كيف نظّرت الداروينية لإبادة الإنسان؟.. النازية كمثال
“ليس الإنسان مُفصّلا على طراز داروين، ولا الكون مُفصّلا على طراز نيوتن”
[علي عزت بيغوفيتش]
في الثلاثين من أبريل/نيسان عام 1945، استيقظت كلٌّ من دول الحلفاء والمحور على انتحار الرجل الذي أشعل فتيل حربهم قبل ست سنوات، تلك الحرب العالمية التي قضت على عشرات الملايين من البشر وأبادت في خضمها جماعات وأعراق. “أدولف هتلر” القائد المنتحر، الذي أعلن منذ البداية أن حربه كانت لصالح البشرية، ومتمثلة في حماية مصلحة الجنس الآري، من باب أن البقاء للأصلح والأقوى، حتى انتهى به الأمر إلى جرعة من السم.
هل يبدو الأمر غريبا؟ كيف تكون مصلحة البشرية في إبادة أجناس لإعلاء راية جنس من بينهم؟! هذا ما يفسّره المؤرّخ “هيكمان”، فيما ينقله “جيري بيرجمان”، حينما ربط بين “داروين” و”هتلر”؛ إذ يقول: “كان هتلر مؤمنا للغاية بالتطور وداعيا إليه، وبغض النظر عن عمق وتعقيدات هوسه، فإن من المؤكد أن كتابه (كفاحي) وضع بوضوح عددا من الأفكار الارتقائية، خصوصا تلك التي تؤكد الصّراع والبقاء للأصلح والإبادة للأضعف، وذلك لإنتاج مجتمع أفضل”[1].
“داروينية هتلر”، يبدو النسب لافتا بعض الشيء؛ أين “هتلر” وأين “دارون”، وأين نازية الأول من تطورية الأخير؟ ربما تبدو الصلة خفية للوهلة الأولى، لكن مع وجود الداروينية الاجتماعية، كفلسفة واحدية تنكر أي مرجعية غير مادية، سيبدو الأمر أكثر وضوحا؛ إذ إنها ترى، كما يقول “المسيري”[2]، أن الصراع هو الركيزة الأساسية للحياة، وأن التقدم والتطور اللا نهائيين هما القيمة العليا لها، مما يعني عدم المساواة بين البشر؛ لأن ثمّة أعراقا أسمى من غيرها، وعليه تكون مصلحة البشرية في سيادة هذا العرق وفناء الأعراق والطوائف الأدنى حتى لا يتدهور الجنس البشري.
وعلى هذا “تم استخدام النموذج الدارويني، لا لتفسير الطبيعة/المادة وحسب، وإنما لتفسير حياة الإنسان الفرد في المجتمعات، وفي تفسير العلاقة بين الدول والمجتمعات على المستوى الدولي”[2]. من هنا قام أستاذ التاريخ الأوروبي بجامعة “كاليفورنيا”، البروفيسور “ريتشارد وايكارت”[3]، بتتبع الإبادة الهتلرية لليهود، ومعهم طائفة الروما (الغجر) والمعاقون والبولنديون وأسرى الحرب السوفيتية والألمان المنحدرون من أصل أفريقي وطائفة شهود يهود وغيرهم؛ ليخبرنا أن ما فعله “هتلر” بهؤلاء لم يكن إلّا تجلّيا للأخلاق الجديدة التي صعدت مع ذيوع صيت الداروينية كفلسفة للحياة. لكن السؤال: كيف حدث هذا، وبأي تدرّج مر؟
في مذكراته الخاصة، لخّص “داروين” رؤيته عن الأخلاق قائلا إن الإنسان الذي لا يؤمن بالله “يستطيع أن يتخذ قانونا لحياته فقط باتباع البواعث ونداءات الفطرة الأقوى أو التي يشعر أنها الأفضل”[4]، وهو ما عُدَّ انحرافا جذريا عن الأخلاق بمفهومها الديني المتداول في أوروبا حينها. وقد اعتبر الداروينيون من بعده أن الأخلاق والآداب “منتج من منتجات الطبيعة، وبالتالي سيكون لها علاقة بمراحل التطور، وبالقدرة على حفظ الأنواع”، ومن ثم رفض “أي قانون أخلاقي ثابت”[2].
ورأى “وايكارت” أن “داروين” أظهر الاختلاف في السلوك الأخلاقي بين الإنسان وغيره من الكائنات على أنه اختلاف في درجات الأخلاق وليس في نوعها؛ إذ اعتبر أن الكائنات الأخرى تعيش في مجتمعات متعاونة، منتجة غريزة اجتماعية وراثية، هي نفسها التي قام البشر بتطويرها بشكل أكبر ليطلقوا عليها اسم “الأخلاق”، والتي ظهرت نتيجة انتصار المجتمعات الأكثر تعاونا على المجتمعات الأكثر أنانية -ضمن فلسفة الصراع المذكورة- والتفوق عليها إما بالحرب والإبادة وإما بالزيادة السكانية.
وقد ذهب “إرنست هيكل”[5]، أحد التطوريين الأوائل، إلى أن للداروينية مجموعة من التأثيرات على الأخلاق، تبدأ بتقويض ثنائية العقل والجسم، يتبعها تفسير سيكولوجية الإنسان من خلال قوانين الطبيعة، فيما عُرِف بالداروينية الحتمية، مما حوّل الأخلاق من مفهوم مطلق إلى آخر نسبي تتغير معه منظومتها عبر الزمن، ليضحي الانتقاء الطبيعي هو القوة القائدة لإنتاج الأخلاق؛ وتصبح الداروينية -بهذا- صورة من صور التاريخانية[أ] التي قوّضت التصور الثابت عن الأخلاق.
وقد ناقش “المسيري” رؤيته عن الأخلاق في المنظومة الداروينية حين رأى أن الإنسان عندما يكون جزءا من الطبيعة، “فإن الوجود الإنساني نفسه سيتحقق من خلال الآليات التي يتحقق من خلالها وجود كل الكائنات الأخرى، أي الصراع والقوة والتكيف. وهو وجود مؤقت، تماما مثل مكانته في سلم التطور”، وحينها يكون الإنسان “شأنه شأن الأميبا؛ لا يتمتع بأية حرية ولا يحمل أعباء أخلاقية، فالقوانين الأخلاقية هي مجرد تطور لأشكال من السلوك الحيواني الأقل تطورا والحرص الغريزي على البقاء البيولوجي”[2]، مما يُخرِج الأخلاق إلى نسبية واسعة لا تتفق مع رؤيتها الدينية.
وطبقا لهذا التحول، تصبح حقوق الإنسان “مرنة تاريخيا، ليست ثابتة أو خالدة”[3]، ويتوقف الخير المطلق عن كونه “مبدأ ثابتا لا يتغير”[6]، كما يقول “بارتولوميوس كارنيري”، أحد المفكرين الدارونيين في ألمانيا، والذي رأى أن الأخلاق مبنية على أنها باعث تلذذي للإنسان نحو السعادة، لأنها، حسب زميله في الداروينية الاقتصادية “ألبرت شافيل”، مكون أساسي في صراع الإنسان للوجود. وهو ما يوافقه الطبيب الصهيوني “ماكس نوردو” الذي اعتبر النسبية الأخلاقية عنصرا محوريا في منظومة الأخلاق التطورية[3].
بناء على ما سبق، صرّح “أرنولد دودِل”، أحد البيولوجيين الداروينيين الألمان، قائلا: “يعتمد الرأي الجديد السائد في العالم على نظرية التطور؛ لذا يجب أن نبني منظومة الأخلاق الجديدة على أساسها… حيث سيعاد تقييم كل القيم[7]. ورغم عدم اتفاق مؤيدي الأخلاق التطورية على تفصيلات المنظومة الجديدة، كما يقول “وايكارت”، فإنهم اتفقوا على ضرورة اختبار القيم الأخلاقية الحالية على ضوء نظرية التطور، وعلى الرغم من تأكيدهم على نسبية الأخلاق فإنهم آمنوا بثبات عملية التطور؛ ليخرج علينا -نتيجة لهذا- “ويليبالد هنتشل” بقوله: “كل ما يحفظ الصحة هو أخلاقي بالضرورة، وكل شيء يمرض الإنسان أو يجعله قبيحا فهو خطيئة”[8].
