القرآن الكريم كتاب نور وهداية
أنزل الله تعالى القرآن الكريم مرشداً للخير، دالاً على الفلاح، مبيناً سبل النجاة ليس لطائفة دون أخرى أو لجماعة دون غيرها في وقت محدد ومكان معين مخصوص، وإنما بالنسبة لكل الناس عربهم وعجمهم، أبيضهم وأسودهم، مؤمنهم وكافرهم في مختلف العصور ومطلق الأمكنة. فهداية القرآن بمعنى الإرشاد والدلالة والتبيان هداية عامة، فالقرآن الكريم كتاب هداية وإرشاد، يرشد الناس إلى ما فيه الخير والسعادة في الدارين.
فالقرآن الكريم هو هداية للعالمين، أنزله الله ليُخْرِجَ الناسَ من الظلمات إلى النور، قال تعالى: ﴿اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النَّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾ [البقرة: 257].
وقال تعالى: ﴿الر كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ﴾ [إبراهيم: 1]. وقد تحقق هذا حينما اهتدى العرب بهداه، فخرجوا من الظلمات إلى النور، ومن التخلف إلى قمة الحضارة والمدنية، ومن الذل والتبعية إلى السيادة والعالمية، ثم أوصلوا هدايته إلى العالم من حولهم بأمانة وتضحية وإخلاص، فإذا بالعالم يكتسي بحلة العزة والرفعة والبهاء والجمال، وأثبت واقع المسلمين عبر الزمن أنهم أصبحوا بتمسكهم بالقرآن أرقى الأمم، وبتخلفهم عنه وأخذهم بما عند الأمم من ضلال أخس الأمم. قال تعالى: ﴿إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم ويبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات أن لهم أجراً كبيراً﴾ [الإسراء: 9].
وهداية القرآن الكريم أصل من أصوله ومعقد مقاصده، وأهم أغراضه التي يجب أن تتوجه إليها العزائم، بأساليب تستجيب إلى نداء العلم والمعرفة في هذا العصر وفيما يستقبل من الزمن، بما لا يخالف أصول الإسلام التي جاء بها القرآن العظيم وبينتها السنة النبوية وأجمعت عليها الأمة.
وقد احتوى القرآن الكريم على صنوف متعددة من الهداية شملت جوانب الحياة كلها، وبها دون غيرها تتحقق السعادة المنشودة على وجه الكرة الأرضية، وجاء ذلك مؤكداً بنص القرآن الكريم.
قال تعالى: ﴿إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم ويبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات أن لهم أجراً كبيراً﴾ [الإسراء: 9]. يقول السعدي (رحمه الله) في تفسير هذه الآية: يخبر الله تعالى فيها عن شرف القرآن وجلالته وأنه أعدل وأعلى العقائد والأعمال والأخلاق، فمن اهتدى بما يدعو إليه القرآن كان أكمل الناس وأقومهم وأهداهم في جميع الأمور.
ويقول سيد قطب (رحمه الله) في تفسير هذه الآية: هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم هكذا على وجه الإطلاق فيمن يهديهم وفيما يهديهم، فيشمل الهدى أقواماً وأجيالاً بلا حدود من زمان أو مكان؛ ويشمل ما يهديهم إليه كل منهج وكل طريق، وكل خير يهتدي إليه البشر في كل زمان ومكان.
يهدي للتي هي أقوم في عالم الضمير والشعور بالعقيدة الواضحة البسيطة التي لا تعقيد فيها ولا غموض، والتي تطلق الروح من أثقال الوهم والخرافة وتطلق الطاقات البشرية الصالحة للعمل والبناء، وتربط بين نواميس الكون الطبيعية ونواميس الفطرة البشرية في تناسق واتساق.
ويهدي للتي هي أقوم في التنسيق بين ظاهر الإنسان وباطنه، وبين مشاعره وسلوكه، وبين عقيدته وعمله، فإذا هي كلها مشدودة إلى العروة الوثقى التي لا تنفصم، متطلعة إلى الأعلى وهي مستقرة على الأرض، وإذا العمل عبادة متى توجه الإنسان به إلى الله، ولو كان هذا العمل متاعاً واستمتاعاً بالحياة.
