هل سنعود للعصور الوسطى في عام 2100؟!
من موقع ساسة بوست
عرفت الساحة الدولية سياسيًا وثقافيًا في العقدين الأخيرين من القرن المنصرم فكرتيْن أساسيتيْن قامت عليهما العديد من النظريات والاتجاهات الفكرية التي تحلّل الأوضاع العامة وخريطة الأيديولوجيات ومستقبل الليبرالية في العالم؛ نُشرت هاتان الفكرتان في كتَابيْن يحملان نفس عنوانهما: فكرة صراع الحضارات، لأستاذ العلوم السياسية في جامعة «هارفارد» الأمريكية، صامويل هنتنجتون (Samuel P. Huntington)،وفكرة نهاية التاريخ، لأستاذ العلوم السياسية في جامعة «ستانفورد» الأمريكية، فرانسيس فوكوياما (Francis Fukuyama).
نُشرت الفكرتان في كتابين يُوصى كلُّ طلاب العلوم السياسية في العالم حتى يومنا هذا بالاطلاع عليهما، ولكن في الوقت الذي شهدت فيه العديد من الدول الغربية، التي اعتبرها الكاتبان النموذجَ الأمثل من أجل تطبيق أفكار الديمقراطية الليبرالية، ونقلِها إلى مُختلف دول العالم، نكساتٍ على المستوى الأيديولوجي، يُطل علينا من جديد الكاتب وأستاذ العلوم السياسية الأمريكي فرانسيس فوكوياما للحديث عن موجات صعود اليمين المتطرف في الدول الغربية، أو حتى في أنحاءٍ مختلفةٍ من العالم، مثل الولايات المتحدة الأمريكية، وبريطانيا.
ومن هنا، يسعى هذا التقرير لتحليل أطروحة فوكوياما الجديدة حول صعود اليمين، بالتزامن مع تحليل أطروحتي «الموجة الثالثة للديمقراطية»، و«نهاية التاريخ»، بالاستشهاد بنماذج غربيةٍ، وغير غربيةٍ، تصدَّرت فيها موجات اليمين المتطرف الساحة السياسية، أو نماذج مختلفة فشلت فيها فكرة الديمقراطية الليبرالية، أو بدأت في التلاشي، مع طرح احتمالية تلاشي فكرة الديمقراطية الليبرالية نهائيًا من العالم بحلول عام 2100.
الموجة الثالثة للديمقراطية أم نهاية التاريخ؟
ظهر مصطلح «الموجة الثالثة للديمقراطية» لأول مرة عام 1991، وذلك من خلال الكتاب الذي أصدره صامويل هنتنجتون تحت عنوان «الموجة الثالثة: التحول الديمقراطي في أواخر القرن العشرين»، وذلك في إشارة إلى وصف التحوّلات الجذرية التي شهدها الاتجاه العالمي في أكثر من 60 دولة في أنحاء أوروبا، وأمريكا اللاتينية، وأفريقيا، وآسيا، بالتحول الديمقراطي، وذلك منذ الثورة البرتغالية التي تُعرف باسم «ثورة القرنفل» عام 1974.
واعتُبرت تلك الموجة الثالثة للديمقراطية، لأنها رفعت عدد الدول الديمقراطية في العالم من 36 دولة، إلى أكثر من 110 دولة. واتفق العديد من علماء السياسة على هذا الطرح باعتبار هذه المرحلة موجةً ثالثةً للديمقراطية، سبقتها موجتان: كانت الأولى من أواخر القرن التاسع عشر، وتحديدًا منذ عام 1828 بعد ترسيخ مبادئ الثورة الفرنسية والأمريكية، وحتى قبل الحرب العالمية الثانية، وتحديدًا بوصول موسوليني إلى حكم إيطاليا عام 1922.
