الديانة الميثرائية ومدى صلتها بالكٌرد ؟
المقدمة
تنسب الديانة الميثرائية Mithraism، الى إله الشمس الايراني ميثرا، وهي ديانة هندو إيرانية مكرسة لعبادة الإله ميثرا، الذي اشتق اسمه من لفظة ميهرا في اللغة الفارسية القديمة التي تعني مهركان – مهرجان و ذلك للدلالة على الإحتفالات التي كانت تقام له.
وتشير بعض المصادر التاريخية إلى أن الميثرائية ترجع إلى القرن السادس عشر قبل الميلاد لدى الايرانيين، وأن الإله ميثرا ذكر لأول مرة في المصادر الكتابية في عام 1350 ق.م وكان ذلك في أحد نصوص الاتفاق الذي أبرم بين الملك الحيثي (شوبيلوليوما) والملك الميتاني (ماتيوازه). كما يؤكد المستشرق الامريكي وول ديورانت(1885 – 1981م) أيصاً، أن الإله الآري الكبير (ميثرا) أوجده الميتانيون، وهم دون شك أحد أجداد الكرد الغربيين، حيث يقول بهذا الصدد: “… يهمنا من هذه الشعوب الميتانيون وليس ذلك لأنهم أعداء مصر الأقدمون في الشرق الادنى، بل لأنهم أول الشعوب الهندوأوربية التي عرفناها في آسيا، ولأنهم أول عبدة الآلهة – ميثرا – وإندرا – وفيرونا – التي انتقلت منهم إلى فارس والهند، فأعانتنا بانتقالها على تتبع حركات الجنس الذي كان يطلق عليه من قبل التيسير الجنس الآري”. قصة الحضارة،ج1، ص503.
وتذكر مصادر تاريخية أخرى أن الميثرائية اقتبسها الايرانيون من الديانة البابلية بعد غزو الملك الاخميني كورش الثاني (559 – 530ق.م) لبابل عام539ق.م، حيث اقتبس كهنة الفرس المجوس مبدأ الزروانية (= الزمن) من البابليين. والذي جعل منه الميثريون (الشمس التي لا تقهر). ارثر كريستنسن، ايران في عهد الساسانيين، ص133.
فمن المعلوم بوجود إله الشمش ( شمش) لدى البابليين القدماء، وهو إله النور والحكمة لدى الهندوس والفرس، الموطن الأصلي له إيران، جاء ذكره في أقدم الكتب المقدسة لدى الهندوس (ريك فيدا) باسم ميثرا، وكان الإله ميثرا في الأصل، إلها ثانويا مساعدا لإله السماء الهندوسي (فارونا) حسب الديانة الفيدية. أما في الوسط الإيراني، فكان إلهاً مساعداً لإله النور و الخير (أهورمزدا) في صراعه مع قوى الشر، هذا ما ساهم في تجسيده لصفة إله محارب لدى الفرس، أو اعتناقه من قبل الجنود الرومان، ذلك عبر خلفيته المحاربة التي ترسخت في العقلية الفكرية للمعتقدين بالديانة الميثرائية، الذين كانت أغلبيتهم من المؤسسة العسكرية في الجيش الروماني أو الفارسي على السواء.
ففي كتاب الأفستا الزرادشتي، ورد اسم ميثرا كإله للنور والحقيقة، عدو الكذب و الخطيئة، وأنه يعاقب كل من يحلف يمينا كاذبا أو ينحرف عن الحق و النزاهة، كما ورد بأنه يهب الصحة، الصداقة و الرجاء للذين يمجدونه و يؤمنون به، وكان يعرف لدى الفرس أيضا باسم يازور التي تعني باللغة الفارسية القديمة (المنقذ) أو الفادي.
وظلت عبادة ميثرا منتشرة في إيران حتى تم إلغاء طقوسها من قبل زرادشت، الذي عبر إنتشار تعاليمه ضعفت التأثيرات أو الإشارات إلى إستمرار عبادة ميثرا بقوة في إيران، أي أنها لم تعد بالقوة نفسها التي كانت قبل ظهور زرادشت على المسرح الديني الفارسي في العهد الإخميني(550 – 331ق.م)، وعلى الرغم من إعتناق بعض الملوك الاخمينيين الفرس للزرادشتية، إلا أن تسامحهم الديني سمح بإنتشار الميثرائية ضمن حدود الإمبراطورية، و عاد الإله ميثرا للظهور إلى جانب أهورمزدا، مصورا كإله للشمس، حتى أن ملوك الفرس الاخمينيين كان يستمدون قوتهم منه، ليتخذ تاج الملوك الإخمينيين هيئة قرص الشمس المعبرة عن عين الإله ميثرا. إذا كانت عبادة ميثرا قد إنتهت من فارس في العصور الكلاسيكية، بعد غزو الإسكندر الأكبر لفارس عام330ق.م، إلا أن عبادته لم تغب عن مسرح الأحداث، بل أخذت منعطفا آخر، ذلك عبر إنتشارها بين الإغريق والرومان خلال العصور الكلاسيكية.
الميثرائية الإيرانية والميثرائية الرومانية
دون شك هناك تمييز بين الميثرائية الرومانية التي كانت وجهة نظر الإغريق والرومان في أواخر العصر الهلينستي تتجه الى عبادة إله الشمس الفارسي ميثرا، والتي كانت مختلفة عن الديانة الميثرائية الفارسية التي تقول المصادر التاريخية أنها كانت مقتبسة عن ديانة بابل، أي كانت متوراثة لدى الفرس عن ديانات بابل بعد الغزو الفارسي لمدينة بابل واسقاط الدولة الكلدانية على يد كورش الكبير عام539ق.م، فنحن نعلم بوجود إله الشمس (شمش) لدى الرافدينيين(= العراقيين القدماء)، الذي ربما عبر إختلاط عبادته مع عبادات الايرانيين إنتشرت عبادة ميثرا بين الإغريق في نهاية العهد الهلنستي أي في القرن الأول قبل الميلاد، من خلال إختلاط الإغريق بالفرس والشعوب الشرقية بعد غزوات الإسكندر الأكبر للشرق، فقام الإغريق من خلال احتكاكهم بالفرس بنقل هذه الديانة الى أراضيهم و أماكن تواجدهم، لاسيما في حوض البحر المتوسط الشرقي، الى بلاد: اليونان، أسيا الصغرى وسوريا.