وكيف لا يكونُ كذلك، وهو تشريعٌ ربانيٌّ شاملٌ لجميع النواحي، وكافلٌ لإحقاق الحق وصيانة مصالح الناس في جميع شؤونهم: المالية والاجتماعية والأسرية والدولية، في حين أنه لم يوجدْ إلى الآن تشريع شامل أو عادل مع ما مرّ على الإنسانية من تجارب وخبراتٍ، حتى إن الله تحدّى العالمَ أن يأتوا بمثل القرآن، والمثلية تشمل جميعَ جوانب القرآن سواء الألفاظ والمعاني، وإذا عجزوا عما هو من جنس ما يستطيعونه ويتفوقون فيه، وهو نظم القرآن، فهم أشدُّ عجزاً عن تشريع القرآن وهدايته، لما يحتاجه إلى علم محيط بكل شيء، وليس هذا إلا الله عز وجل.
والقرآن هو هداية الخالق لإصلاح الخلق، وشريعة السماء لأهل الأرض، وهو التشريع العام الخالد، الذي تكفل بجميع ما يحتاج إليه البشر في أمور دينهم ودنياهم، وهو في كل ذلك حكيم كل الحكمة، لا يعتريه خلل ولا اختلاف ولا تناقض، قال الله تعالى: ﴿أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ ۚ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا﴾ [انساء: 83]، والقرآن أصيل غاية الأصالة، وعدل غاية العدالة، ورحيم غاية الرحمة، وصادق غاية الصدق، قال تعالى: ﴿وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا لَّا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ﴾ [المائدة: 15].
القرآن حارب التقليد، ودعا إلى النظر، والتأمل في الكون، وهو الكتاب الذي فك العقول من عقالها، وأطلق النفوس من إسارها، وأنحى على التقليد والمقلدين بالذم والتوبيخ، ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا ۗ أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ﴾ [البقرة:170].
وهو الكتاب الذي وجه العقول والأنظار إلى النظر في الأنفس، وما فيها من عجائب وأسرار وغرائز واستعدادات، ﴿وَفِي أَنفُسِكُمْ ۚ أَفَلَا تُبْصِرُونَ﴾، والنظر في الآفاق والآيات الكونية علوها وسفلها، ظاهرها وخفيها، وعما تنطوي عليه من حكم، وما أودع الله فيها من خواص وسنن، وقد أجمل الله (عز وجل) فيها جملة ما في القرآن من الهدى إلى خير الطرق وأعدلها وأصوبها، هو أن القرآن الكريم هدى للطريق التي هي أقوم، وهو توحيده تعالى في ربوبيته وعبادته وفي أسمائه وصفاته، وهديه إلى الرابطة التي تربط بين أفراد المجتمع، وهي رابطة دين الإسلام، قال تعالى ﴿وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ ۚ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ ۚ أُولَٰئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ ۗ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾ [التوبة: 71].
هكذا يظهر لنا أن الوسيلة الوحيدة لهداية القرآن العظيم تحصل بالتقوى والإيمان الخالص وما يتفرع من هذه الخصال الحميدة من خصال موازية لها، أو متفرعة عنها كالإحسان والإسلام، فالمتقون والمؤمنون هم الذين ينتفعون بما فيه من أوامر ونواه، وكذلك يصلح منهجاً لتوفر صفات المنهج الناجح فيه: من عصمة من الزلل، وتجرد من الهوى، وشمول لجوانب الحياة كلها، وملاءمته لكل المجتمعات والأمكنة والأزمنة، أما من لم يتصف بهذه الخصال الخيرة والنبيلة فلا تحصل له الهداية القرآنية، قال تعالى: ﴿وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ﴾ [محمد: 17].
المراجع:
- الإيمان بالقرآن الكريم، علي محمد الصلابي، (دار الروضة)، الطبعة الأولى، ص44.
- اعجاز القرآن الكريم، محمد صادق درويش، ص47.
- القرآن العظيم هدايته واعجازه، محمد الصادق عرجون، (دار القلم – دمشق)، ص22.
- المدخل لدراسة القرآن الكريم، محمد محمد أبو شهبة، (دار اللواء)، الطبعة الثالثة 1987، ص8.
- الهداية في القرآن الكريم، عبد الرحمن الحازمي، 2007، ص46.