أمَّا الموجة الثانية فكانت ببداية حكم الفاشية في القرن العشرين بحكم موسوليني، ومن بعده هتلر، والحرب العالمية الثانية، وحتى بعد نهاية الحرب، إلا أن عددًا من هذه الديمقراطيات تساقطت واحدة تلو الأخرى في عصر الديكتاتوريات العسكرية في ستينيات القرن الماضي، خاصةً في دول أمريكا اللاتينية، ووصولًا إلى الثورة البرتغالية عام 1974، بدأت الموجة الثالثة للديمقراطية، والتي اعتبر علماء السياسة قِمّتها في بدايات القرن الحادي والعشرين الحالي.
وفي الوقت نفسه، افترض فوكوياما في أطروحته حول نهاية التاريخ أنّ التغيّرات التي طرأت على العالم، من خلال الموجة الثالثة للديمقراطية، ومع انهيار الاتحاد السوفيتي، ستؤدي بالتبعية إلى نهاية التاريخ بوصفه تاريخًا، فضلًا عن طرحه فكرة حتمية لخط التطور الأيديولوجي للبشرية بتعميم الديمقراطية الليبرالية الغربية بوصفها بديلًا عن كل الأيديولوجيات الأخرى، والكلّ النهائي للحكم الإنساني.
تبدو أطروحتا فرانسيس فوكوياما و صامويل هنتنجتون حول نهاية التاريخ، والموجة الثالثة للديمقراطية، مكمّلتيْن لبعضهما البعض، ولكن الواقع الحالي يثبت عكس ذلك؛ إذ سيطر فيه رجل الأعمال والشخصية التلفزيونيّة دونالد ترامب، على رئاسة الولايات المتحدة الأمريكية، في الوقت الذي حشدت فيه جماعات اليمين المتطرف من أجل خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، والميل إلى الاتجاه الانعزالي، الذي يُفضّله ترامب أيضًا، في ظل صعود موجات الشعبوية، والقومية، وانتشار «أشباه ترامب» في العالم، وآخرهم الرئيس البرازيلي، جايير بولسنارو، المنتخب أواخر شهر أكتوبر (تشرين الأول) الماضي.
الواقع ينسف «نهاية التاريخ»
يبدو أن فوكوياما كان حالمًا آملًا أكثر من كونه واقعيًا، أو رُبما خذلته الدول الغربية بتفوُق وتصاعد اليمين المتطرف في الدول المختلفة خلال الأعوام القليلة الماضية، والذي أدى بشكلٍ رئيسي إلى انتشار الديكتاتوريات والأنظمة الفاشية، والشمولية في العالم؛ خاصةً في الوقت الذي تنتهك قوى وحكّام اليمين الشعبوي حقوق الإنسان بصور أكبر من أي وقتٍ مضى، وذلك تحت مسمى «الحرب على الإرهاب»، في الوقت الذي تبقى فيه عدد من الدول الديمقراطية، والتي ترأسهم ألمانيا في الوقت الحالي المسماة بـ«قائدة العالم الحر»، تقف عاجزة عن اتخاذ إجراءات حازمة وصارمة ضد هذه الأنظمة التي تنتهك حقوق الإنسان في العالم.
ذكر فوكوياما في أطروحته حول نهاية التاريخ أنّ الصراع في القرن العشرين تركَّز في ثلاثة أقطاب رئيسية، مانحًا الوجود والحقيقة المطلقة للديمقراطية اليبرالية الغربية؛ إذ تمثَّلت هذه الأقطاب في الديمقراطية الليبرالية باعتبارها قطبًا أوّل يدعو له ويناصره فوكوياما، والأيديولوجيا الفاشية قطب ثانٍ، التي يرى أنها دُمرت خلال الحرب العالمية الثانية، والقطب الشيوعي الثالث، الذي يرى أنه قُضي عليه بوصول ميخائيل جورباتشوف إلى السلطة وانهيار الاتحاد السوفيتي.