في حين تذكر بعض المصادر التاريخية إلى أن الإغريق بعد احتلالهم لبلاد الرافدين، تأثروا في بابل بالديانات الشرقية بعد أن كانوا قد اطلعوا على الديانة الزروانية أي الزمنية البابلية و التي عبر اختلاطها بمعتقدات الإغريق نشأت الميثرائية الإغريقية أو بالأصح الرومانية، وكان الفيلق الروماني الخامس عشر Legione XV الذي كان يرابط على حدود الإمبراطورية الفارسية في منطقة Comogene قرب أرمينيا في القرن الأول الميلادي، كان قد نقل جسم العقيدة الميثرائية إلى الجيش الروماني بشكل كبير ومؤثر. وكان توسع الإمبراطورية الفارسية أيضا، لاسيما في آسيا الصغرى كان قد ساعد كثيرا على انتقال الديانة الميثرائية الى أراضي الإمبراطورية الرومانية.
وبعد إنتشار الديانة الميثرائية بين الرومان بشكل ملحوظ في نهاية القرن الأول قبل الميلاد، أصبحت الديانة الميثرانية جزءاً من ديانات الرومان كديانة وافدة شرقية غير أصيلة، أي أنها لم تكن من أصول يونانية أو رومانية كما هي حال الأغلبية العظمى من ديانات الرومان، ويشير الباحثون في تاريخ الأديان أن عبادة ميثرا تحولت مع الرومان إلى مرتبة دين عالمي، تمارس طقوسه في أراضي الإمبراطوريات المعروفة في تلك الحقبة، وهناك إشارات عديدة تؤكد بداية انتشار الديانة الميثرائية في أراضي الإمبراطورية الرومانية قبل العهد الروماني، في نهاية العصر الهلينستي، لا سيما ضمن الممالك التي شكلها الإغريق بعد موت الإسكندر، كالإمبراطورية السلوقية في إيران والعرابق والإمبراطورية البطلمية في مصر.
ومن جانب آخر تواجه الباحثين في تاريخ الديانة الميثرائية، إشكالات متعددة، أولها متعلق بطبيعة الديانة والأسرار الباطنية الميثرانية، التي تعيق الكلام بشكل واضح عن جسم إنتشار العقيدة وأماكن تواجدها في أراضي الإمبراطورية. المشكلة الثانية متعلقة أيضا بأزمة المصادر التي تكلمت عن الميثرائية وطقوسها، لاسيما المصادر المسيحية التي تتكلم عن الميثرائية بطريقة متحيزة، فنرى معلومات في المصادر المسيحية، تصفها على الدوام بأنها مجرد هرطقة، وهو أمر شائع جدا في تلك القترة في الصراع الذي كان جارياً بين ديانات الشرق الأدنى، حتى وصل الصراع بين الديانتين الى الذروة بين القرن الثاني و الرابع الميلاديين، ولذا بقيت تشكل خطرا كبيرا على المسيحية حتى القضاء عليها بشكل رسمي، خلال إنتصار المسيحية كدين رسمي للإمبراطورية الرومانية، عبر مرسوم المنع الإمبراطوري الذي أصدره الإمبراطور ثيودوسيوس الثاني عام 392م والقاضي بمنع ممارسة أو إعتناق طقس أي دين من الأديان غير المسيحية، وتحديداً الوثنية ضمن الأراضي التابعة للإمبراطورية الرومانية.
أما المصادر الوثنية الأخرى التي تكلمت عن موضوع الديانة الميثرائية، فقد كانت متحيزة، للميثرائية التي كانت تشكل الخطر الأكبر على المسيحية منذ انتشارها في ولايات الإمبراطورية الرومانية؛ وذلك عائد لتشابه الكثير من طقوسها مع المسيحية، ويلاحظ أيضا أنها كديانة وثنية؛ لذلك جاءت كتاباتها بعيدة عن المنطق العلمي، الأمر الذي أتاح المجال لإنتشار المعلومات المغلوطة عن الديانة الميثرائية، بينما نرى وبسبب الطبيعة الباطنية والسرية للطقس الميثرائي، لا يلاحظ وجود أي كتابات ميثرائية تدحض التهجم المباشر عليها من قبل الأديان الأخرى، أو ترد عليها، وهذه صفة تشترك فيها أغلب الأديان الباطنية، فتبقى ممارساتها و طقوسها وعباداتها سرية باطنية، لا يعرفها أحد سوى أفراد الجماعة نفسها، التي لا نجدها تخلف أي أثر كتابي أو أي مصدر توثيق ظاهري خارج الدائرة الضيقة لمعتنقيها.
للإطلاع على نموذج من المصادر المسيحية المتحيزة في طرح موضوع الديانة الميثرانية، نستطيع أن نضرب مثلا على الموضوع رسالة القديس جيروم Hieronymus (347-420م) المرسلة إلى القديس ترتليان Tertullianus (160-240م) وهي رسالة تعود إلى القرن الرابع الميلاي، أي العصر الروماني المتأخر، تتحدث الرسالة، التي ينقل تفاصيلها القديس جيروم عن شهادة أحد الجنود الرومان من معتنقي الميثرائية، ويقول فيها، أنه حصل من الجندي على تفاصيل عن الميثرائية و طقوسها، داخل الرسالة يشرح القديس جيروم المراحل السبعة التي يمر بها المريد في الديانة الميثرائية، يصف فيها أيضا، طقس العماد أو التنقية التي يجب أن يطبق على المريد الداخل لمعرفة الأسرار والطقوس الدينية. في نهاية الرسالة يصف القديس جيروم الميثرائيين بالهراطقة أو الزنادقة Haereticorum الواردة حرفيا في الرسالة، مع العلم أن المسيحية استقت الكثير من تعاليمها عن الميثرائية كونها الديانة الأكثر قدما منها، يرى ذلك في عدة إقتباسات، أولها الإله الفادي أو المخلص و ليس آخرها طقس العماد أو التنقية Purificatory.
كانت المعلومات و الدراسات الواردة عن الديانة الميثرائية دوما متحيزة أو مكتوبة من قبل الخصوم الدينيين المعاصرين، لا سيما المصادر المسيحية، يلاحظ أيضا أن المعلومات النادرة الواردة عنها في المصادر الوثنية، أتت بدورها غير منهجية ولا ترتقي إلى مرتبة معلومات دقيقة تاريخيا وعلميا، بل كانت دوما تكهنات وتخمينات عن ماهية الديانة الميثرائية من قبل الخصوم.
