نبذة عن الشعر الكلاسيكي الكردي وخصائصه
المراد بالشعر الكلاسيكي الكردي واضح إذ يشمل مجموعة النتاجات الشعرية في اللهجات الكردية قاطبة منذ القرن الحادي عشر الميلادي الى النصف الأول من القرن العشرين . والشعراء البارزون باللهجة الكرمانجية العليا هم الجزيري و الخاني و الهكاري و الباتةيي . وباللهجة الكرمانجية الجنوبية هم مولانا خالد و نالي و سالم و محوي الى قانع و بيكةس و بيخود و ملا حسن القاضي و هةزار و هيمن و حقيقي و هيدي . وباللهجة الهورامية عبارة عن الشيخ احمد التختي و خاناي قبادي و بيساراني و مولوي و ملا جباري وحيران السنندجي و غيرهم كثير .
وتعد رباعيات بابا طاهر ( طاهر الجصاص الهمداني ) و ابيات كتاب ( سرانجام ) الكتاب المقدس لدى الطائفة الكاكائية ( اليارسان) جزءاً من الشعر الكلاسيكي الكردي . وقد قطع الشعر الكردي في تاريخه اشواطاً عديدة اتسم في كل شوط منها بخصائص و ميزات من حيث المضمون و الشكل متاثرا بالحياة العامة و مستوى الحضارة و المدنية للأمة الكردية و ثقافتها و رؤيتها للحياة.
فمن حيث الشكل نجده متابعاً للأوزان العروضية العربية بواسطة العروض الفارسية و انماط الشعر الفارسي ( القصيدة و الغزل و المثنوي و الرباعيات و المزدوجات و التركيبات و الترجيع بند و القطعة و الفرد) فضلا عن المحسنات البديعية الواردة في علم البديع ، المدروس في حلق التدريس التابعة للمساجد في كردستان .
وكان الشعراء الكرد يستقبلون قصائد وغزليات من سبقوهم من شعراء الفرس و العرب و الكرد . ان فهم الشعر الكلاسيكي الكردي أمر لا يتم دون معرفة شخصية الشاعر الكردي ، برؤيته الكونية و فلسفته و معارفه و رؤاه الصوفية و ررسالته الاجتماعية و تجاربه الذاتية . فهو شخص مطلع على تجارب السابقين و ماسك بمقاليد الشعر و رموزه ما يؤهله لنقد النتاجات الشعرية المختلفة . و بالتالي يخضع في رسالته و تجربته للمرحلة التي يعيشها و الوعي الذي يحمله .
اسوة بأسلافه له ديوان جامع للغات الحية ( فمثلا يفتخر نالي بأنه مالك لممالك الفرس و الكرد و العرب ، بدليل أن له ديوانا باللغات الثلاث) . فقد نظم القريض بهذ1ه اللغات و حسب الأبحر العروضية المتنوعة و القوافي الصعبة كذلك . هذه القدرة على التنوع و التفنن في الشعر نجدها واضحة لدى كل الشعراء الكبار . اما القدرة على وضع القصائد الطوال فنجدها لدى سالم الذي أنشأ رائيته المشهورة جواباً على رائية نالي . وبعدهما اشتهر محوي بقصيدته المسماة ببحر النور في مديح النبـي الأكرم و التي بلغت 135 بيتاً على بحر الهزج المثمن السالم . ومن حيث المحتوى ينتمي الشعر الكلاسيكي الكردي الى عالم المثال و عمق الذات الانسانية ، ليرسم من هناك صورة للعالم و الكون و الارتباط بالمطلق .
