمانية التي تشهدها غزة منذ سنة كاملة قد أثبتت للقاصي و الداني هشاشة الطروحات المادية الامريكية و البرامج الاقليمية المهزوزة و كل مشاريع التطبيع المتخاذلة ، بحيث بدأ الصهاينة يفقدون توازنهم و قدرتهم على المناورة بإزاء الصمود التاريخي و الأسطوري لأبطال غزة و وقوفهم خلف قيادتهم الميدانية المخلصة و الكفوءة ون أدنى تردد أو اضطراب في الموقف ، فقد تعلموا دروس التضحية و الإيثار في مدرسة المصطفى الأعظم صلى الله عليه و سلم  و الصديق الأكبر و الفاروق عمر و ذي النورين الأنور و حيدر الكرار الأغر و سائر قادة الفتح الإسلامي الأزهر رضي الله عنهم أجمعين .

و الإحصائيات المتوفرة تدلنا على مدى الدمار المادي الذي لحق باخوتنا في القطاع الشامخ و عدد الشهداء و الضحايا و الجرحى ، لكن أحداً من أهل غزة لم يتوان و لم يتراجع قيد أنملة عن الموقف الوطني و الحكم الشرعي و الإصطفاف حول قيادته الشرعية و الوطنية ، وهذا هو النصر المؤزر و الفتح المبين للقضية الفلسطينية العادلة ، التي مهما حاول المستسلمون و تهالكوا في تسويتها بالمعيار الامريكي و المساومة عليها و التنازل عن حقانيتها الشرعية و القانونية و التاريخية ، إلا أنها بقيت و ستبقى أولى القضايا الاسلامية و أعزها في نفوس الأمة و هي فضلا عن ذلك قضية أحرار العالم و قضية الشرفاء من أصحاب الضمائر الحية و العقول الواعية . رغم أنف الأعداء و العملاء .

إن القضية الفلسطينية قضية أمة ذات قيم إيمانية و عقدية و أخلاقية ، بل هي قضية في صميم الحضارة الانسانية المستمدة من تعاليم الأنبياء و الأصفياء .وقد تجلت معانيها و قيمها في الوقفة الفلسطينية الغزاوية الحماسية و الجهادية التي مهدت وتمهد لزوال هذا الكيان الغاصب الذي هو عدو للسلام و الاستقرار في العالم ، و الذي لايمت إلى الانسانية و قيمها النبيلة بصلة ، بقدر ما هو غدة سرطانية استحدثت للنيل من التعايش السلمي و التسامح الفكري بين الأديان و الأفكار و المعتقدات ,

وقد أثبتت طوفان الأقصى أن الحقوق المهضومة و المنتهكة لا يمكن استردادها و لا الحفاظ عليها إلا بالجهاد و المقاومة الشريفة ، و أن القدس الشريف أمانة في أعناقنا يجب حمايتها و صيانتها من تلاعب الخونة و عبث المحتلين و مماطلة المخادعين الدوليين .

وأن الدماء الزكية الطاهرة التي سالت في شوارع غزة و أزقتها ستنبت أجيالاً تعرف قيمة التضحيات الجسام و تعرف قيمة الأرض الطاهرة الفلسطينية شبرا شبرا . بحيث لا تفرط بقطرة دم و لا بشبر أرض و لا بغصن زيتون ، وهذه الأجيال هي التي ستعيد الحقوق إلى نصابها و أصحابها .

وفي الختام أدعو المؤتمرين الكرام من السادة الأعلام و العلماء و المشايخ العظام ، أن ينشروا ثقافة المقاومة هذه بكافة أبعادها لتتحول إلى منهج تربوي متكامل الأركان و البنيان ، لتبقى كلمة الله هي العليا  وتكون كلمة الكفرة المجرمين هي السفلى في موازين القوى و في كافة الميادين .

وقل اعملوا فسيرى الله عملكم و رسوله و المؤمنون .

والسلام عليكم و رحمة الله و بركاته .

د.صەباح بەرزنجی

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً