ماذا تعرف عن مكتبات الحضارة الإسلامية؟ (1)
محمد شعبان أيوب
على الرغم من انتشار الأمية في شبه الجزيرة العربية قبل الإسلام؛ فإن الدلائل التاريخية تشير إلى معرفة عرب ما قبل الإسلام لفن الكتابة، وقد أشار محمد بن إسحاق النديم (ت 380هـ) صاحب كتاب “الفهرست” إلى معرفة عرب الجاهلية بالكتابة بالخط الحبشي، بالإضافة إلى تمكنهم من التدوين بخطوط قبائل جنوب الجزيرة من سبأ وحمير، وبجانب تعلّمهم لفنّ الخط[1].
وقد استمر استخدام مواد الكتابة التي كانت معروفة في الجاهلية إلى ما بعد ظهور الإسلام، في كتابة الوحي المنزل على جذوع النخل والعظام العريضة والجلود وغيرها، ويرجع الفضل للنبي صلى الله عليه وسلم في أول استخدام لنظام الختم في شبه الجزيرة العربية، كما عرف عنه كثرة استخدامه للوثائق المدونة في تصريف شؤون الدولة؛ حيث كان يمليها على النسّاخ المنوط بهم هذا العمل[2].
وظل الأمر كذلك حتى استعمل العرب الورق وفنون صناعته نقلا عن الصينيين، وقد أحدث الورق ثورة هائلة في مجالات التعليم والكتابة وتطور فنون الخط في الدولة الإسلامية، وانتشرت صناعة الورق في بغداد حتى إن الوزير العباسي جعفر بن يحيى البرمكي تمكن من استبدال الرقوق بالورق في جميع المعاملات الرسمية للدولة، ومع انتشار استخدامه، وتطور صناعته، أمسى الورق أكثر انخفاضًا في سعره مقارنة بالرقوق وأوراق البردي وغيرها، وتم التوسع في انتشار مصانع الورق في كافة مدن الديار الإسلامية، فازدهر سوق الكتاب، ونشأت تجارة ثقافية لاقت رواجًا منذ القرن الثاني الهجري، سُمي أصحابها بالورّاقين، الذين سرعان ما أصبح لهم حوانيتهم وأماكنهم المخصّصة في عاصمة الخلافة؛ فضلاً عن تأثيرهم القوي في نشر الثقافة والمعرفة في الحضارة الإسلامية
كانت الكتب تنسخ على أيدي نسّاخ متخصصين، فكان يبلغ بذلك ثمن الكتاب حدّا قد يتعذّر على طالب العلم أو العالم الفقير شراؤه، ومن هنا كان قيام المكتبات، من هذا الجانب الأخلاقي الذي يسد حاجة علمية |
وفي موسوعة “تاريخ بغداد” للعلامة الخطيب البغدادي (ت 463هـ) نجده يعتمد في سَوْق الأخبار التاريخية على عدد من الوراقين جاؤوا في أكثر من 850 موضعًا من موسوعته؛ بل إن محمد بن إسحاق النديم صاحب أقدم موسوعة ببليوغرافية عربية كُتبت في القرن الرابع الهجري كان في الأصل ورّاقًا، جمع ما بين بيع الكتب ونشرها ونسخها وبين التأليف، وقد حفظ لنا كتابه “الفهرست” أهم العلوم والمعارف، وأسماء الكتب والمؤلفات في المجالات العلمية المختلفة حتى عصره في النصف الثاني من القرن الرابع الهجري؛ أي قبل ألف عام، وفي تلك الموسوعة الفذّة نجد اهتمام المسلمين بكافة العلوم التي كانت متاحة لهم، ومصنّفة تصنيفًا دقيقًا في تلك الحقبة المبكرة مثل كتب الشرائع والنحو واللغة والتاريخ والأخبار والنسب والفقه والحديث والفلسفة والعلوم الطبيعية والكيميائية؛ بل إنه ذكر كتب الخرافات والعزائم والسحر والشعوذة، فضلا عن مصنفات المذاهب والاعتقادات.
وبدا للوراقين شأن في تلك الفترة المبكرة من عمر الحضارة الإسلامية، فقد قرر الخليفة المقتدر بالله العباسي (282 – 320هـ/895 – 932 م) أن يلقاهم في اجتماع؛ ليحذّرهم فيه من شراء أو نسخ أو نشر أعمال الحلاّج، وهو الأمر الذي قابلوه بالامتثال، ونفهم من ذلك بروز هذه الطائفة كأهم أداة ثقافية وإعلامية آنذاك[3].
كانت المكتبات في الحضارة الإسلامية منارة من منارات التعليم، ومؤسسات مستقلة ينفق عليها الأمراء والأثرياء والعلماء؛ لينتشر العلم بين الناس، وخصوصًا في ذلك الزمن الذي لم تكن فيه الطباعة موجودة، وكانت الكتب تنسخ على أيدي نسّاخ متخصصين لهذا العمل، فكان يبلغ بذلك ثمن الكتاب حدّا قد يتعذّر على طالب العلم أو العالم الفقير شراؤه، فكيف إذا أراد أن تكون له مجموعة من الكتب في الفن أو العلم الذي يتخصّص فيه، ومن هنا كان قيام المكتبات في مجتمعنا منبعثًا من هذا الجانب الأخلاقي الذي يسد حاجة علمية كان المجتمع أحوج ما يكون لها[4].
وقد عرفت الحضارة الإسلامية أنواعًا متعددة من المكتبات، ولقد انتشرت هذه المكتبات في جميع أرجاء الدولة الإسلامية، فوُجدت المكتبات في قصور الخلفاء، وفي المدارس، والكتاتيب، والجوامع، وكما وُجدت في عواصم الإمارات وُجدت كذلك في القرى النائية، والأماكن البعيدة.
فقد رأينا المكتبات الأكاديمية، وهي من أشهر المكتبات في الحضارة الإسلامية؛ ومن أهمِّها مكتبة بغداد “بيت الحكمة”، ومكتبة دار الحكمة في القاهرة الفاطمية. ثم المكتبات الخاصَّة: وقد انتشر هذا النوع من المكتبات في جميع أنحاء العالم الإسلامي بشكل واسع وجيِّدٍ؛ ومن أمثلتها مكتبة الخليفة المستنصر[5]، ومكتبة الفتح بن خاقان، الذي “كان يمشي والكتاب في كُمِّه ينظر فيه” [6]. ومكتبة ابن العميد وزير آل بويه الشهير، وقد ذكر ابن مسكويه المؤرخ الشهير أنه كان خازنًا لمكتبة ابن العميد، فذكر واقعة سرقة تعرَّض لها بيته، وكانت فيه مكتبته، وقد حزن ابن العميد أكثر الحزن على مكتبته؛ ظنًّا منه أنها سُرِقَتْ مع باقي المسروقات، وفي معرض حديثه عن مكتبته عرفنا سر حرقة الوزير ابن العميد على مكتبته، قال ابن مسكويه “اشتغل قلب الوزير ابن العميد بدفاتره، ولم يكن شيء أعزَّ عليه منها، وكانت كثيرة، فيها كل علم وكل نوع من أنواع الحكم والآداب، يُحمل على مئة وِقْر[7]، فلما رآني سألني عنها فقلتُ: هي بحالها لم تمسسها يد. فسُرِّي عنه، وقال: أشهد أنك ميمون النقيبة، أما سائر الخزائن فيوجد منها عوض، وهذه الخزانة هي التي لا عوض منها. ورأيته قد أسفر وجهه، وقال: باكر بها غدًا إلى الموضع الفلاني. ففعلتُ، وسلِمت بأجمعها من بين جميع ماله”[8].
وقد وجدنا كذلك المكتبات العامَّة التي كان من أشهرها مكتبة قرطبة التي أسَّسَهَا الخليفة الأموي الحكم المستنصر بالله سنة (350هـ/961م)، هذه المكتبة عيّن لها موظَّفِين للعناية بشؤونها، وجمع فيها النسَّاخ، وعيَّن لها عددًا كبيرًا من المجلِّدِين، وقد ظلَّتْ محطَّ أنظار العلماء وطلاب العلم في الأندلس، وقد وفد إليها الأوربيون للنهل من مَعِينِهَا، والتزوُّد من علومها، وقد كانت عدة الفهارس التي فيها تسمية الكتب أربعًا وأربعين فهرسة، في كل فهرسة عشرون ورقة ليس فيها إلا ذكر الدواوين فقط([9]). وأيضًا مكتبة بني عمار في طرابلس الشام، وكان لهم وكلاء يجوبون العالم الإسلامي؛ بحثًا عن الروائع لضمِّها إلى المكتبة، وكان بها خمسة وثمانون ناسخًا، يشتغلون بها ليل نهار في نسخ الكتب[10].