في القرن العشرين، مع تطور الدراسات التاريخية بشكل عام والكلاسيكية بشكل خاص في دول أوروبا الغربية، تغيرت الكثير من المفاهيم التي كانت تخص الفكر الديني، الذي كانت تشوبه في غالب الأحيان وجهة نظر الديانة المسيحية فيه، التي كانت دوما تعطل البحث المنهجي العلمي، ولم تستطع الدراسات التحرر من غيبياته الواردة في الكتاب المقدس بشقيه العهد القديم و العهد الجديد، لكن بالمقابل برز في ذلك الوقت الكثير من الباحثين المهمين في تاريخ الأديان، الذين تخلوا عن النزعة الدينية للباحث في التاريخ، اهتموا فقط بالجانب المادي الأثري، كانوا بمعظمهم أكاديميين مختصين في تاريخ الأديان في العصور الكلاسيكية داخل أراضي الإمبراطورية الإغريقية الرومانية وخارجها، شملت دراساتهم أيضا عدة أديان شرقية أخرى من أبرزها :الزرادشتية، كان أغلبهم مسلحون بالمنهجية العلمية في البحث التاريخي، من أولهم في هذا المجال؛ أي في مجال دراسة الديانات ضمن أراضي الإمبراطورية الرومانية، الباحث البلجيكي المهم فرانز كيومونت Franz Cumont الذي اعتمد منهجا مغايرا في طريقة التعاطي مع الأديان التي كانت منتشرة في أراضي الإمبراطورية، فكان منهجه العلمي البحت يعتمد فقط، على دراسة الكتابات و الرسوم الجدارية للمعابد الميثرائية المكتشفة في أراضي الرومانية، و العمل على تحليلها لناحية كونها مادة حضارية تفصح عن الكثير من المعلومات المهمة في البحث. بعد الباحث فرانز جاء العديد من الباحثين اللذين أغنوا الدراسات التاريخية الدينية التي كانت سابقة أو متزامنة مع ديانات الرومان، فوصلوا بأبحاثهم إلى الكثير من المراحل المتقدمة التي وضحت صورة الميثرائية والطقوس الميثرائية، من هؤلاء الباحثين: الباحث الايطالي Julius Evola جوليوس إيفولا، الباحث البريطاني جون هينيلس Jhon Hinnels ، ومؤخرا الباحث الإيطالي Stefano Arcella من خلال دراسات فرانز كيومونت وهؤلاء المؤرخين تغيرت الكثير من المفاهيم المغلوطة التي كانت منتشرة عن الميثرائيين وطقوس عباداتهم، و استطاع الباحث فرانز عبر أبحاثه عن الميثرائيين الوصول إلى إعادة هيكلة شكل الدين الميثرائي و توضيح بنيته بشكل قريب إلى الحقيقة، بعيدا عن الخرافات المنسوجة عن هذه الديانة الباطنية، فوق ذلك ساعدت الإكتشافات الأثرية للعديد من المعابد الميثرائية في توضيح الروؤية بشكل جلي، مما ساعد الأثريين والمؤرخين على وضع هيكل علمي للطقوس و العبادة الميثرائية بعد أن كانت غير واضحة.
المعبد الميثرائي:
يسمى المعبد الميثرائي ميثرايوم Mithraeum أي المكان المكرس لعبادة ميثرا، وهو البناء الذي يجتمع فيه أتباع الديانة لممارسة طقوسهم السرية، وإقامة حفلات العماد وتقديم القرابيين. ومن أهم المعابد الميثرائية في العالم: ميثرايوم (كركلا) في ايطاليا وهو من أكبر المعابد الميثرائية المكتشفة في العالم موجود في روما ضمن سور المدينة القديمة. المعبد الآخر الأكثر أهمية هو ميثرايوم (أوستيا ) الموجود أيضا في روما وهو الأشهر في العالم لناحية وضعه الإنشائي المحفوظ بشكل جيد، مع مذبحه ورسوماته الجدارية، مما أتاح للباحثين إعطاء فكرة واضحة عن المعابد الميثرائية و طقوس العبادة فيها. لدينا أيضا العديد من المعابد الميثرائية الأخرى والمشهورة الموجودة داخل الإمبراطورية الرومانية، منها: معبد (سان كلمنت)، معبد (سانتا بريسكا). خارج أراضي روما، أيضا، هناك العديد من المعابد الميثرائية المنتشرة في اليونان، آسيا الصغرى وسوريا التي إكتشف فيها مؤخرا معبد للميثرائيين في مدينة دروا أوربوس الأثرية قرب مدينة دير الزور الواقع على نهر الفرات.
و لشرح بنية أو هيكلية المعبد الميثرائي، يجب أن نوضح أن المعبد الميثرائي كان يقام في كثير من الأحيان في كهوف طبيعية أو في أبينة مهيئة خصيصا لتشبه هيئة كهف طبيعي في جبل، غالبا كانت تحت الأرض، بحسب التصورات الميثرائية فان إنطباع صورة بزوغ الشمس من ناحية الجبال و غروبها خلف الجبال، تشمل تفسيرا لدى الميثرائيين يقول أن إله الشمس ميثرا يخلق و يغرق خلف الجبال عبر عملية الشروق و الغروب في كل يوم، لذلك وجب بناء معبد شبيه بهذه الصورة عبر كهف طبيعي أو صناعي في جبل. أيضا عندما يكون ممكنا يتم تأسيس الميثرايوم ضمن مبنى قائم أو تحته. نأخذ كمثال حي، ميثرايوم أوستيا في روما، الذي يتكون من مبنى على هيئة كهف طبيعي، المساحة الداخلية مستطيلة تقريبا، المبنى تحت الأرض يضم رواقا طويلا حوالي خمسة عشر متر، لا وجود للنوافذ فيه، في أغلب الأحيان لا يدخل الضوء إليه، على طول جانبيه يوجد مقعد خشبي لجلوس أعضاء الطقس الديني الممارس، في نهاية الرواق، عند منتصفه تماما ينتصب المذبح المكرس للإله ميثرا، الذي في أغلب الأحيان يحتوي على رسم Tauroctony الذي يمثل رمز الميثرائيين الأهم و المحوري و الذي يضم نحتا أو تصويرا للإله ميثرا وهو يهم بنحر الثور، مع رسوم أخرى محيطة به تمثل تصورات ميثرائية. السقف في الميثرايوم غالبا ما يكون مزين برسوم تجسد قبة السماء مع الشمس والنجوم بالإضافة إلى الكواكب والأبراج. بسبب كون الديانة الميثرائية ديانة باطنية، يلاحظ أن المعبد الميثرائي يختلف من حيث الحجم عن المباني الدينية الكبيرة للديانات الأخرى التي كانت مسموحة بشكل ظاهري كالمعابد أو الكنائس الرومانية، بينما نرى الميثرايوم دوما بحجم صغير ومساحة صغيرة، فهو مخصص لإقامة الطقوس الدينية للجماعة الميثرائية، التي غالبا تنتهي بمأدبة مشتركة لعناصر المجموعة، الذين لا يتجاوز عددهم بضع عشرات.
ومن جانب آخر تلعب المياه دورا مهما في الميثرايوم، فهي رمز يستخدم للتنقية والتطهر، في الميثرايوم، إن لم يكن النبع أو الشلال خلف المذبح طبيعي، فغالبا يستعاض عنه بصنع شلال أو نبع صناعي فهو من أهم الأساسيات في معابدهم.
بالنسبة للطقوس الديينة للميثرائيين، يجب الاشارة إلى أن الميثرائية دين ذكوري، ينتشر فقط بين: الأباطرة، النبلاء و الجنود، بمعنى أن الأسرار والطقوس الميثرائية لم تكن تعلم للنساء ضمن المجموعة الدينية، وهي بذلك كانت حصرا على الرجال فقط. الموضوع الآخر هو أن العبادة الميثرائية كانت مرتبطة بتراتبية دينية متصلة مع عالم الكواكب والافلاك، نراه بشكل واضح في أساسيات العقيدة وهي عبادة إله الشمس و التراتبية الدينية للكواكب بالنسبة لهم، عبر ترميز معناها بشكل باطني و وضعها في مراتب يجب على المريد أن يعبرها و يتجاوزها حتى يتوصل إلى التماهي في العقيدة الميثرائية.
الطقوس الميثرائية
وبشأن طقوس الميثرائيين يمكن توضيح مراتب الدين المثيرائي السبعة المرمزة بالكواكب السيارة السبعة، وهي :
1- وهي المرتبة الأولى في الدين الميثرائي و التي يدخل فيها المريد لتلقي الأسرار و الطقوس و ممثلة برمز الغراب الذي ساعد ميثرا على استرجاع الثور عبر دلالته له بمكان تواجده، يوافق المرتبة كوكب عطاردMercurius.
2- وهي المرتبة الثانية في العقيدة الميثرائية و ترمز للسحر والتنجيم عبر رمز العريس ، يوافق المرتبة كوكب الزهرة Veneris .
3- والتي تسمى ميليا و ترمز للجندي، ربما عائدة إلى طبيعة إنتشار الديانة بشكل كبير في صفوف الجنود الرومان، يوافق هذه المرتبة كوكب المريخ Mars.
4- مرتبة الأسد و هي المرتبة الرابعة لدى الميثرائيين، يوافق المرتبة كوكب المشتري Juppiter.
5- المرتبة الخامسة في الميثرائية و تسمى الفارسي، توافق كوكب القمر Luna.
6- وهي المرتبة السادسة في الديانة الميثرائية و تعني الهيول أو رسول الشمس، وتوافق كوكب الشمس Solis .
7- وهي المرتبة السابعة و الأخيرة في الديانة الميثرائية والتي تنتهي بإتحاد المريد في الديانة بالإله الأب الذي يرمز له في الديانة الميثرائية بكوكب زحل Saturnus.
كانت هذه المراتب، هي المراتب الأساسية في الدين الميثرائي، التي تقسم إلى سبعة مراتب، كل مرتبة منها تحت حكم جرم من الأجرام السماوية، أيضا كانت المراتب الأربعة الأولى، سهلة للتقدم الروحي بالنسبة للمريد أو الداخل في الطقس الميثرائي من جديد، لكنها كانت تصبح أكثر صعوبة في المراتب الثلاثة الأخيرة.
و كان لكل جرم سماوي باب يدخل منه إلى المجال الكوكبي و كان يرتبط بيوم من أيام الأسبوع، نراه أيضا يترافق بطبيعة أحد المعادن، فكانت مرافقة الكوكب لطبيعة معدن من المعادن، أمر شائع جدا لدى الميثرائيين. ففي الباب الأول نرى القمر و معدن الفضة، في الباب الثاني نرى كوكب عطارد يوافق معدن الحديد، في الباب الثالث كان كوكب الزهرة يرافق معدن القصدير، في الباب الرابع كان كوكب الشمس يواكب معدن الذهب، في الباب الخامس كان كوكب المريخ يواكب معدن خليط، في الباب السادس كان كوكب المشتري يواكب معدن البرونز، في الباب السابع الأخير كان كوكب زحل يواكب معدن الرصاص. كانت هذه المعادن و اختلاطاتها ومواكبتها لطبيعة الكواكب والنجوم تشرح للمريدين في الديانة الميثرائية بطريقة سرية، وكان يشرح لهم تبدل مواضعها و تأثيراتها كنجوم ذات طاقة حيوية على الأرض و الإنسان حتى درجة إعتبارها أربابا أو آلهة للخلود.
يقول العالم البلجيكي فرانز كومونت(1878-1947م)، أن الرومان كان لديهم المؤهلات لاستقبال دين، يعتمد على الكواكب والأجرام السماوية، فقبل إنتشار الديانة الميثرائية لديهم، كانت الآلهة ترتبط بكوكب من الكواكب، فمثلا نجد الإله هيلوس إلها للنور والشمس، أما الإله جوبيتر فكان يرمز إلى كوكب المشتري لديهم، هذا ما سهل فكرة تقبلهم لديانة كالديانة الميثرائية المرتبطة بالفلك والأجرام السماوية، لا سيما الشمس وتأثيراتها على الفصول و تقلب المواسم في الكرة الأرضية.
كانت المراحل الثلاث الأخيرة في الميثرائية، هي المراتب التي يتم فيها اصطفاء المريد من عالم المادة في الإتحاد مع الإله عبر دخوله بداية من الباب الأساسي باب القمر، الذي سمى بالفارسي، ومن ثم التماهي مع قرص الشمس المسمى بالهيولى، أو رسول الشمس، عبر الضوء و الشعاع الذي يجسد الحجاب، للوصول فيما بعد إلى الغاية أو المعنى، أي الاتحاد مع الأب، كوكب زحل، المرحلة الأخيرة في الديانة الميثرائية وهي مرحلة الخلود المطلق.