وفي الوقت نفسه، طرح فوكوياما عددًا من التحديات التي قد تواجه الديمقراطية الليبرالية الغربية في مستقبل طرحه لفكرته، والتي اختزلها في أمرين رئيسين: التحدي الديني، والذي لم يُبد منه أي تخوُّف؛ إذ إنه يرى أن الديمقراطية الليبرالية كانت محصِّلة ضعف المجتمعات ذات الأساس الديني. وأمَّا التحدي الثاني فتمثَّل في القومية، والتي لم يُبد منها أي تخوُّف أيضًا، مبرّرًا أنها لن تشكل خطرًا على الديمقراطية، وأنها ستسود بأبعادها المختلفة في دول العالم الثالث فقط.
القرن الواحد والعشرين: شبح الـ«نيوقومية» لم ينتبه له أحد
الواقع الحالي يثبت فشل فكرة فوكوياما حول نهاية التاريخ وانتصار الديمقراطية الليبرالية الغربية في مختلف دول العالم؛ فبدايةً من طرحه للأقطاب الأيديولوجية الموجودة في العالم؛ لم تبق الديمقراطية الليبرالية هي القطب الوحيد كما رأى فوكوياما من قبل؛ إذ إنّ كلا القطبين الآخرين ما زالا موجودين، بل ويزدادان قوةً وانتشارًا يومًا بعد الآخر.
القطب الشيوعي، الذي ظَنّ فوكوياما أنه انتهى وقُضي عليه بانهيار الاتحاد السوفيتي، لم ينتهِ حقًا، بل ازداد قوةً وصلابةً، خاصةً في ظل تنامي وصعود الصين على الساحة الدولية، باستخدام قوتها الاقتصادية، وعضويتها في مجلس الأمن الدولي؛ إذ يرى كلٌّ من أستاذ العلوم السياسية، روبرت بلاكويل، وزميله آشلي تيليز، في دراستهما حول الاستراتيجية الكبرى للصين خلال السنوات الحالية والقادمة، وعلاقتها بالولايات المتحدة الأمريكية، والتي نُشرت عبر مجلس العلاقات الخارجية الأمريكية عام 2015 أن ما عزّز رغبة الحزب الشيوعي الصيني في الحفاظ على سيطرته الداخلية، هو الهدف الاستراتيجي للصين المتعلق بـ«تعظيم السلطة القومية الشاملة» بحسب الكاتبين، وهو ما يعني تعزيز مكانة الصين بصفتها فاعلًا محوريًّا في النظام الدولي.
الآن – وبعدما صارت الصين قوة اقتصادية عُظمى – أصبح لعضويتها في مجلس الأمن أهمية إضافية، وهي الحقيقة التي يُبرزها رفض بكين لأي توسع في هيكل المجلس يمكن أن يقلّل من امتيازاتها طويلة الأمد، وحتى فيما يتجاوز مجلس الأمن، فإن القدرات المادية المتزايدة للصين جعلتها وثيقة الصلة بكافة مؤسسات النظام العالمي، وليس مستغربًا أنها سعت لتحقيق سلطة متزايدة في تلك الكيانات، مثل صندوق النقد الدولي، والبنك الدولي على سبيل المثال؛ إذ عملت الصين على توجيه عملياتهم لخدمة مصالحها وأغراضها الخاصة.
وبالانتقال إلى القطب الثاني المتمثل في الأيديولوجيا القومية التي تأخذ منحى فاشيًا، يمكننا ملاحظة وجود أشباه ترامب حول العالم؛ من ميانمار إلى مصر، ومن كوريا الشمالية إلى سوريا، ومن السعودية إلى روسيا، وغيرها من الأنظمة الديكتاتورية الفاشية، التي تضع الحرب على الإرهاب والقومية مبررًا للفاشية العسكرية، أو حتى المدنية.
