نحو بناء فقه المستقبل
د. فتحي حسن ملكاوي
حين يتاح لنا الاطلاع على مستوى الإتقان لخبرة من خبرات عصْرٍ مضى، لا يزال يتقنها اليومَ بعضُ أهل الاختصاص بفنون الماضي وطقوسه وعلومه، كعلوم الفروسية والفراسة والقيافة، مثلاً، ندرك كيف كانت هذه الخبرات فنوناً وعلوماً متقدمة في عصرها، وندرك في الوقت نفسه أنّ لكلِّ عصر علومَه، وأنّ لكلِّ ميدان من ميادين الخبرة البشرية علومَه المتخصصة كذلك. ويبقى المجال مفتوحاً لبعض الناس في كلِّ عصر، أن يتقنوا علوم عصر تقادم، ولبعضهم أن يستنبطوا أفكاراً وأن يبدعوا علوماً لعصر قادم، يرتادون بها أرضاً غير مطروقة، ويمتلكون بها خبرات غير مسبوقة. ويقال عن هؤلاء إنّهم يسبقون زمانهم، بالاستشراف والتفكير المستقبلي، أو بما يمتلكونه من قدرة على التوقع أو التنبؤ، أليست هذه بعض خصائص الأنبياء؟!
وإذا كان الأنبياء يتنبؤون بوحي من الله، فإنَّ الله سبحانه علّم الناس كيف يوظفون ما لديهم من طاقة بشرية في التنبؤ، فتجد منهم من يتقن علم التدبر في المعطيات القائمة والواقعات الحادثة وأسبابها واتجاهاتها ومآلاتها، فيرون بعين البصيرة ما هو قادم في ضوء ما هو قائم. لكنَّ المسألة ليست ضرباً في الرمل، وقراءة للكف أو الفنجان، وإنَّـما هي حساب وترتيب، وتقدير وتركيب، يسير المختص بفقه المستقبل بقدر من الثقة، مثل سير السائر من بلد إلى آخر بقدر من اليقين.
ولعلّ ذلك من التمكين الرباني للجنس البشري أن يـمتلك الوعي بذاكرة الزمن وبسيرورته وصيرورته. وهو تمكين خصَّ الله به الإنسان من بين مخلوقاته. ويحق لنا أن نفهم أنَّ هذا الوعي شرط للاستخلاف في الأرض وفي الزمن، فبه ينشئ الإنسان الحضارة ويقيم العمران.
وإنّي لأرى أنَّ الله سبحانه قد مكَّن الإنسان من تطوير ما يلزمه من الفقه والعلم بالمستقبل القريب والبعيد، حين أكثر من ذِكْر أفعال البشر في الدنيا، ونتائجها العاجلة في الدنيا والآجلة في الآخرة، وحين أكثر من ذكر وسائل التحكم في مستقبل الفعل البشري، حتى في نتائجه الآجلة في الآخرة، فالذي يتنكب طريق الخير لديه قدرة على تجنب نتيجة هذا التنكب، بالتوبة والإنابة.
وإنّي لأنظر إلى علوم المستقبل عبر تمكين الله سبحانه للإنسان من اكتساب أنواع العلوم والفنون الجديدة والمتجددة، فما دعا إليه سبحانه من العلم والتعلم لا يقتصر على ما هو معروف مألوف عند بعض من يمتلكونه، وإنَّـما يمتدّ إلى البحث فيما ليس معروفاً بعد. أليس في إشارته سبحانه إلى السماء التي لا تزال تتَّسع “والسماء بنيناها بأيد وإنّا لموسعون” دعوةٌ إلى البحث في حقيقة هذا التوسع وآماده ومعانيه؟! أليس في قوله سبحانه “ويعلِّمكم ما لم تكونوا تعلمون” متسعٌ للبحث فيما ليس معلوماً في أي علم من العلوم؟! أليس في توجيهه لنبيّه، ومن ثـمّ لكل إنسان أن يقول: “وقل ربّ زدني علْماً” توجيهٌ لريادة آفاق جديدة من العلم زيادة عمَّا تحقَّق له من العلم في كل عصر؟!
ثُـمَّ إنَّ علوم المستقبل لا تقتصر على ما يمكن أن يحدث، في ضوء ما هو حادث، من باب التوقع والتنبؤ، بل إنَّ الأهمَّ من ذلك هو التحكُّم في مجريات الأمور لتوجيهها إلى أبعد ما يمكن أن تتصورة طموحاتنا وآمالنا المنشودة المحمودة، فما تنتجه مساحة من الأرض من حَبٍّ أو ثَـمَر فيما علمناه، في ظروف معيّنة، يمكن أن يتضاعف كمَّاً ويتحسن نوعاً في ظروف نصطنعها ونهيؤها. وما يمكننا أن ندبّره من تدابير في الإدارة والسياسة فيما علمنا من خبراتنا وخبرات البشر، يمكن أن يكون أفضل ألف مرة مما تعودنا عليه وألفناه من التدابير، وقُلْ مثل ذلك في أساليب التعليم، وطرق التربية، ومناهج العلم، وفنون الصناعة، وإدارة الأزمات وخوض الحروب.
أستطيع أن أقرأ في القرآن الكريم أنَّ كلَّ نصوصه هي دعوة تربوية للإنسان للانتقال الدائم في حاله نحو الأحسن، والتغيير فيها نحو الأفضل، وهي دعوة تتوجه به دوماً إلى القادم من لحظات عمره ومستقبل ساعاته وأيامه وأعوامه، وتتّصل بكل شأن من شؤونه. لذلك فإنّ الحديث عن المستقبل سيبقى بصورة دائمة يمتد بالإنسان فرداً وجماعة وأمة، على المدى القصير والمتوسط والطويل، وكلُّ مدى من هذه المديات يقاس بالساعات والأيام والأعوام. فاستشراف المستقبل والتخطيط له ليس مسألة إضافية في السعي البشري، بل هي السعي البشري كلُّه. وكلُّ قيمة للأمس أو اليوم ثاوية في استثمارها للغد القريب والبعيد.
وأخيراً أستطيع أنْ أقرأ في القرآن الكريم أنَّ هذا الفهم للخطاب القرآني ينسجم تـمام الانسجام مع الفطرة، التي فطر الله عليها البشر جميعاً، فمن استقام سعيُه وَفْق هذه الفطرة في توجهه للأحسن والأفضل، كان له من الكسب بمقدار سعيه، وبمقدار حسابه لما يراه من الأحسن والأفضل. ويتنافس الناس في تحصيل المقادير المختلفة والأنواع المختلفة من الكسب في هذه الدنيا، بصرف النظر عن درجات إيمانهم وأعمالهم: “كُلّا نُـمِدّ هؤلاء وهؤلاء من عطاء ربك”، فالحساب على هذه الدرجات هو شأن الله سبحانه، قد يأتي به الساعة، أو يؤجِّله إلى قيام الساعة.