كان الميثرائيين أيضا بتبعون للدخول في الطقس الديني العماد الذي يسمونه التطهر و التنقية، والذي كان على المريد ممارسته للسماح له بالدخول في الديانة وتلقي السر الميثرائي الباطني، فكان عماد الميثرائيين مشابها جدا لطقوس العماد المسيحية، هنا السؤال الذي يطرح نفسه هي نسبة تأثير الديانتين في بعضهما البعض، خصوصا خلال فترة المنافسة بينهما بين القرن الثاني والرابع الميلاديين، والسؤال الأهم: ما هو أثر الميثرائية في طقوس العبادة المسيحية إذا اعتمدنا الوجود الأقدم للميثرائية كديانة؟
الموضوع الأهم للطرح كقرينة مادية أثرية مساعدة على تحليل الطقوس الميثرائية بشكل علمي، هي رمز الميثرائيين الأهم المعروف بالانكليزية Tauroctony توركتوني المعروف في الإيطالية ب Tauroctonia الذي هو عبارة عن رسم على الفريسك أو نحت يجسد الإله ميثرا يهم بنحر الثور كأضحية لإله الشمس، على جانبي النحت أو الرسم يرى إله الشمس من على يمين النحت، وإله القمر من على يسار الإله ميثرا، يرى أيضا الغراب، الذي يجسد حسب الأسطورة الطائر الذي دل ميثرا على مكان الثور الهارب، منحوتا بالقرب من إله الشمس، هنا ترمز المنحوتة إلى أهميته في العقيدة، فعن طريقه استطاع ميثرا استرجاع الثور وذبحه، نرى هذه الأهمية لطائر الغراب يتردد صداها في ديانات شرقية كثيرة، تظهر بوضوح في موضوع النبي نوح و الفيضان و أنه كان الطائر الذي دل البشر على اليابسة بعد الطوفان. بالعودة إلى موضوع النحت الميثرائي، نرى الإله ميثرا في النحت يهم بذبح الثور في منطقة الرقبة، بينما نلاحظ إنقضاض كائنات أو حيوانات أخرى على الثور من الجهة السفلية من بينها نرى الكلب، الأفعى، والعقرب، هنا تجسد هذه الكائنات أبراج سماوية أو نجوم معروفة في علم الفلك. لدراسة المعنى الذي يجسده رمز الميثرائيين تاوروكتونوس سنقوم بالإطلاع على تأويلات الباحثين في هذا المجال، لعرض فرضياتهم العديدة حول الموضوع، بينما يقول الباحث الايطالي ماريو أونتيرستينور Mario Untersteiner( 18891-1981م)، أن تأويله يرجع إلى مقارنة النحت الميثرائي مع منحوتات مشابهة لمنحوتات مدارس النحت أو تطور النحت خلال عام 200 ق.م، ويبرر نظريته بقوله أن هذا التجسيد لنحر الثور يعود إلى مدرسة نحت مدينة بيرغامو Pergamo الايطالية، وأن الكثير من المنحوتات، كانت متشابهة مع معنى الرمز الميثرائي، أو تجسيد مشابه له، يشير الباحث إلى أنها كمنحوتات مقتبسة عن تصورات للإسكندر الأكبر في وضعيات مشابهة. في نفس الموضوع يشيرالباحث البلجيكي فرانز كومونت إلى أن أغلب الدراسات التي تمت في القرن العشرين حول رمزية النحت الميثرائي أكدت أن موضوع الثور كأضحية يرجع بأصوله إلى ديانات إيران القديمة. التأويل الأكثر أهمية و الذي أثار الجدل حول صحة تأويله في القرن العشرين أتى عبر الباحث الامريكي ( ديفيد أولانسي David Ulansey )عام 1991م، الذي قارن فيه بين فكرة الرمز الميثرائي و النظرية الفلكية (سبق الاعتدالات) المعروفة باللغة الإنكليزية تاريخيا ب(precession of the equinoxes)، أي بداية الاعتدالات التي كان أول من تحدث عنها وشرحها بشكل واضح العالم الفلكي الإغريقي ( Hipparkhos هيبارخوس النيقاوي) نهاية القرن الثاني قبل الميلاد أي قبل ظهور الميثرائية في أراضي الإمبراطورية بقليل، في هذه النظرية يشرح هيبارخوس أن هناك عدة تحولات أو تأثيرات على كوكب الأرض أو المخلوقات تنتج من التغييرات التي نتشأ عن تحركات أبراج الفلك، ذلك كونها تترك فراغات أو مجالات يختلف تأثيرها حسب بعد أو قرب كوكب الأرض المتحرك من النجوم الثابتة و لا سيما الشمس. يشرح هيبارخوس نظريته بتخيل محور عمودي يمتد في الفراغ بين الكرة الأرضية و الشمس، هذا المحور يتغير مكانه باستمرار، ذلك عبر حركة الكرة الأرضية و إنتقالها من مسار إلى مسار آخر، هذا الإنتقال هو ما ينتج عن فراغاته المساحة المختلفة لبعد الأرض بالنسبة للأبراج الفلكية، فتأثيرات الكواكب على الأرض تنشأ من هذه الحركة وتظهر تأثيراتها المختلفة على حواف كوكب الأرض، كون الأرض جسم شبه كروي، مفلطح و جاحظ في منطقة خط الإستواء. هذه التأثيرات أو التغييرات ترى أول نتائجها على الأرض بتعاقب الفصول، و إختلاف درجة حرارة الأرض باستمرار، عبر حركتها إقترابا أو إبتعادا عن كوكب الشمس.
وكان الباحث دافيد أولانسي David Ulansey قد عمل على إسقاط هذه الظاهرة الفلكية على الرمز الميثرائي، على إعتبار أن الأبراج الفلكية و الأجرام السماوية هي من أساسيات الدين الميثرائي، فيفترض بأن رسم أو نحت سيطرة الإله ميثرا على الثور من جديد، يشير إلى تموضع برج الثور في السماء و تحركاته، فعندما يخرج برج الحمل من المدار ويدخل برج الثور، يحدث الإعتدال الربيعي كنتيجة لهذ التغييرات الفلكية، و نحن نعلم ما لهذا الوقت أو التغيير، من تأثيرات في الديانات ذات الأصل الشرقي عامة، ففي هذا الوقت تعود الحياة إلى الأرض عبر فصل الربيع و الخضرة، هنا يشير الباحث في فرضيته إلى أن الميثرائيين ينسبون هذه الظاهرة إلى الإله ميثرا، الذي يسيطر على برج الثور و يجعله يعود بالقوة إلى محوره، بذلك تعود الحياة من جديد لكوكب الأرض والكائنات الساكنة له، هنا يكون ميثرا حسب الفرضية، مسيرا للكون أو واهب الخلق و الحياة وفق التصورات الميثرائية.
أيضا في النحت الميثرائي، دوما نرى خروج القمح من تحت الرقبة في المنطقة التي يطعن فيها ميثرا الثور، هنا تتحدث المصادر التاريخية عن تأويل يشير إلى أنه من نخاع الثور كان قد خلق القمح و النباتات الأخرى، بينما من دمه خلق المشروب المقدس أي الخمر.
بالنسبة للدخول في الطقس الديني الميثرائي، كان يجب على المريد كشرط أساسي لتلقي السر الديني، أن يخضع للتطهر بالماء أي التنقية، المشابهة لطقس العماد لدى أديان أخرى كالمسيحية و الصابئة وغيرها، فهو عملية أساسية لقبول المتعلم الجديد قبل الدخول في الطقوس الميثرائية، حتى أننا نلاحظ أن وجود شلال الماء أو نبع الماء، ركن أساسي في المعبد الميثرائي، إن لم يكن طبيعيا يتم الإستعاضة عنه بمصدر ماء صناعي.
