البهائية ودوره في ظهور النِحلة الباطنية الكردية (الحقة)
القسم الثاني
ب.د.فرست مرعي
عندما قام الميرزا حسين المازندراني الملقب ب(بهاء الله) بسياحته إلى كوردستان العثمانية (=العراق)، في عام 1856م، اطلع على كتاب (فصل الخطاب)، عند أتباع الشيخ مولانا خالد الجاف النقشبندي مجدد الطريقة النقشبندية المتوفى (سنة1243هـ/1827م)، في (تكية بيارة) الواقعة شرق السليمانية بالقرب من الحدود الايرانية، وكانت لها نتائج بعيدة المدى على طريقة تفكيره ودعوته.
وكان بهاء الله يظهر علاقته بالروس، ولكن يخفي علاقته بيهود بغداد ويهود كردستان. فحين وصل بهاء الله إلى بغداد عام1272هـ/1852م كان فيها حوالي (50) الف يهودي وفي كردستان حوالي (18) الاف يهودي()، وعندما اتصل بهاء الله بالحاخام شمعون اغاسي المتوفى (سنة1334هـ/1914م) ارسل إلى كردستان الحاخام والعالم اليهودي هارون البارزاني المتوفى (سنة1318هـ/1900م)، كان الحاخام رجلا صوفيا يؤمن بظهور الملك الالهي (المسيح المنتظر) وعهده السعيد، وكان عالما بالعربية والفارسية، وكان متعطشاً لمذهب القبالاه (=التصوف اليهودي). وقد استقبل الحاخام اليهودي بهاء الله بالترحاب وأمن له المعيشة الحسنة في جبل (سركلو) وصار يتجول في السليمانية وما حولها().
ومن جانب اخر فان بعض المصادر تذكر ان سبب اختفاء بهاء الله في جبال كردستان بالقرب من قرية (شه ده له) في جبال سورداش – غرب السليمانية، كان نصيحة من الحاخام اليهودي (يوسف حاييم) لاكتساب تجربة روحية من الاطلاع على القبالة اليهودية واسرارهما(= التصوف اليهودي)، هذه التجربة تجعله يدرك جوهر الأشياء وقوانينها العميقة كما فعل نبي الله موسى (عليه السلام) حين غاب في جبل الطور في شبه جزيرة سيناء.
ويبدو أن فترة بقاء (بهاء الله) في تلك المنطقة، كانت لها آثار سلبية على عقيدة بعض الكرد، ففي سنوات(1339-1340هـ) الموافق لسنة(1919-1920م)، ظهرت في تلك المنطقة حركة الـ(حقه)، التي تعد إحدى حركات الغلو في التصوف النقشبندي، وكانت لها أفكارغريبة وعجيبة، مخالفة لعقيدة أهل السنة والجماعة، التي هي عقيدة الغالبية العظمى من الكرد.
وغالب الظن أن لـ(بهاء الله) يد بما حصل من الانحراف لدى الصوفية النقشبندية في تلك المنطقة، المحيطة بقرية (شه ده له)، التي آلت نتيجتها إلى ظهور نِحلة الـ(حقه). وليس من المستبعد، لدى بعض الباحثين الكرد، أن يكون قد تم ذلك وفق خطة رسمت لهذه الغاية، لإفساد عقيدة أهل المنطقة، مثلما عمل (البهاء) لإفساد عقيدة من انتحلوا (البهائية) في (إيران). وإلا فما الداعي ليسكن هذا الرجل، في هذه المنطقة النائية، مدة سنتين من1272 لغاية1274هـ الموافق لسنة 1854 لغاية 1856م، وبالقرب من مركز رئيس الطريقة النقشبندية في قرية (شه ده له)، الشيخ (أحمد سردار النقشبندي)، أحد خلفاء مولانا خالد الجاف النقشبندي ومما يدل على ذلك، هو أن بعض منتسبـي هذه النحلة، نعتوا شيخهم (عبدالكريم شه ده له) بأنه هو (المهدي)، وبعضا آخر وصفوه بأنه هو عيسى (عليه السلام). ويذكر أحد الباحثين نقلاً عن أحد الرواة( ملا صديق إمام جامع طق طق) قوله:” بأنه زار منطقة (شه ده له) وحضر مجلس الشيخ عبد الكريم ورأى أحد مريدي الشيخ، وكان اسنه (خولَه) عرف ب ( خولَه شيت) قد طلب الدخول الى غرفته إلا أن الشيخ رفض دخوله، فوقف (خولَه) بباب الغرفة وقال للشيخ ما ترجمته، إنك كالنار داخل التبن، ترفض بالسان الدخول وقلبك يأمرني به، وبعد قوله هذا دخل الغرفة وارتمى في زاوية منها وهو يقول: إن هذا الشيخ هو حضرة المهدي المنتظر، وهو عيسى ومن لا يؤمن به فهو الخاسر، واستطرد الملا صديق (= الراوي) قائلاً: انني لم أرَ ولم أسمع انكار الشيخ عليه ولا تأييده له…”().
