التكامل المعرفي وضرورة إدراجه في المناهج التعليمية
توطئة :
قديماً وإلى فترات قريبة كان العالِم المسلم موسوعياً مشاركاً في كثير من العلوم ولم يكن تخصصه في فرع معرفي يعوقه عن النظر في الفروع الأخرى و كان يعدّ نفسه ناقصاً إذا ما قصّر في علم من العلوم المتداولة .
هذه الموسوعية كانت معروفة لدى غير المسلمين كاليونان مثلاً . فظاهرة التخصص في علم واحد والتفرغ له ظاهرة حديثة نسبياً بسبب التوسع الكبير الذي طرأ على المعرفة البشرية .
ولهذا كان العلم القديم بمثابة شجرة واحدة بجذع واحد و أغصان مختلفة تستمد قوتها من الجذع المشترك .وبهذا المنظور نفهم تماما الصلة الوثيقة بين العلوم و الفنون ، إذ كانت العلوم بأسرها خادمة للحقيقة الواحدة التي تتجلى في صور شتى .
وقد فكر ابن رشد من قبل في التكامل المعرفي وأسماه الاتصال و كذلك ابن تيمية في تقريره لدرء التعارض بين العقل و النقل .
وهذا يعني أن الظواهر الاجتماعية لا يتكفل بدراستها حقل معرفي واحد دون الاستمداد من سائر الحقول .
ومن البداهة الجلية أن التكامل المعرفي أمر واقع بحاجة إلى تنظير و تكييف و تكثيف الملاحظة و التجربة حوله ، ليتحول إلى مادة علمية خصبة و ميدان بحثي موسع ، وتخصص متشعب الأطراف .
بحد ذاته يعد التكامل المعرفي قضية فلسفية ونظرية هامة قائمة على وحدة المعرفة ماهيةً ووجوداً و شكلاً وقيمةً . وفي الوقت نفسه قضية تطبيقية و اجتماعية و عملية ، ولهذا قيل إن له بعدين : بعداً إنتاجياً علمياً إبداعياً وبعداً استهلاكياً تعليمياً و تطبيقياً .
وحدة المعرفة هي الأساس
أساس البناء الفلسفي للتكامل المعرفي يتمثل في وحدة المعرفة ، بكل ما تعني هذه المفردة من دلالات كوحدة العقل و وحدة الوجود ووحدة الفكر و وحدة الغاية .
هذه الوحدة قد تعرضت في فترة تاريخية إلى انقسام وتجزئة ، مما أسفر عن ظهور أنظمة تربوية و مجتمعات غارقة في التجزئة و ااتباعد و بالتالي ولادة أفراد يركزون على أجزاء من الحقيقة لا يكترثون بالوحدة الكلية و المطلقة . علماً بأن نظام الحقيقة كلٌّ متكاملٌ في بنيته و خصائصه .
لكن عصر ما بعد الحداثة يمكن أن يسفر عن ولادة جديدة لوحدة المعرفة ، بعد الإخفاقات الكبيرة لحقبة الحداثة و تسببها في تغييب الحقيقة و تشويهها .
وحدة المعرفة لا تعني أن المعرفة لها صورة تجلٍّ واحدة كما يتبادر للفهم في اللحظة الأولى !
تجليات المعرفة الاسلامية
وهذا التنوع و التعدد في تجليات المعرفة في سياقها الإسلامي أمر لافت للنظر ، إذ إننا نجد خطابات إسلامية متنوعة بشأن المعرفة بشقيها النظري و العملي ، نذكر منها على سبيل المثال لا الحصر :
فكرة تصنيف العلوم و إحصائها و صلتها بالتكامل المعرفي :
أول من طرح هذه الفكرة هو أرسطو متخذا من التجريد معياراً لتحديد مكانة العلوم في سلّم مراتب المعرفة البشرية ، بحيث أكد أن أكثر العلوم تجريداً هو أعلاها مكانة و سموّاً . وهذا يعني أن العلوم ألنظرية أسمى من العلوم العملية .
وقد تبنى العلماء المسلمون الفكرة مع إجراء تعديلات عليها ، لأنهم سعوا أن يكون تصنيف العلوم انعكاساً للرؤية الاسلامية الكلية و متطلباتها .
الخصائص العامة للرؤية الاسلامية في تصنيف العلوم
أهمية التكامل المعرفي
أهمية نظرية : كل العلوم تتعاضد للكشف عن جوانب و تجليات الحقيقة و ملابساتها .
أهمية عملية : كل العلوم لتتحول معطياتها إلى أثر إيدابي في الحياة لابد من التعاون و التكامل فيما بينها .
ضرورة درج المبدأ
لابد للطالب في أي مستوى كان أن يلم بهذا المبدأ بحسب مستوى استيعابه . إذ يمكن تبسيط المبدأ و إيجازه و إبرازه و تجسيده من خلال الأدوات التعليمية للمبتدئين ، حتى يجدوا و يوقنوا أن المعرفة شجرة واحدة لها جذور في الفطرة البشرية و جذع و أغصان و فروع و أوراق و ثمار .
التكامل المعرفي ككل متماسك و ككل مكون من اجزاء .
خصائص التكامل المعرفي
التكامل المعرفي كمادة أساسية في المعاهد والجامعات
فائدة درج هذا المبدأ
ضرورة المادة المقررة
من الأهمية بمكان التاسيس لمادة علمية منهجية في كل المراحل الدراسية تتناول مبدأ التكامل بين العلوم دون تمييز بين اللسانيات و الانسانيات و الطبيعيات و الرياضيات و الالهيات و المنطقيات و غيرها من التخصصات الدقيقة و الجليلة .
هذه المادة تكون مقرراً لكل الأقسام و التخصصات و تكون بمثابة همزة وصل بينها . وهذا يعني إعداد أساتذة أكفاء و مختصين من خلال دورات قصيرة أو متوسطة المدى . ومن ثم اعتماد كتاب ( منهجية التكامل المعرفي ، مقدمات في المنهجية الاسلامية ) للاستاذ الدكتور فتحي حسن ملكاوي كمقرر دراسي . في الدورات و المراحل الجامعية ، وتكليف أساتذة آخرين لتبسيط و اختصار الكتاب للمبتدئين و المتوسطين .
نموذج نظري للتكامل المعرفي
علم أصول الفقه الذي يستمد مباحثه من علوم اللغة العربية و الفقه و الكلام ، لكنه على صلة وثيقة بعلوم أخرى نذكر منها على سبيل المثال لا الحصر :
علم اللغة العام ، علم الدلالة ، علم الاجتماع اللغوي ، علم النفس اللغوي ، علم الاسلوب ، علم المنطق ، علم الرجال و الرواة ، علم الدراية في الحديث ، الفلسفة القديمة .
نموذج عملي للتكامل المعرفي
تكوين المجتهد ، فالمجتهد هو الذي بلغ الدرجة الوسطى في اللغة العربية ، و الأصول و البلاغة ، والعالم بأسباب النزول للآيات و أسباب الورود للأحاديث و الناسخ و المنسوخ و الخبير بمواقع الاجماع و مراتب الرواة و أحوالهم و مع كل ذلك أن يكون متضلعاً في مقاصد الشريعة عالما بمصالح الأمة و خياراتها وكذلك عارفاً بشؤون المجتمع و عقلية الأفراد و تفسياتهم .