كانت هذه المعلومات، من أهم المعلومات المادية التي توصلت إليها الدراسات والتنقيبات الأثرية حول العقيدة الميثرائية، لا شك أن هذه الدراسات، كانت قد أغنت المعلومات عن الميثرائيين و عملت على جلاء صورة الكثير من الأفكار المغلوطة عنهم، بل ساهمت أيضا في نزع تهمة الهرطقة المنسوبة إليهم من قبل الخصوم، لتثبت الدراسات أن الخصوم ولا سيما المسيحيين كانوا هم من اقتبسوا الطقوس الميثرائية خصوصا أن الديانة الميثرائية أقدم وجوديا من المسيحية بقرون.
تبقى المشكلة في التعاطي مع هذا النوع من الديانات الباطنية، في عدم وجود مصادر كتابية أو توثيقية يتحدثون فيها عن أنفسهم ، لذلك فمهما وصلت الدراسات الآثرية والتاريخية عنها إلى مراحل متقدمة، لن تستطع الوصول إلى فهم حقيقي للفلسفة التي تحملها، أو الفكر الحقيقي الذي يحمله معتنقيها، فعندما نقرأ عن المراتب الفلكية في الديانة الميثرائية ونعلم أنها تؤلف مراحل، نستنتج أن كل مرحلة من المراحل كانت تتسم بفلسفة معينة، خصوصا عندما نعلم أن المريد، كان يتجاوز المراتب الأربعة الأولى بسهولة، لكنه يحتاج الى زمن طويل للدخول أو لتجاوزالمراتب الثلاثة الأخيرة، هنا تكمن تعقيدات الفلسفة الميثرائية والتي لا يعلمها إلا معتنقي الديانة و طقوسها السرية.
الميثرائية وصلتها بالكُرد
ومن جانب آخر، كان من نتائج التحالف الميدي الكلداني في بداية القرن السابع قبل الميلاد أن تمكنوا من اسقاط الدولة الاشورية وعاصمتها نينوى عام 612ق.م، وقتل الملك الآشوري سين-شر-إشكون، وكانت قد حدثت مصاهرة بين الجانبين، حيث تزوج الملك الكلداني نبوخذ نصر الثاني(المتوفى سنة560ق.م) ابن الملك الكلداني نبوبلاصر من (أميتس)، وكانت أميديا (والتي عرفت باسم سميراميس عند المؤرخ اليوناني هيرودوت) ابنة الملك سياخريس ملك ميديا وشقيقة خليفته أستياكس- أشتياك، وقد كان زواجه منها لتعزيز تحالف الدولتين البابلية والميدية بعد أن هزموا الدولة الآشورية، وقد عرفت بالمرأة التي بنى نبوخذنصر الجنائن المعلقة لها لأنها كانت تشتاق لبلادها ذات الجبال الخضراء وعندما لم تستطع أن تساير البيئة الجديدة التي بدأت العيش فيها في مدينة بابل، لأن مدينة بابل عاصمة الدولة الكلدانية تقع في أراض ٍسهليةٍ ( السهل الرسوبي في وسط وجنوب العراق) وهي ابنة الجبال، بنى لها زوجها الملك نبوخذ نصر برجاً هائلاً على شكل جبل، وبطريقة ميكانيكية رفع إليها الماء من نهر الفرات، وقد سمى الأقدمون هذا البرج بالجنائن المعلقة، وعدت إحدى عجائب الدنيا السبع، وبقيت آثارها إلى ما قبل حوالي 600 عام خلت.
مما لا شك فيه أنه كان للكرد إسهام لا بأس به في الحضارة الإنسانية، لأنه على أرضهم ظهرت أولى الحضارات البشرية، فقد حدد سكان العراق القدماء من السومريين والأكديين والآشوريين بداية انتشار الموجة الثانية من البشرية بعد استقرار فلك أوتونابشتم “نوح عليه السلام” في جبل من الجبال الكردية هو “كشاد كوتيوم” حسب النص الأكدي، و”نيسيرـ كينيبا” حسب النص الآشوري، وفي العهد القديم، وتحديداً التوراة، يشير ناسخو العهد القديم إلى أنه {… وَبَعْدَ مِئَةٍ وَخَمْسِينَ يَوْمًا نَقَصَتِ الْمِيَاهُ، 4وَاسْتَقَرَّ الْفُلْكُ فِي الشَّهْرِ السَّابعِ، فِي الْيَوْمِ السَّابعَ عَشَرَ مِنَ الشَّهْرِ، عَلَى جِبَالِ أَرَارَاطَ}.،[سفر التكوين:8: 3 – 5]. في حين حدد القرآن الكريم موقعًا قريبًا لهذا الحدث الجلل في الآية 44 من سورة هود: [وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ]. وعلى أية حال، فقد حفظت لنا السجلات التاريخية التي تعود إلى الألف الثالثة قبل الميلاد، أسماء عدد من الآلهة التي عبدها سكان شمال وادي الرافدين “سكان كردستان القدماء”، فضلاً عن عدد من الملاحم والأساطير التي كان لها تأثير في تطوير الوعي الاجتماعي والبنية الذهنية لهذه الشعوب والشعوب المجاورة التي انتقلت إليها هذه المعبودات، وكانت لها تأثيرات واضحة وجلية في خلق مشاعر مشتركة حددت بمرور الزمن روابطها الاجتماعية والاقتصادية والسياسية مطورة أوجهاً عديدة للحياة العامة، اندثر قسم كبير منها وظل أقلها مدوناً في وادي الرافدين ومصر وإيران والهند واليونان. ومن هذه الآلهة: “نيني- Nini إينانا”، الإله “موس MUS” أُودو- UDU، إله الشمس “سوريا – آسورا SURIYA”، والإله “تيشوبTESUP”، والإله “كوماربي” KOMARBI، والإلهان شيميكا وكوشوخ “إلاها الشمش والقمر عند الخوريين”.
وبجانب المعبودات الزاكروسية التي ذكرناها آنفاً، فقد شاركت آلهة أخرى في عقيدة سكان المناطق الشمالية والشرقية لوادي الرافدين “بلاد سوبارتو” ترجع أصولها إلى المعتقدات والأساطير الميثولوجية للأقوام الهندية – الآرية التي تركت مواطنها في جنوب روسيا في بداية الألف الثانية قبل الميلاد والتجأت إلى كل من الهند وإيران والأناضول وبلاد سوبارتو “كردستان”، وكان أشهر هذه المعبودات :آسورا الهندية أو سورياش الكاشية خالق الكون والإنسان، وهورفتات “هاروت في القرآن الكريم”، وماروتاش “ماروت في القرآن الكريم”، ووارونا وإندرا وناساتيا المذكورة في الفيدا “الكتاب الهندوسي المقدس”، وميثرا الذي انتشر خارج ايران وكردستان حتى وصل أوروبا، موضوع بحثنا.
