الهجرة إلى الحبشة محطة جوهرية في مسيرة الدعوة إلى توحيد الله
بقلم: د. علي محمد الصلابي
يمثل موضوع الهجرة في الإسلام محطة مركزية في تحديد مستقبل الدعوة وضمان استمرارها، وذلك بالموازنة بين تجاذبات مقتضى الوطنية والتشبث بالبلد الأم وميراثها، ومكوناتها الاجتماعية والعرفية، وبين متطلبات الواقع والرؤية الكونية والعالمية العامة لمفهوم الإنسانية والعدالة وحماية الحقوق والأقليات والتعبير على أساس من الأخلاق واحترام الآخر والضيف والمستجير والمهاجر .ويمكن أن نشير بشيئ من التفصيل إلى أهم تلك القيم العظيمة التي زرعها حدث هجرة المسلمين إلى الحبشة:
– إنَّ ثبات المؤمنين على عقيدتهم، بعد أن يُنْزِلَ بهم الأشرار، والضَّالون أنواع العذاب، والاضطهاد دليلٌ على صِدْق إيمانهم، وإخلاصهم في معتقداتهم، وسموِّ نفوسهم، وأرواحهم، بحيث يرون ما هم عليه من راحة الضَّمير، واطمئنان النَّفس والعقل. وما يأملونه من رضا الله – جلَّ شأنُه -، أعظمُ بكثير ممَّا ينالُ أجسادَهم، من تعذيبٍ، وحرمانٍ، واضطهادٍ؛ لأنَّ السيطرة في المؤمنين الصَّادقين، والدُّعاة المخلصين، تكون دائماً وأبداً لأرواحهم، لا لأجسادهم، وهم يسرعون إلى تلبية مطالب أرواحهم، من حيث لا يبالون بما تتطلَّبه أجسامهم، من راحةٍ، وشبعٍ، ولذَّةٍ، وبهذا تنتصر الدَّعوات، وبهذا تتحرَّر الجماهير من الظُّلمات، والجهالات (السباعي، 1986، ص57).
– ممَّا يتبادر إلى الذِّهن من هذه الهجرة العظيمة، شفقة الرَّسول الكريم صلى الله عليه وسلم على أصحابه، ورحمته بهم، وحرصه الشَّديد للبحث عمَّا فيه أمنهم وراحتهم، ولذلك أشار عليهم بالذَّهاب إلى الملك العادل؛ الَّذي لا يُظْلم أحدٌ عنده، فكان الأمر كما قال صلى الله عليه وسلم ، فأمنوا في دينهم، ونزلوا عنده في خير منزلٍ،(الجزولي، 1996، ص312) فالرَّسول صلى الله عليه وسلم هو الَّذي وجَّه الأنظار إلى الحبشة، وهو الَّذي اختار المكان الامن لجماعته، ودعوته؛ كي يحميها من الإبادة، وهذه تربيةٌ نبويَّةٌ لقيادات المسلمين في كلِّ عصرٍ أن تخطِّط بحكمةٍ، وبُعْد نظرٍ لحماية الدَّعوة، والدُّعاة، وتبحث عن الأرض الامنة الَّتي تكون عاصمةً احتياطيَّةً للدَّعوة، ومركزاً من مراكز انطلاقها – فيما لو تعرَّض المركز الرَّئيسيُّ للخطر، أو وقع احتمال اجتياحه – فجنود الدَّعوة هم الثَّروة الحقيقية، وهم الَّذين تنصبُّ الجهود كلُّها لحفظهم، وحمايتهم دون أن يتمَّ أيُّ تفريطٍ في أرواحهم، وأمنهم، ومسلمٌ واحدٌ يعادل ما على الأرض من بشرٍ خارجين عن دين الله، وتوحيده ( الغضبان، 1998، ج1/333)
– كانت الأهداف من هجرة الحبشة متعددةً، ولذلك حرص النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم على اختيار نوعياتٍ معيَّنةٍ لتحقيق هذه الأهداف، كشرح قضيَّة الإسلام، وموقف قريشٍ منه، وإقناع الرَّأي العامِّ بعدالة قضيَّة المسلمين على نحو ما تفعله الدُّول الحديثة من تحرُّكٍ سياسيٍّ، يشرح قضاياها، وكسب الرَّأي العامِّ إلى جوارها،(سبع، 1973، ص427) وفتح أرضٍ جديدةٍ للدَّعوة، فلذلك هاجر سادات الصَّحابة في بداية الأمر، ثمَّ لحق بهم أكثر الصَّحْب، وأوكل الأمر إلى جعفر رضي الله عنه (الغضبان، 1998، ج1/333)
– إنَّ وجود ابـن عمِّ رسول الله صلى الله عليه وسلم جعفر، وصهره عثمان، وابنته رقيَّـة – رضي الله عنهم جميعاً – في مقدِّمة المهاجرين له دلالةٌ عميقةٌ، تشير إلى أنَّ الأخطار لا بدَّ أن يتجشَّمها المقرَّبون إلى القائد، وأهله، ورحمه، أمَّا أن يكون خواصُّ القائد في منأىً عن الخطر، ويُدْفَع إليه الأبعدون غير ذوي المكانة؛ فهو منهجٌ بعيدٌ عن نهج النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم (3).