وتجدر الاشارة الى أن البهائيون قد أسبغوا على زعيمهم (بهاء) مثل هذه الالقاب، وينقل عن شخص معاصر لتلك الأحداث، وهو السيد (الحاج عبد جاسم)، الذي كان من رجال الشرطة العراقية الملكية، بأنه حين مداهمته لخانقاه (تكية مامه رضا)، أحد زعماء طريقة الـ(حقه) في قرية (كلكه سماق) الواقعة في السفوح الشرقية من جبل هيبت سلطان، المشرفة على مصيف دوكان (=غرب مدينة السليمانية)، وتحريه لممتلكاتها، سنة1365هـ/1944م، لم يجد فيها من الكتب غير كتاب (البهائية(.
وتذكر مصادر بوجود شخص اجنبي زار المنطقة بعد مجيء (بهاء الله)، وأن هذا الشخص هو الذي أوحى فكرة حقة الى الشيخ عبدالكريم شه ده له وحبذ اليه الدعوة. وهذا الشخص استقر في مغارة كهف في جبل سورداش القريب من قرية (شه ده له) كما يروي الشيخ محمد طه الباليساني نقلاً عن أخيه الشيخ عمر طه الباليساني()، وأشار الى ذلك الباحث (كريم زند) وعرف الشخص المجهول وقال هو (إيشان)() وهو مشهور ب ( مامه ريشه). وتوفي إيشان في السليمانية وكام يذهب من قبل الى شيوخ قصبة بياره النقشبنديين للغرض نفسه إلا أنهم طردوه على حد تعبير الدكتور جمال محمد الباجوري.
وليس من المستبعد أن تكون اتصالات هذا الرجل المجهول بالمريدين في هذه المنطقة امتداداً لاتصالات بهاء الله وحلقة وصل بينهم، أي بعبارة أخرى ممثل بهاء الله في المنطقة بعد تركه إياها ومغادرته الى بغداد.
لقد تعاقب على زعامة الطريقة النقشبندية في منطقة سورداش الواقعة غرب مدينة السليمانية كل من الشيخ احمد سردار النقشبندي، وبعدها ابنه (عبدالقادر سوور)، ثم انتقلت زعامة الطريقة الى الشيخ رضا بن الشيخ عثمان العسكري بناءً على توصية الاخير بتلقين الطريقة الى مريديه، وأوصى الشيخ رضا العسكري بأن يكون الشيخ محمد إلا الله (= اسم قرية في منطقة كويسنجق) خليفة له في زعامة الطريقة النقشبندية ، وبعدها قام الشيخ مصطفى بن الحاج الشيخ رضا العسكري بتلقين الطريقة الى حين وفاته في بغداد سنة1335هـ/ 1915م. وبناءً على وصيته قام الشيخ ملا احمد كلنيري بزعامة الطريقة لحين وفاته سنة1339هـ/1919م. وبعد سنة قام الشيخ عبدالكريم شَدَله في سنة1340هـ/ 1920م باستلام الطريقة النقشبندية في مناطق سورداش وميركه وميرزا رستم وكويسنجق واغجلر وشوان(= مناطق واقعة بين مدينتي السليمانية وكركوك) وتلقوا الطريقة منه، ويبدو أن الطريقة قد توسعت في عهده وبدت فيها آثار الغلو والشطط فيها، حيث قيل بأنه أدعي أن الالوهية قد حلت فيه.
وقرية (شه ده له) التي بناها الشيخ مصطفى بن الشيخ رضا العسكري في المنطقة الواقعة بين جبلي بيره مكرون وجرمابان شمال غرب مدينة السليمانية، ظهرت حركة (حقه) الدينية الاجتماعية على يد الشيخ عبدالكريم بن الشيخ مصطفى بن الشيخ رضا العسكري في سنة1339هـ/1920م الملقب ب (عبد الكريم شَدَله) كما أسلفنا.
وجماعة حقة مثلهم مثل أية جماعة صوفية كانوا يصابون بحالة(الجذبة) أثناء تواجدهم في خانقاه (شدله) ويفقدون السيطرة على أنفسهم، ويبدأون بذكر (الله… الله…) أو يقولون (يا حق … ياحق…)، وبسبب اعتزازهم بالسلوك المتبع من قبلهم، كانوا يذكرون كلمة (الحق) من قبلهم، لذلك اشتهروا بين الناس بالحقة. والظاهر أنهم كانوا يستحسنون هذه التسمية، وبدأوا بتفسير ذلك قائلين نحن نتبع الحق نبحث عن الحقيقة التي تستخلص من الطريقة، وطريقنا هو طريق الحق، لأن الطريقة الصوفية هي الحق، وأنها منبعثة من الشريعة. ولذلك عندما كانوا يسمعون كلاما صحيحاً، أو يشاهدون تصرفاً أو عملاً صحيحاً كانوا يقولون (حقه). ولذلك عندما كان يثار الجدل بين علماء الاسلام وبين شيوخ حقه حول عدم التزام الاخيرين بالاسلام واركانه وضوابطه، كان جوابهم: ” عن طريق التراجع والقول أن الطريقة تنبع من الشريعة، وبناءً على ذلك فإن أعمالنا نحن كممثلين عن الطريقة شرعية وغير مخالفة للدين”().