وبعد انهيار الدولة الإخمينية الفارسية عام 330 ق.م على يد الاسكندر المكدوني، انتشرت عبادة ميثرا “إله الشمس المنير” في بقعة واسعة بين كردستان والأناضول، وخاصة بين أفراد الطبقات الأرستقراطية وأمراء الأقاليم، لذلك دخل اسمه في تركيبة عدد كبير من الألقاب الملكية، مثل: ميثرادات الأول والثاني والثالث البرثي، وميثرادات السادس ملك البنطس “منطقة البحر الأسود”، وميثرادات ملك الأرمن وغيرهم، ومنذ عام 136م صنعت في الإمبراطورية الرومانية مئات التماثيل والأصنام لهذا الإله، وأصبحت الميثرائية عند الرومان دين إطاعة الملوك، وقد شجعها الأباطرة، أما في العصر الساساني، فيقول المؤرخ الدانماركي “آرثر كريستنسن المتوفى عام 1945م”: “إن الشمس التي كان يعبدها مجوس العهد الساساني ليست خور وإنما هي مهر، ميثرا اليشتات القديم الذي جعل منه الميثريون الشمس التي لا تقهر”.
وانعكست صيغة كنيته الحديثة “ميهر” في بعض الكلمات والأسماء الكردية مثل ميهربان “الرحيم” وميرزا “السيد والمبجل”، ومير( =الامير)، و”المار” عند السريان المسيحيين بمعنى الشيخ، كما دخل اسم الاحتفال بيوم مولده إلى العربية بصيغة “مهركان – مهرجان”، أما الكنيسة المسيحية فقد جاملت ميثرا مجاملة عظمى باحتضان عيده الأكبر الذي يقع في 25 ديسمبر/ كانون الأول، وهو يوم ميلاد “الشمس التي لا تقهر”، واتخذت منه عيداً لمولد السيد المسيح “عليه السلام”.
وفي هذا يشير المفكر المصري عباس محمود العقاد(1889 – 1964م) إلى طقوس في عبادة ميثرا بالقول: “إننا نجد فيها شبهاً كبيراً بما في المسيحية، ولك أن تلاحظ إحتفال المسيحية بعيد ميلاد إلهها الشهيد (يسوع المسيح) في 25 كانون أول، وهو نفس موعد ميلاد ميثرا، وأن احتفالها بقيامته المجيدة يوم 20 آذار، هو بدوره نفس موعد قيامة ميثرا المجيدة). عباس محمود العقاد، الله، كتاب الهلال، العدد42، القاهرة، سبتمبر، ص،111-112. ويؤكد الدكتور علي حفني ناصف هذا القول أيضاً:” أنه كان يحتفل بعيد ميلاد ميثرا في 25 كانون أول أي بالضبط عندما تبدأ الشمس قوة دورتها الجديدة، فهو إله الضياء والشمس”. عصام حفني ناصف، المسيح في المفهوم معاصر، ص64-66.
ومن جانب أخر فإن المبشر المسيحي (اسحاق بن علي الرهاوي) عكف في القرن الثالث الميلادي على وعظ الاقوام التي تعيش في مدينة (شهر كرت) الواقعة بين داقوق وأربيل، وكانوا من عبدة الاشجار والاصنام المصنوعة من النحاس الاحمر، فهداهم مع ملكهم الى الديانة المسيحية.
ومن المؤكد أن الملك وشعبه الذين لا يدينان بالزرادشتية كانا من معتنقي الميثرائية سراً، طالما لم تكن لعبدة الشيطان الاقحاح سعة التهذيب الديني الضرورية لتأسيس المملكة وشن حملة اضطهاد شديدة على الغالبية من الزرادشتيين والمسيحيين، وأصبحت مدينة (شهر كرت) في سنة356م بالرغم من هذه الاضطهادات مركزاً تخرج منه الدعوة الى الكرد للدخول في الدين الاسلامي.
وسبق أن وجد عالم الدين المسيحي (ماري إيشو عياب) في القرن السادس الميلادي أكراداً يسكنون بالقرب من قرية ( ثمانين – هشتيان) وهي قرية تقع على مقربة من (جزيرة بوتان – ابن عمر)، والحقيقة انها واقعة شرق مدينة (شهر نوخ – شرنخ) يعبدون الشيطان، ومن المحتمل أنهم كانوا ميثرائيين. ينظر: توفيق وهبي بك، بقايا الميثرائية في الحضر وكردستان العراق وآثارها في الايزيدية، ضمن كتاب الآثار الكاملة، السليمانية، بنكه ى زين، 2006م، ج1، ص94 – 95.
المعابد الميثرائية في كردستان العراق
هناك ندرة من المعلومات حول بقايا الديانة الميثرائية في كردستان، فضلاً عن الاشارة الى معابدها المنبثة في بعض الكهوف؛ لذا تحتاج الكهوف الكثيرة الى تحقيق علمي من وجهة النظر الميثرائية، لا سيما وأن الطوائف الميثرائية كانت تختار لمعابدها وطقوسها المنحوتات الحجرية القريبة من الينابيع المتدفقة أو الماء الجاري، ومن أبرز هذه المعابد:
- كلي زردك
يوجد هذا المعبد في السفح الشمالي من جبل مقلوب(= حبل الفافا في المصادر المسيحية) الواقع شرقي الموصل، وادي جميل يقع على جانبيه نتؤات صخرية صفراء تؤدي الى قلب هذا الجبل الاشم ويسمى هذا الوادي ب (كلي زردك) التي تعني ( المضيق الاصفر)، وفيه مياه دائمة الجريان وعلى جانبي الوادي كهوف نقشت جدرانها الحجرية من الداخل بالمنحوتات.
- كهف كاني سبي
كهف مقدس يقع أسفل ضريح الشيخ عدي في معبد لالش، حيث الوادي المقدس، وهو من أقدس مقدسات الايزيدية، ولا يسمح للغرباء وحتى للايزيديين أنفسهم عدا (بابا شيخ) وعدد آخر قليل من سدنة الضريح بالدخول إليه، وينبع من هذا الوادي المقدس ( كانى سسبى – الينبوع الابيض) الذي تقول الاسطورة أنه تدفق على أثر ضربة وجهها الشيخ عدي الى أرضية الكهف. والاحتمال الظاهر هو أن هذا الكهف وينبوعه المتدفق فيه كان موقعاً يعبد فيه الاله ( مهر) والالهة (أناهيتا) التي عرفت بعدئذٍ ب ( ناهدة) ثم (ناهد)، وهي آلهة الينابيع المتدفقة والمياه الجارية الغزيرة، فشيد على سطح الكهف معبداً للنار، وحسب وجهة نظر العالم الكردي توفيق وهبي(1891 – 1984م) القائلة:” أن هذا الكهف كان الموقع الذي يمم شطره ( الشيخ عدي) واتخذه صومعة للتأمل بالتهذيب النفسي أربعين يوماً أول ما وطأت قدماه تلك المنطقة”. توفيق وهبي، المرجع السابق، ص95-96.