موضوعاته تتنوع ما بين الحب و الشوق و الحنين الى الماضي ، الى الوصال ، وصال الحبيب و دياره ، روحه في قلق دائم ، فيجد في ذكر الله و التشبث بحبه و الارتباط به و بنبيه و و أهل بيته و أصحابه ، ولاينسى حبه لبني جلدته و قومه و التغني بطموحاتهم و أحلامهم في حياة حرة كريمة ، متأثراً بالظروف السياسية و الاجتماعية العصيبة المحيطة به . والشاعر الكردي الكلاسيكي يعيش واقعه وواقع مجتمعه الكردي ، ففي فترات الحكم العثماني و الصفوي تاثر الشعر الكردي بالشعر الفارسي كثيرا( لأن الأتراك أيضاً كانوا تحت تاثير الأدب الفارسي لحين فترة حكم السلطان سليمان القانوني ) .
فكانت الموضوعات و الأشكال الشعرية لدى الأكراد نفسها لدى الفرس .
وكان التصوف من أبرز المضامين الشعرية ، نظراً للثقافة الدينية السائدة و المؤلفة من ( العقائد الأشعرية و المذهبية الشافعية و التوجه الصوفي السني) و المدروسة في حلقات الدروس الدينية المرتبطة بنظام الخلافة العثمانية على الأكثر. وكان الأفق الشعري مصبوغاً بجماليات الأدب العرفاني ( النقشبندية و القادرية في السنوات المتاخرة) .
ويعد مولانا خالد طليعة الشعراء المتنورين و المتنفذين في سماء الشعر الكلاسيكي الكردي بشقيه السوراني و الكوراني ، فلأدبه و توجهه الروحاني انعكاس واضح في تراث من أتى بعده مباشرة على نالي و فائق و بصورة غير مباشرة على مولوي و محوي .
بظهور الخماسي البارز في امارة بابان وهم ( نالي و سالم و كردي و محوي و شيخ رضا) ، خطا الشعر الكردي خطوة جبارة فانتهضت مدرسة شعرية لا زالت تاثيراتها قائمة في تشكل الوعي الأدبي الكردي المعاصر . الذي يجد نفسه وفياً لتراث الشعراء الكلاسيكيين الكبار الخمسة و للمرشد الروحي الأبرز مولانا خالد الشهرزوري . وتبدأ مرحلة تاكيد الذات في اللحظة التاريخية الحاسمة من القرن التاسع عشر حيث تسقط امارة بابان ، و يأبى نالي العودة الى كردستان مرجحا حياة الغربة على العيش بذلة ، فيبعث بقصيدته الرائية المشهورة ( قورباني تؤزى ريكةتم = افدي عجاج طريقك يا ريح الصبا الملائمة) الى صديق عمره سالم ، فيجيبه برائيته المشهورة ( قورباني توزيب ريكةتم ئةى بادةكةى سةحةر = افدي عجاج طريقك يا نسيم السحر ) .
أما موضوعات الشعر الكلاسيكي فهي متنوعة لعل أهمها :
بحث الانسان عن محبوب يتصل به قلباً بحيث يكون كعبة لقلبه وروحه . هذا المحبوب قد يكون هو الله وقد يكون هو الوطن أو الشعب و احيانا هو العشيق المجازي.
إذ يوجد كل نوع من أنواع المحبوب في مخيلة الفرد الكردي ومن الممكن أن تجتمع كلها باعتبارات مختلفة تحت عنوان واحد و شامل ، فيقرأه كل قاريء حسب مستواه المعرفي و ذوقه الوجداني .
التأمل في الطبيعة و العالم و رؤية اللوحات الفريدة ، أداة حية لتعامل الشاعر الكردي مع موهبته الشعرية و بالتالي لمزجها بالمفاهيم اللاهوتية ومن ثم لكشف التناسق القائم بين الانسان و الطبيعة والتعبير عن هذا التناسق بأسلوب تعبيري أخاذ ، و تعد قصائد مولوي و بيساراني و صيدي و خانا القبادي نماذج رائعة لهذا الأمر.