لتبدأ من هنا مرحلة جديدة في الفكر الأوروبي، تعيد تعريف الأخلاق وفق ما يخدم المصلحة البيولوجية للجنس البشري، بتفسير أحادي يغفل كل تفسير روحاني، وتعيد رسم الحدود الأخلاقية الطبية والجنسية، وتصنّف البشر وفقا لتصنيفهم العرقي، بل وفق حالتهم الصحية، فنرى “تيودور فريتش” -مؤسس جمعية التجديد الألمانية- يقول: “حفظ صحة أجيالنا القادمة مرتبط بأوامرنا العليا… إننا لا نوافق على الإنسانية المزيفة. من أراد الحفاظ على العناصر المنحطة والمحرومة فإنه يضيق على الأصحاء والأقوياء ويمنع الحياة على كل المجتمع”[9].
في عام 1798، نشر الاقتصادي الشهير “توماس مالتوس” كتابا -لم يضع عليه اسمه- بعنوان “مقالة حول مبدأ السكان”، صاغ فيه نظرية باتت تُعرَف باسم النظرية المالتوسية، تفترض أن ما يمر بالمجتمعات من أزمات اقتصادية هو نتاج مشكلة في التوازن بين الموارد والسكان، إذ رأى أن النمو السكاني يتحرك بمتتالية هندسية في حين تتزايد الموارد بمتتالية حسابية لا تحقق الاكتفاء لهذا الجمع السكاني الضخم.
وبعيدا عن النقد الموجّه للمالتوسية، والذي كان أبسطه عدم اعتمادها على الإحصاء الواقعي، فإن ثمة تقاربا أدركه “وايكارت” وغيره بين أفكار “داروين” عن التصارع البشري وبين نظرية “مالتوس”، ومن هذا ما قاله الباحث “هارون يحيى”، إذ اعتبر أن المالتوسية كانت مصدرا مهما لأفكار “داروين”، وبناء على المفارقة بين نمو السكان والموارد، فإن “العامل المؤثر الرئيسي الذي أبقى السّكّان تحت السّيطرة هو الكوارث، مثل الحرب والمجاعة والمرض. ووفقا لهذا الادعاء الوحشي، فإن بعض الناس ينبغي لهم أن يموتوا من أجل أن يعيش الآخرون، فقد جاء الوجود بقصد “الحرب الدّائمة”[10].
اعتبر “دارون” أن كلًّا من الموت والهلاك يُعد محركا للتطور والارتقاء، كما عبّر هو نفسه عن ذلك في كتابه “أصل الأنواع”: “لذا فإن حرب الطبيعة والمجاعات والموت سيتبعها مباشرة ظهور أعظم عضو نستطيع أن نتصوره، وهو ما أسميه إنتاج الحيوانات الأعلى رتبة”. وهو ما أكّده البيولوجي النمساوي “ماكس فون بروجر” حين قال: “وفقا لرأي داروين، فإن الصراع الذي لا يتوقف لم يكن أبدا بلا طائل، بل إنه يفسح الطريق باستمرار بين الأجيال ليزيح المشوهين والضعفاء والصعاليك، وبالتالي يضمن المستقبل للأصلح”[11].
لم يكن بالطبع كل الداروينيين يحملون الرغبة في تصفية المعاقين والأجناس الأدنى -وفق رؤيتهم التطورية-، ولكنهم اعتبروا، ولو على المستوى التنظيري، أن المعاناة والموت وسيلة لتحقيق غاية تطور الكائنات. تخيّل أن يؤمن شخص في مكان ما بما قاله “داروين” عن إعجابه بقتل ملكة النحل لملكاتها الصغار فور فقس بيضاتها، وأن هذا “بلا شك لمصلحة المجموعة، وأن كلًّا من حب الأم وبغضها متساويان فيما يتعلق بالمبدأ الصلب للانتقاء الطبيعي”[12].
كان لتلك النظرة الجديدة إسهامها المحوري في تغيير مركزية الإنسان ومكانته في الطبيعة، فقد “حارب إرنست هيكل والكثير من الداروينيين الألمان بضراوة كل الأفكار الثنائية عن الإنسان، والتي وهبت للحياة الإنسانية قيمة أعلى من قيمة الحيوانات”، ليخرجوا إلينا بنتيجة، قائمة على تفسير بيولوجي حاد، ترى أن “البشر لا يختلفون كثيرا عن الحيوانات”، بل زعم “هيكل”، بوضوح لم يصرح به “داروين” نفسه، أن كل الأفعال المنسوبة للروح “ليست سوى عمليات مادية تجري في النظام العصبي المركزي”، وأن علم النفس -وفقا لفلسفته- “يمكن تحجيمه ليصل في النهاية إلى الفسيولوجيا[3].