- معبد شمال الموصل
واستناداً الى قول الامير اليزيدي اسماعيل جول بك فإن هناك معبداً صغيراً آخر يقع شمالي الموصل حفر ونظم ليكون معبداً للمهرائية – الميثرائية، ولم يحدد المصدر مكان الموقع بالضبط. ولكن لهذا المعبد صورتان في مديرية الآثار العراقية االقديمة. توفيق وهبي، المرجع السابق، ص96، هامش(3).
- كهف شخصه رحمن
يقع هذا الكهف في السفوح الشمالية لجبل سفين المطل على مدينة شقلاوة، وتسمية هذا الكهف جاءت تخليداً لاسم (صوفي كردي) كان يسكن فيه قبل خمسة قرون مضت. ويظهر أن الرهبان المسيحيين أشغلوا هذا الكهف مدة من الزمن، كما أشغله قبلهم الميثرائيون، حسب وجهة نظر العالم الكردي ( توفيق وهبي)، ويوجد بالقرب منه ينبوع ماء دفاق. توفيق وهبي بك، بقايا الميثرائية في الحضر وكردستان العراق وآثارها في الايزيدية، المرجع السابق، ص96.
- كهف قرية جاسنه
يقع هذا المعبد في قرية جاسنه بمحاذاة وادي سورداش في المنطقة الواقعة بين مدينتي السليمانية ودوكان.
- كهف بحزانى
يقع هذا الكهف شرق مدينة الموصل بالقرب من بلدة بحزاني ذات الاغلبية اليزيدية، وقد زارته المستشرقة والانثربولوجية البريطانية الليدي دراور(1879 – 1972م)، حيث تطرقت إليها في بحثها عن ( طاووس ملك). ينظر: الليدي دراور، كتاب طاووس ملك اليزيدية، ترجمة: رزق الله بطرس، مراجعة وتعليق: صباح جمال الدين و الأب سهيل قاشا.
عيد المهركان – المهرجان:
احتفل الخلفاء العباسيون بالمهركان – المهرجان، فضلاً عن احتفالهم بالنوروز، ويأتي هذا العيد بعد عيد نوروز ب (194) يوماً، ويصادف (26) تشرين الأول من كل عام. وكان الاحتفال به يستمرّ ستة أيام، ويتمّ فيه تغيير فرش وستائر دار الخلافة، إيذاناً بدخول الشتاء. ويحضر أرباب الدولة، وأصحاب الدواوين، والقادة، والقضاة، للتهنئة بالعيد، واستلام الخلع الشتوية؛ من ملابس وأقمشة. ينظر: النويري: نهاية الأرب، القاهرة، (د.ت)، ج1، ص187
وعادة يتمّ مدّ الموائد في القصـر، ويلقي الشعراء قصائدهم، متفائلين بالمهرجان، كما يقدّم المهنئون هداياهم إلى الخليفة، في اليوم الأوّل من العيد. وتجدر الإشارة إلى أنه كان يتمّ إشعال النيران أيضاً، لأن المهرجان كان مشابهاً للنوروز في الكثير من رسومه وممارساته.
واحتفل البويهيون بالمهرجان أيضاً، إذ أهدى الشاعر أبو هلال الصابيّ اصطرلاباً إلى عضد الدولة(المتوفى في 8 شوال 372هـ = 26 مارس 983م)، أرفقه بقصيدة جاء فيها:
لم يرض بالأرض يهديها إليك وقد أهدى لك الفلك الأعلى بما فيه
وحاول بعض الخلفاء منع الاحتفال بعيد النوروز والمهرجان، ففي سنة 363هـ/973م، أبطل الخليفة الطائع (363-381هـ – 974-991م)، هذا العيد، ولكن النّاس احتفلوا به بشكل أكبر من السابق، وحاول الخليفة منعهم، واستمرّ يؤدّب الناس ثلاث أيام، فلم ينفع التأديب، وظل العيد جارياً، واحتفل به في كل سنة. آدم ميتز: الحضارة الإسلامية في القرن الرابع الهجري، ج2، ص294- 295.
وسبب ذلك هو ضعف سلطة الخليفة السياسية، ولهذا تشبّث خلفاء بني العباس في العهد البويهي (334-447ه – 946 – 1055م) بنفوذهم الديني، للتعويض عما فقدوه للأمير البويهي، وأرادوا أن يظهروا أمام الناس بمظهر التقوى، ولهذا حاولوا منع إقامة الاحتفالات، أو التخفيف من حدّتها، على أقلّ تقدير.
وعلى أية حال فإن كانت الدراسات التاريخية تؤكد بأن الميثرائية ظهرت عند الميتانيين والخوريين القدماء، فهذا ما يؤكد بأن الميثرائية ظهرت عند الكرد أحفاد الميتانيين قبل أن تظهر عند الفرس والاقوام الايرانية الاخرى بمئات السنين، لأن الدولة الميتانية ظهرت في الربع من الالف الثاني قبل الميلاد في غرب كردستان، وعاصمتها واشوكاني تقع في غرب كردستان ولكن لم يتم العثور على أطلالها لحد الآن.
أطلق سكان مملكة ميتاني على بلادهم اسم «هانيغالبات» وكذلك فعل الآشوريون، بينما أطلق عليها المصريون تسميتي «نهارين» و«ميتاني»، وقد امتدت تلك المملكة يومًا من شمالي العراق عبر سوريا حتى الأراضي التركية؛ فكانت إحدى القوى العظمى حينها، أما اليوم فيكاد لا يتذكرها أحد.
ولم تعثر التنقيبات الأثرية إلا على ما ندر من سجلات الميتانيين أنفسهم لكن المراسلات التي جرت بين ملوكهم وملوك آشور ومصر (رسائل تل العمارنة) -إضافة إلى أقدم دليل (كتيب إرشادات) لتدريب الخيول في العالم، ومعاهدة بينهم وبين الحيثيين- تدل على ازدهار مملكتهم بين سنتي 1500 ق.م و 1240 ق.م. كوانت ميتاني -سنة 1350 ق.م- قوية إلى درجة انضمامها إلى (نادي القوى العظمى) إلى جانب مصر وحاتي (الحيثيين) وبابل وآشور.