– مشروعية الخروج من الوطن – وإن كان الوطن مكَّة على فضلها – إذا كان الخروج فراراً بالدِّين – وإن لم يكن إلى دار إسلام – فإنَّ أهل الحبشة كانوا نصارى، يعبدون المسيح، ولا يقولون: هو عبد الله، وقد تبيَّن ذلك في هذا الحديث – يعني: حديث أمِّ سلمة المتقدِّم – وسُمُّوا بهذه مهاجرين، وهم أصحاب الهجرتين الَّذين أثنى الله تعالى عليهم بالسَّبق، فقال: ﴿وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ﴾
– يجوز للمسلمين أن يدخلوا في حماية غير المسلمين، إذا دعت الحاجة إلى ذلك، سواءٌ كان المُجِير من أهل الكتاب كالنَّجاشي؛ إذ كان نصرانيّاً عندئذٍ، ولكنَّه أسلم بعد ذلك، أو كان مشركاً؛ كأولئك الَّذين عاد المسلمون إلى مكَّة في حمايتهم، عندما رجعوا من الحبشة، وكأبي طالبٍ عمِّ رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكالمُطْعِم بن عديِّ، الذي دخل الرَّسولُ صلى الله عليه وسلم مكةَ في حمايته عندما رجع من الطَّائف.(جزولي،1996، 316)
– إنَّ اختيار الرَّسول صلى الله عليه وسلم الهجرة إلى الحبشة يشير إلى نقطةٍ استراتيجيَّةٍ مهمَّةٍ، تمثَّلت في معرفة الرَّسول صلى الله عليه وسلم بما حوله من الدُّول، والممالك، فقد كان يعلم طيِّبها مِنْ خبيثها، وعادلها مِنْ ظالمها، الأمر الَّذي ساعد على اختيار دارٍ امنةٍ لهجرة أصحابه، وهذا ما ينبغي أن يكون عليه حال قائد الدَّعوة؛ الَّذي لا بدَّ أن يكون ملمّاً بما يجري حوله، مطَّلعاً على أحوال، وأوضاع الأمم، والحكومات.(علي محمد، 1996، ص101)
– يظهر الحسُّ الأمنيُّ عند الرَّعيل الأوَّل في هجرتهم الأولى، وكيفية الخروج، فيتمثَّل في كونه تمَّ تسلُّلاً، وخفيةً؛ حتَّى لا تفطن له قريشٌ، فتحبطه، كما أنَّه تمَّ على نطاقٍ ضيِّقٍ، لم يزد على ستة عشر فرداً، فهذا العدد لا يلفت النَّظر في حالة تسلُّلهم، فرداً، أو فردين، وفي الوقت ذاته يساعد على السَّير بسرعةٍ، وهذا ما يتطلَّبه الموقف؛ فالرَّكب يتوقَّع المطاردة، والملاحقة في أيِّ لحظةٍ، ولعلَّ السِّرِّيَّة المضروبة على هذه الهجرة، فوَّتت على قريشٍ العلم بها في حينها، فلم تعلم بها إلا مؤخَّراً، فقامت في إثرهم؛ لتلحق بهم، لكنَّها أخفقت في ذلك، فعندما وصلت البحر لم تجد أحداً، وهذا ممَّا يؤكِّد على أنَّ الحذر هو ممَّا يجب أن يلتزمه المؤمن في تحرُّكاته الدَّعوية، فلا تكون التَّحرُّكات كلُّها مكشوفةً، ومعلومةً للعدوِّ؛ بحيث يترتَّب عليها الإضرار به وبالدَّعوة.(علي محمد، 1996، ص101)
– انهزمت قريش في هذه الجبهة سياسية، ومعنويّاً، وإِعلاميّاً أمام مقاومة المسلمين الموفَّقة، وخطواتهم، وأساليبهم الرَّصينة.
– ومن دروس هجرة الحبشة: أنَّ الجهل ببعض أحكام الإسلام لمصلحة راجحةٍ لا يضرُّ. قال ابن تيميَّة – رحمه الله! -: وهو يقرِّر العذر بالجهل: «ولـمَّا زِيدَ في صلاة الحضر حين هاجر النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، كان مَنْ بعيداً عنه – مثل من كان بمكَّة، وبأرض الحبشة – يصلُّون ركعتين، ولم يأمرهم النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم بإعادة الصَّلاة».
– يرتبط زواج الرَّسول صلى الله عليه وسلم بأمِّ حبيبة بهجرة الحبشة ارتباطاً وثيقاً، ويحمل هذا الزَّواج منه صلى الله عليه وسلم لإحدى المهاجرات الثابتات معنىً كبيراً، وكان عقد الزَّواج على أمِّ حبيبة رضي الله عنها؛ وهي في أرض الحبشة، وجاء تأكيده في كتب السُّنَّة، فقد روى أبو داود في سننه بسندٍ صحيح عن أمِّ حبيبة رضي الله عنها: أنَّها كانت تحت عبيد الله بن جحش، فمات بأرض الحبشة، فزوَّجها النَّجاشيُّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم ، وأمهرها عنه أربعة الاف، وبعث بها إلى الرَّسول صلى الله عليه وسلم مع شُرَحبيل بن حسنة. [أبو داود (2107)].