وتأكيدًا على هذه الفكرة، عادةً ما تتبنى الأنظمة الديكتاتورية نهجًا يمينيًا شعبويًا، يتّسم بالعنصرية، ومعاداة الأقليات، وحقوق الإنسان؛ وهو ما يتّضح بشدة في ظل أزمة اللاجئين في العالم؛ فمن دونالد ترامب إلى تريزا ماي، ومن فيكتور أوربان، رئيس وزراء المجر إلى فلاديمير بوتين في روسيا، ومن هتين كياو في ميانمار، إلى بشَّار الأسد في سوريا، وغيرهم، وهو ما يثبت أيضًا فشل طرح فوكوياما في التحديات التي قد تواجه الديمقراطية الليبرالية في المستقبل؛ إذ إن عدم إبدائه لأي تخوفات من القومية لم يكن تحليلاً صائبًا.
الجدير بالذكر أن تحدي القومية الذي لم يتخوَّف منه فوكوياما كبر وترعرع ليصبح شبحًا أكبر يُدعى «النيوقومية»، يوشك على التهام الديمقراطية الليبرالية. فمصطلح «النيوقومية» أو القومية الجديدة هو المصطلح الذي من المتوقَّع أن يسود خلال الفترة القادمة؛ إذ تناوله مارك بليث، أستاذ الاقتصاد السياسي في جامعة براون، في مقالته على موقع «فورين أفيرز». وقد شبَّه «بليث» فترة حكم ترامب بأنها تتصف بكونها فترة حكم «نيوقومية»، والتي لا تهتم بأي نوع من الحقوق، وتتسم بالعنصرية، ومعاداة الأقليات وحقوق الإنسان، ولا تهتم إلا بشأن الانغلاق على نفسها وعدم الترحيب بأي جديد أو غريب. ومن المتوقَّع أن تقود النيوقومية العالم في حالة فشلت الديمقراطية الليبرالية في الوقوف أمامها.
فوكوياما VS فوكوياما
أعاد فرانسيس فوكوياما ترتيب أوراقه، وذلك في مقاله الأخير الذي صدر خلال أغسطس (آب) الماضي تحت عنوان «ضد سياسة الهُوية»، والتي نشرتها مجلة «فورين أفيرز» الأمريكية المتخصصة في تحليل العلاقات الخارجية الأمريكية بشكلٍ رئيسي.
واعترف فوكوياما بانخفاض عدد الديمقراطيات، وتراجع الديمقراطية في جميع أنحاء العالم خلال السنوات القليلة الماضية، مُرجعًا ذلك إلى أمرين رئيسيين؛ التغيّرات الاقتصادية والتكنولوجية التي جلبتها العولمة، وصعود ما أسماه «سياسة الهُوية»، وتغيير أولويات التيارات اليسارية واليمينية في الوقت الحالي، عما كانت عليه خلال القرن الماضي.
من جانبه، أكد فوكوياما وجود العديد من الدول الاستبدادية، بقيادة الصين وروسيا، والتي أضحت أكثر قوة وصلابة من قبل، في الوقت الذي تراجعت فيه بعض الدول إلى الوراء، والتي كانت قد بدت لوهلة أنها قد تصبح ديمقراطيات ليبرالية ناجحة، مثل المجر وبولندا وتركيا، خلال تسعينيات القرن الماضي، فما كان إلا أنها أضحت أكثر استبدادية عن قبل.
الجدير بالذكر أنه حتى النسخة التي تحيي إرث الدولة القومية الشيوعية التي تقودها دول مثل روسيا والصين في العالم هي مجرد نسخة من الشيوعية الاستبدادية، وليست تلك التي يُطلق عليها مصطلح «الشيوعية التحررية»، والتي تدعم التنظيم الاجتماعي الحر القائم على الملكية الجماعية لوسائل الإنتاج وعلى الديمقراطية المباشرة وعلى سلطة مجالس العمال بالتوافق مع الحرية الفردية والديمقراطية، أي أن الديمقراطية قد تشترك في بعض الأحيان مع الشيوعية، ولكن هذا هو ما لم يحدث في الأنظمة الشيوعية الحالية، والتي لم تشترك مع الديمقراطية بأي شكلٍ من الأشكال، حتى الحريات الفردية.