لقد بدت عقائد الحقة في نظر الاغلبية السنية المحيطة بهم موضع شك وريبة، لانهم خالفوا الاسس العامة للاسلام أو مما هو معلوم من الدين بالضرورة، ويمكن ارجاع اسباب تشكك اهل السنة منهم ومن عقائدهم الى سببين رئيسيين: الاول يتعلق بترويج مبدأ انتفاء الحاجة الى أداء التكاليف الشرعية(= سقوط التكاليف) من صلاة وصوم وزكاة وحج وغيرها. والثاني يتعلق بتصورات اجتماعية أكثر انفتاحاً وتطوراً من قبيل المساواة الاجتماعية بين الرجال والنساء والتكافل الاجتماعي وحقوق المرأة؟، شبيه بما كان الامر عليه في مستوطنات القرامطة، حول وجود إباحية في مجتمع الحقة، حيث كان الاختلاط بين الرجال والنساء سيد الموقف، كما أن الجانبين كانوا يسبحون معاً في أحواض السباحة برفقة الكلاب، ويذكر الضابط البريطاني (سي. جي. أدموندز) مستشار وزارة الداخلية العراقية في العهد الملكي ما نصه:” أن نقشبندية كردستان( أقصد الفلاحين في القرى البعيدة لا رجال المدينة المتعلمين) يميلون بنوع الى بعض الشذوذ. وليس من ريب عندي في أن اتجاهات إباحية ظلت تشيع زمناً طويلاً في القرى الجبلية البعيدة على حدود (سورداش) و(مه ركه) لانقطاعهم عن العالم الخارجي، وندرة زيارات موظفي الحكومة، ولم يجذبوا اهتمامي لاول مرة إلا في العام(1315هـ/ 1932م )أي بعد عدة سنوات من وجودي فقد ذهبت وحدة من الشرطة لإجراء تبليغ في قرية (هه له ون) التي هي من أملاك الشيخ محمود وتبعد عن (سه ركه لو) أربعة أميال وعند عودتهم أبلغوني أنهم شاهدوا بأم أعينهم حفلة استحمام مختلطة للجنسين في حوض المسجد، وأضافوا اليها تفاصيل غريبة. وقد شكت سلطات الادارة (= العراقية الملكية) في صحة ما بلغها أول الامر، الى أن أبلغ بعض التجار المحترمين عن مناظر مشابهة في قرية (سه ركه لو) نفسها وقدموا شكوى لأنهم أهينوا وأعتُدي عليهم عندما حاولوا استنكار هذه الاعمال، وقد كشفت التحقيقات عن قصة غريبة فريدة”().
ويظهر أن المستشار البريطاني(= ادموندز) بحكم اطلاعه على الاوضاع في تلك المنطقة عن كثب بحكم كونه كان معاون الحاكم السياسي للواء كركوك في سنة1934م، والمنطقة التي كان هؤلاء الباطنيون مستقرين كانت تحت اشرافه المباشر، حيث زارها بنفسه تكية قرية ( شَدَله) في شهر آب/اغسطس عام1936م الموافق 1355هـ لذلك كان على دراية كافية بالاوضاع، حيث يذكر بأن الشيخ عبد الكريم شدله قد أسس طريقة صوفية عرفت باسم (حقه) وتستند الى التعاليم المعروفة برقصات الصوفية التي كتبها سلفه (حاجي شيخ عارف)، ولكنه أي ( الشيخ عبد الكريم شدله) آثر أن يبقى وراء الستار لأنه أبرز شخصية في المنطقة فضلاً عن مسؤولياته تجاه الحكومة الملكية العراقية، وكان هذا بعد نظر منه ودهاء، ويستطرد المستشار البريطاني قائلاً: “… وشوهد أتباع الطريقة يدفنون أجسامهم حتى الاعناق في أكداس روث حيوانات القرية، وهم يتلون الادعية لله؟. ووجد نوع من شيوعية الاموال، وبضمنها النساء. وراحت جماعات صغيرة من كلا الجنسين تتجول فوق الروابي والآكام بعد حلول الظلام، الرجال منهم في ثياب النساء او حليهن، أما حفلات الاستحمام المختلطة في المساجد فكانت مظهراً منتظماً من مظاهر الطقوس، وكثيراً ما كانت تسحب الكلاب الى الحوض مع المستحمين، وكانت أوعية البول تنتقل من يد الى يد، وبلغ السيل الزبى عندما اققتحمت جماعة من الصوفية وهم في حال الوجد (= السكر)، مسجد (سه ركه لو) وأحرقت علناً نسخة من القرآن وعندما استدعي الشيوخ والادلة الصوفية الى السليمانية للتحقيق. قالوا إنهم شخصياً لا يقرون مثل هذا الشذوذ على أنهم حاولوا الاعتذار لذلك بقولهم: إن يقم المريد الذي هو في حالة وجد ولفترة محدودة- بتصرفات مخالفة للسلوك والاخلاق والدين- فليس عليه جناح…”().