كذلك أنشأ الخلفاء والولاة والعلماء مكتبات (المدارس/الكليات)، تلك المدارس التي انتشرت في كل بقاع العالم الإسلامي، وقد أُلحقت بمعظم المدارس مكتبات “خزائن كتب” لتكون مرجعًا لطلبة العلم ليقفوا على آخر ما صنف في فنون العلوم والآداب حتى عصرهم، وتسابق السلاطين والعلماء بل والمجتمع المدني من كبار التجار والمحسنين بل وحتى المحسنات من الأميرات والعالمات وغيرهن في إنشاء هذه المؤسسات، فنور الدين محمود بنى مدرسة في دمشق وألحق بها مكتبة، وكذلك فعل صلاح الدين، أما القاضي الفاضِل وزير صلاح الدين فقد أسس مدرسة في القاهرة سماها الفاضلية، وأودع فيها حوالي مئتي ألف مجلد مما أخذه من خزائن الفاطميين.
سعت الغالبية العظمى من مسلمي الأندلس إلى مساندة ودعم مكتبات المساجد، وقد ذكر المؤرخ الإسباني خوليان ريبيرا أن ابن لبّ المالقي الذي عاش مدة طويلة في غرناطة أوصى بجزء كبير من مكتبته الخاصّة إلى مكتبة الجامع الكبير |
واشتهر نوع آخر من أنواع المكتبات في الحضارة الإسلامية، تلك المكتبات التي أُنشئت كملاحق في المساجد والجوامع: ويُعْتَبَرُ هذا النوع من المكتبات الأوَّل في الإسلام؛ حيث نشأت المكتبات في الإسلام مع نشأة المساجد وقبل إنشاء المدارس بقرنين على الأقل، ومن أمثلتها: مكتبة الجامع الأزهر، ومكتبة الجامع الكبير في القيروان[11]. بل اشتهر المسجد النبوي بمكتبة عامة كبيرة كانت موقوفة على طلبة العلم من المجاورين، وكانت الفاجعة قد حلّت بها سنة 886هـ حين احترقت بسبب صاعقة في نادرة من النوادر الطبيعية الغريبة[12]، وكذلك اشتُهر الجامع الأموي بدمشق بخزانة كتبه الفريدة؛ بل بعدة خزائن كتب “مكتبات”، كانت موقوفة على كل من يريد المطالعة والتعلم[13].
وفاقت مكتبات الجوامع في الأندلس نظيرتها في المشرق الإسلامي، ويعد المسجد الكبير في قرطبة واحدًا من أكبر الجوامع وأعظمها، وقد احتوى هذا المسجد الشهير الذي أنشأه الخليفة الأموي عبد الرحمن الداخل سنة (170هـ/786م) على مجموعة كبيرة من الكتب والمصاحف، والتي دُمّر معظمها إبان اجتياح قوات الملك فرديناند الثاني سنة (634هـ/1236م)، وقد أشار المؤرخ المقري إلى تلك الواقعة، ذاكرًا بأنه كان من بين المصاحف التي أُحرقت على يد القوات الغازية المصحف الذي خطّه الخليفة عثمان بن عفان رضي الله عنه[14].
لقد سعت الغالبية العظمى من مسلمي الأندلس إلى مساندة ودعم مكتبات المساجد، وقد ذكر المؤرخ الإسباني خوليان ريبيرا أن ابن لبّ المالقي الذي عاش مدة طويلة في غرناطة أوصى بجزء كبير من مكتبته الخاصّة إلى مكتبة الجامع الكبير بمدينة مالقة مسقط رأسه، كما قام العالم ابن مروان الباجي بإهداء كتبه كلها إلى الجامع الكبير بمدينة إشبيلية، ولضمان المحافظة على كتبه فقد عهد بها إلى خطيب المسجد الشيخ عبد الرحمن اللخمي، الذي يبدو أنه كان موكلا بإدارة شؤون مكتبة الجامع[15].