وفي الوقت الذي اعتبر بعض علماء السياسة أن الربيع العربي مثَّل موجةً رابعة للديمقراطية، يرى فوكوياما أن الثورات العربية نجحت في عام 2011 في تقويض الأنظمة الديكتاتورية في جميع أنحاء الشرق الأوسط، إلا أنها لم تُسفر عن تغيير جذري فيما يتعلق بالديمقراطية، بل تمسّكت الأنظمة الاستبدادية في أعقابها بالسُلطة، مما أدى إلى نشوب عدد من الحروب الأهلية في عدد من الدول، مثل العراق، وليبيا، وسوريا، واليمن.
وفي الوقت نفسه، أعرب عن دهشته بعد نجاح التيارات القومية الشعوبية في الانتخابات التي أجريت عام 2016 في اثنتين من أقوى الديمقراطيات الليبرالية في العالم؛ المملكة المتحدة، حيث صوت الناخبون لصالح مغادرة الاتحاد الأوروبي، وفي الولايات المتحدة، حيث سجل دونالد ترامب مفاجأة عندما فاز بالسباق إلى البيت الأبيض.
وأرجع عالم السياسة الأمريكي ذو الأصل الياباني، تصاعد التيارات اليمينية والقومية الشعبوية في العالم إلى التغيّرات الاقتصادية والتكنولوجية التي جلبتها العولمة، مشيرًا في الوقت نفسه إلى صعود مصطلح سياسة الهوية؛ فيرى فوكوياما أن الاهتمامات السياسية اليوم تختلف عما كانت عليه من قبل؛ فتاريخيًا، كانت السياسة طوال القرن العشرين تهيمن عليها القضايا الاقتصادية؛ فمن ناحية الاتجاه اليساري، تركزت محاور السياسة على أوضاع العمال، والنقابات، وبرامج الرعاية الاجتماعية، وسياسات إعادة توزيع الثورة، ومن ناحية تيارات اليمين، كان التركيز في المقام الأول على تقليص دور الحكومة وتعزيز القطاع الخاص.
لكن السياسة في الوقت الحالي أصبحت أكثر تركيزًا على قضايا الهُوية، من التركيز على القضايا الاقتصادية؛ فاليوم، في العديد من الديمقراطيات، تغيَّرت أولويات اليسار وأصبحت تُركِّز بشكل أكبر على تعزيز مصالح مجموعة واسعة من الجماعات المهمشة، مثل الأقليات العرقية والمهاجرين واللاجئين والنساء والمثليين، وذلك مع تراجع أولوية خلق مساواة اقتصادية بين الناس.
وفي الوقت نفسه، تغيَّرت أولويات اليمين أيضًا في الوقت الحالي عن القرن الماضي؛ إذ أعادت التيارات اليمينية تعريف مهمتها الأساسية بالتركيز على حماية الهوية الوطنية التقليدية، التي ترتبط في كثير من الأحيان بالعرق والدين.
ونتيجةً لذلك، تواجه الديمقراطيات الليبرالية الحديثة تحديًا وجوديًا، بحسب ما يراه فوكوياما؛ فقد جلبت العولمة معها تغيّرات اقتصادية واجتماعية وثقافيّة سريعة، جعلت المجتمعات أكثر تنوعًا عما كانت عليه، مما حث الجماعات التي لم تملك صوتًا من قبل، أو لم تكن ظاهرة لعموم المجتمع، على البدء بالمطالبة بالاعتراف؛ مما أدى إلى رد فعل عنيف بين المجموعات الأخرى، التي تشعر بأنها تفقد مكانتها وامتيازاتها بسبب هذه الخطوة.
كيف تُفسِّر «سياسة الهُوية» صعود التيارات القومية في العالم؟
يمكن تفسير الأمر دائمًا بارتباطه بالاقتصاد كما ذكر فوكوياما؛ ففي الديمقراطيات الليبرالية، لا تؤدي المساواة بموجب القانون إلى مساواة اقتصادية أو اجتماعية تلقائيًا؛ إذ لا يزال التمييز قائمًا ضد مجموعة كبيرة من الناس، خاصةً في ظل سيطرة الأنظمة الاقتصادية النيوليبرالية، فضلًا عن المستوى المرتفع من عدم المساواة في توزيع ثمارها؛ إذ إنها كانت السبب الرئيسي في زيادة الأغنياء ثراءً، وزيادة الفقراء فقرًا.