تربية الفرد و المجتمع على أسس الدين و الحياة و الآداب الاجتماعية ثيمة اخرى للشعر الكلاسيكي الكردي ، مثلما نجده لدى حكم و أمثال بيرةميرد و رباعيات باباطاهر و فقي طيران و المنظومات الشعرية للشيخ معروف النودهي و أحمد الخاني . القصة الشعرية تتجلى في آثار خانا القبادي و الخاني و فقي طيران ، بحيث نرى أن شعراء الكرد من خلال منظوماتهم حاولوا الولوج الى أعماق الجماهير الغفيرة بطرح القيم و المباديء العليا الانسانية و الوطنية و القومية و الخصال الخلقية الحميدة كالصدق و الوفاء و الفتوة و الشجاعة و الحب و الإيثار.
إن الشعر الكلاسيكي الكردي لا يمكن الغوص في أعماقه و الوقوف على درره و غرره دون التضلع في اللغة و البلاغة و فنون المعاني و البيان و البديع ، ففي أبياته العديد من المصطلحات و المعادلات الذهنية التي تحوج القاريء الى التفكير و التدبر المنهجي ، فعلى سبيل المثال يقول عصام الدين شفيعي البوكاني :
من صغرى فمك و كبرى عينك كان لدى مطلبٌ ..
حتى تقدمت غالية شعرك بمئات من الدور و التسلسل ..!
فالبيت حافل بطائفة من المصطلحات المنطقية و الفلسفية بطريقة الايهام ، ما يجعل القاريء يتبين المعادلة و يفكر في الربط بين أجزائها . أسوة بمن سبقوه من الشعراء الكبار ، وربما سبقهم أحياناً.ومن الخطوات الجديرة بالإشارة في تاريخ الشعر الكردي ما قام به الحاج قادر الكوئي من محاولات جريئة لتطويره و تغيير مغزاه و تجديد رسالته ، متأثراً بالنقلة الثقافية التي حصلت في المجتمع العثماني والتي تجسدت في تحول رسالة الشعر و رؤية الشاعر إلى طرح موضوعات الحياة الجديدة و الدخول الى العصر الحديث بمفاهيمه و معطياته الواقعية بعيداً عن التخيلات الرومانطيقية التي لا تمت الى الواقع بصلة ، وقد يكون حاجي قادر في هذا الأمر خليفة لكل من نالي و مولانا خالد . ومن بعد حاجي قادر يعدّ ملا محمد جليزادة و ملا عبد الله زيوةر و فائق بيكس و أحمد مختار جاف خير من يمثل هذا الاتجاه . وفي النصف الأول من القرن العشرين واصل الشعر الكلاسيكي الكردي دوره و تألقه من خلال ادبيات مجموعة من الشعراء المتنورين ، من أمثال بابارسول البيدني و بيخود و قانع . ولم تنطفيء شرارة هذا الأدب رغم ظهور تيارات حداثية تنادي بتغيير النمط الشعري ، فبرز في منطقة مكريان بـتأثير الحركة القومية المتنامية و بالذات قيام جمهورية كردستان 1946 شعراء كبار نهلوا من عيون الشعر الكلاسيكي و أبدعوا نمطاً شعرياً متصلاً بالواقع السياسي و المرحلة الفكرية الناهضة فتغنوا بالقومية الكردية و جبال كردستان و بيشمركتها الفدائيين للحصول على الحقوق السياسية و الاجتماعية للشعب الكردي ، وهؤلاء هم عبد الرحمن شرفكندي (هةزار) و هيمن و خالةمين و آوات و هيدي .
خلاصة القول إن الشعر الكلاسيكي الكردي في كافة مراحل نشأته و ظهوره كان عاملاً مؤثراً و كبيراً في تنمية الوعي الاجتماعي و عنصراً أساسياً لمعرفة الذات الكردية ، كونه قد فتح الباب على مصراعيه أمام المثقف الكردي كي يفكر في ذاته و مجتمعه و شعبه و مصيره ، ويتخذ من الشعر وسيلة للدفاع عن حقوقه المشروعة و قضاياه العادلة .وفي الوقت ذاته ليفتح ذراعيه بكل شوق و ايجابية للآثار الأدبية و الثقافية الوافدة من لدن الشعوب الأخرى ناقلاً و ناقداً و مساهماً في نشرها و تطويرها .