رُبما يمكن للتهديدات المتصوّرة للوضع الاقتصادي للناس أن تُفسِّر صعود النزعة القومية الشعبوية في أماكن مختلفة من العالم؛ فحتى في دول غنية مثل الولايات المتحدة؛ وعلى الرغم من ثراء هذه الدول، فإن هناك زيادة هائلة في التفاوت في مستوى الدخل خلال الأعوام القليلة الماضية؛ إذ تعاني عدة شرائح مجتمعية من الركود في نمو رواتبهم ودخولهم، بل إن شرائح بأكملها من المجتمع قد هبطت بالفعل في مستواها الاجتماعي إلى طبقات أقل.
وفي الوقت نفسه، ومن منظور اجتماعي، قد تكون أحد أهم الدوافع وراء القومية الجديدة التي دفعت المملكة المتحدة للتصويت لصالح مغادرة الاتحاد الأوروبي، والتي وضعت ترامب في البيت الأبيض، هو تصور الطبقة العاملة أنها أصبحت غير مرئية بحسب فوكوياما؛ إذ تلوم كل المجموعات والفئات في المجتمع لبعضهما البعض؛ فقد غضب المواطنون في الطبقة الوسطى من فقدان مكانتهم، فصبوا استياءهم على كل النخب الأعلى منهم؛ لأنهم لا يأبهون بهم كما يعتقدون، وعلى الفقراء الذين هم أدنى منهم، إذ يشعر هؤلاء المواطنون الغاضبون بأنه يتم تفضيل الفقراء بشكل غير عادل على حسابهم؛ وهنا يمكن أن يتم تصور التدهور الاقتصادي على أنه فقدان للهوية أكثر من كونه خسارة للموارد كما يصِّوره فوكوياما.
ومن هنا، يمكن فهم هذا الرابط بين الدخل والمكانة، والذي يساعدنا في تفسير السبب في نجاح الدعوات القومية أو الدينية المحافظة بشكل أكثر فعالية من النداءات التقليدية القائمة على القضايا الطبقية؛ فكل طبقة تناصر وتحشد لصالحها بالفكرة ذاتها المتعلقة بسياسة الهُوية؛ فالقوميون يقولون للمواطنين الساخطين بأنهم كانوا يومًا ما جزءًا من أمة عظيمة قبل أن يأتي الأجانب والمهاجرون والنخب ويتآمرون لإفشالهم، وهو الدافع الذي اتخذه ترامب، ومن بعده آخرون مثل رئيسة الوزراء البريطانية، تريزا ماي، وأخيرًا الرئيس البرازيلي جايير بولسنارو.
وفي الحقيقة، فإن التيارات الدينية أيضًا اتخذت نفس الدافع من أجل الحشد؛ إذ إنهم يقولون إن جماعتهم كانت جماعة مؤمنة من قبل، وتعيش في الخير والرخاء، ولكن بقدوم غير المؤمنين إلى جماعتهم، أسقط الله بلاءه عليهم بسبب هذه الخطيئة.
ومع ذلك فإن صعود ترامب لا يمثل رفضًا لسياسة الهوية -التي تبنّاها اليسار مؤخّرًا- بأي شكلٍ من الأشكال؛ بل إنه في الواقع يعكس احتضان اليمين لسياسة الهوية؛ فالعديد من أفراد الطبقة العاملة البيضاء الذين يناصرون ترامب يشعرون بأنهم تعرّضوا للتجاهل من قِبل النخب، بينما يعتقد الناس الذين يعيشون في المناطق الريفية -وهم العمود الفقري للحركات الشعبوية- أن قيمهم مهددة من قبل النخب الحضرية المتنوعة.
وعلى الرغم من أنهم أعضاء في المجموعة العرقية المهيمنة التي تمثل الأغلبية، فإن العديد من أعضاء الطبقة العاملة البيضاء يرون أنفسهم ضحايا مهمشين، وهو ما قال عنه فوكوياما: «لقد مهدت هذه المشاعر الطريق لظهور سياسة الهوية بالنسخة اليمينية التي تتخذ في أقصى حالاتها شكل القومية البيضاء العنصرية الوقحة والصريحة».
أفريقيا نموذجًا.. كيف سيصبح العالم في حال أصبحت الصين القوة الأهم في العالم؟
الديكتاتورية الضخمة التي تعمل الصين على بنائها كانت، وما زالت، ضد الديمقراطية في كل الأحوال؛ على عكس الولايات المتحدة التي قد تتدخل عسكريًا من أجل الدفاع ولو شكليًا باسم الديمقراطية، وتزيل الطغاة أحيانًا ولو كان الهدف الأساسي من ذلك عادة هو تحقيق مصالحها بشكل مختلف، وكانت آخرها التدخل العسكري في ليبيا من أجل إزاحة معمر القذافي عن الحكم، كما أن الولايات المتحدة قد تعاقب بلدًا أو جهةً أو أفرادًا لما فيه مصلحتها ويصادف أنهم طغاة أيضًا في بلدانهم، إلا أن الموقف يختلف مع الصين؛ إذ إنها تعتمد في علاقاتها السياسية على جعل الأولوية للاقتصاد، دون إعطاء أي قدر من الاهتمام ولو شكليًا إلى حقوق الإنسان، ولو حتى بالتنديد اللفظي فقط، وهو ما تعمل الصين على استغلاله من أجل السيطرة في القارة الأفريقية.
وكان الرئيس الصيني قد صرَّح إلى قادة الدول الأفريقية في القمة الأفريقية الصينية أن الصين تتبع مبدأ تحت عنوان «لا قيود سياسية مرفقة»، أي أنه لا توجد شروط سياسية أو حقوقية من أجل الشراكة مع الصين، على عكس ما تفعله الولايات المتحدة التي عادةً ما تُملي شروطها.
كلمة الرئيس الصيني جاءت قبل لحظات من إعلانه ضخ استثمارات تصل قيمتها إلى 60 مليار دولار في القارة الأفريقية؛ إذ تهدف الصين من وراء هذا التصريح إلى تعزيز دخولها إلى أسواق أجنبية جديدة وكذلك موارد غير محدودة تمتلكها هذه الأسواق، فضلًا عن تعزيز نفوذها السياسي في هذه البلدان؛ إذ إن الشراكات الاستراتيجية المحتملة معهم ستزيد من القوة الصينية في التفاوض حول الكثير من الملفات الأخرى. ويعتبر هذا التصريح للرئيس الصيني هو بمثابة مفتاح للأنظمة الديكاتوتورية في القارة الأفريقية للتحالف مع أحد أهم الدول في العالم؛ والتي من المتوقَّع أن تصبح بالفعل أهم دولة في العالم؛ وهو ما سيشكِّل الفرصة الذهبية للديكتاتوريات والأنظمة السلطوية في القارة الأفريقية والشرق الأوسط لفرض سيطرتهم على الحكم في بلادهم بالقوة وبمساعدة واحدة من أقوى الدول في العالم، دون حتى أن يتلقوا توبيخًا واحدًا على انتهاك حقوق الإنسان.
وفي ظل انتقال الشراكات العسكرية والاقتصادية من الولايات المتحدة إلى الصين، ستسقط كل الشروط، والقيود، التي فرضتها الولايات المتحدة الأمريكية على هذه الدول مهما كانت بساطتها أو اضطرار أمريكا لها بسبب ضغط المجتمع الحقوقي داخلها، وبالتالي، ستجد هذه السلطويات نفسها أمام ساحة عالمية تخلو من نداءات الديموقراطية وحقوق الإنسان في ظل الدور المتنامي لصعود الصين بوصفها قوة عظمى.
هل تختفي الديمقراطية بحلول عام 2100؟
ما يحدث اليوم هو أن المجتمعات الديمقراطية تتشرذم وتنقسم إلى شرائح تتمحور حول هويات أضيق، مما يضيِّق من أفق التعاون والعمل الجماعي من قبل المجتمع ككل؛ هذا الطريق سوف يؤدي فقط إلى انهيار الدولة وإفشالها في النهاية، وتلاشي فكرة الديمقراطية الليبرالية.
وعن هذا الأمر، يقول فوكوياما إن عالمنا اليوم يتحرك في اتجاهين متناقضين في الوقت نفسه؛ إذ أن الاتجاه الأول متمثّل في العالم المخيف نحو الديكتاتورية المفرطة في المركزية، وأمَّا الاتجاه الثاني فيتمثَّل في العالم المخيف المنقسم والمتشرذم إلى ما لا نهاية.
وتعتبر الصين أحد أبرز أمثلة الاتجاه الأول للعالم؛ إذ تقوم في الوقت الحالي ببناء ديكتاتورية ضخمة تجمع فيها الحكومة بيانات شخصية مفصلة للغاية حول التعاملات اليومية لكل مواطن على شكل نظام تقييم اجتماعيّ؛ بينما تشهد أجزاء أخرى من العالم انهيار المؤسسات المركزية، وظهور الدول الفاشلة، وزيادة الاستقطاب، ونقصًا متزايدًا في التوافق حول الأهداف المشتركة.
الجدير بالذكر أن وسائل الإعلام الاجتماعي، والإنترنت، كانوا سببًا رئيسيًا في انتشار الاتجاه الثاني للعالم؛ إذ أدى إلى ظهور مجتمعات قائمة بذاتها غير محصورة بحواجز مادية، ولكن محصورة بالهويات المشتركة.
وفي النهاية، لن يتوقّف الناس عن التفكير في أنفسهم ومجتمعاتهم باستعمال مقياس الهوية، لكن هويات الأشخاص ليست ثابتة وليست أمرًا وراثيًا. وفي الوقت الذي يمكن فيه استخدام الهوية للتقسيم، يمكن استخدامها أيضًا للتوحيد، وذلك عن طريق صهر جميع الهُويات الفرعية في بوتقة واحدة، هي فكرة المواطنة، المتمثلة في تساوي المواطنين جميعًا، مهما كانت أصولهم أو عروقهم أو أجناسهم أو أديانهم أو غيرها من الهُويات الفرعية، وهو ما يعتبر العلاج الأساسي للسياسات الشعبوية المهيمنة في الوقت الحاضر. وما لم تتمكن الديمقراطيات الليبرالية من العودة إلى مفهوم كوني للكرامة الإنسانية، فإنها ستحكم على نفسها وعلى العالم بالعيش في صراع مستمر.
لم يبدِ فوكوياما أي تخوف أو قلق من تحدي القومية والشعبوية خلال أطروحته الأشهر عام 1992، ولكنه عاد بعد ما يقارب ربع قرن فقط، ليؤكد على خطئه، وذلك بعد أن ظن فوكوياما أن القومية والشعبوية ما هي إلا أشباح مُتخيلة غير حقيقة، إلا أن هذه الأشباح كبرت وترعرعت وأصبحت وحوشًا متمثلة في مصطلحين جديدين هما «النيوقومية» و«الترامبية»، ليتخذان من الكثير من دول العالم مواضع لهم، بل يوشكان على التهام الديمقراطية الليبرالية بهذه السرعة في وقتٍ قريب.. فهل تختفي الديمقراطية بحلول عام 2100 أم قبل ذلك؟ هل ستنتصر القومية الحديثة بعزل الدول عن بعضها البعض لنعود إلى العصور الوسطى؛ حيث يعيش العالم في حالة نزاع وحرب وانعزال وديكتاتورية؟