كما زادت حدة العنصرية تجاه المعاقين والأعراق الملونة في آسيا وأفريقيا وأستراليا والأميركتين، بوصفها أعراقا أدنى من الرجل الأبيض الأوروبي الصحيح، وهو ما نلحظه في أدبيات وخطابات الداروينيين من خلال ربطها باليوجينيا والضبط البيولوجي للسلالات البشرية، فيقول الطبيب اليوجيني، وعضو البرلمان الألماني في بدايات القرن الماضي، “إدفار دافيد” إن الموت السريع للأفراد غير الصالحين -المعاقين والمجرمين والأعراق الأدنى- وكذا ذرياتهم الضعيفة “يقيم توازنا للتأثير الانتكاسي لعدم التوازن وحالة البشر الصحية الهزيلة”.
ويضيف أن ما يثبّط هذا الانتقاء الطبيعي ويعيقه هي “المؤسسات التي تقدم خدمات اجتماعية تهدف إلى الحفاظ على حياة العناصر المعطوبة، سامحين لهم بالتناسل وحفظ نسلهم الضعيف صحيا”[13]. بل إن النظرة لهذه الفئات المتدنية بشريا -حسب الداروينية- بلغ أوجه في قول “هيكل” إن الفروق بين الحيوانات الأعلى تطورا والإنسان الأقل تطورا أقل من الفرق بين أدنى البشر تطورا وأعلاهم[14]. وعلى الرغم من صعوبة تمرير هذه القناعة عند داروينيي اليوم، فإنها كانت حاضرة هنا يوما ما.
ووفقا لـ “وايكارت” في بحثه الضخم، فقد أكد الكثير من الداروينيين أن مبدأ عدم المساواة هو قانون طبيعي لا يمكن تجنبه، مع جعل الأعراق غير الأوروبية في مرتبة أخطر على البشرية من المعاقين الأوروبيين، حتى إنهم صنّفوهم كبشر أقل تطورا -أي كائنات دنيا ناقصة بيولوجيا- لن يتحضروا أبدا، الأمر الذي اعتُبِر تبريرا للإمبريالية والعنصرية الأوروبية، ما أفضى في النهاية إلى العمل على جانبين لتحسين السلالة البشرية: الانتقاء الموجه باليوجينيا، والإبادة العرقية للمتدنيين والضعفاء.
“إن النمو الشاذ، متزايد السرعة، لطبقات ضعاف العقول والمتخلفين، والذي يصاحبه كما نعرف تقييد مطرد في نمو كل السلالات القوية الرفيعة، يُشكّل خطرا قوميا وعرقيا داهما على أوروبا، وإنني أعتقد أنه من الضروري أن يوقف ذلك الرافد الذي يغذي نهر الجنون قبل مرور عام وإلا أصيبت أوروبا كلها بالجنون”
بتلك المقولة، صدم “ونستون تشرشل”، رئيس الوزراء البريطاني الأسبق، قرّاء مذكراته التي نُشِرت عام 1992، ليعيد للأذهان ذكريات علم عنصري بائد، يُبتعَث على استحياء، استخدمته النازية في مجازرها العرقية أثناء الحرب العالمية الثانية، وأعادت ترويجه الصين في ثمانينيات القرن الماضي لتعقيم (عُقْم) المعاقين ذهنيا قبل زواجهم، مع وجود صيحات تدندن حوله، مع صعود اليمين المتطرف في أوروبا، بغرض تطهير القارة من كل عرق غير أوروبي[15].
اليوجينيا، أو علم التحكم في السلالة البشرية، هو أحد العلوم التي صعدت مع فورة الداروينية في أواخر القرن التاسع عشر، على يد “فرانسيس جالتون”، بغرض تطبيق أساليب ومفاهيم الانتقاء على الإنسان، لتحسين خصائصه الوراثية؛ من أجل الحد من ظواهر الانحطاط في الجينات البشرية[16]. بكلمات أخرى: هي الأفكار التي أرادت تطويع العلم من أجل منح السلالات الأصلح -بيولوجيا- فرصة أفضل للتناسل السريع مقارنة بالسلالات الأقل صلاحية؛ ليصبح الإنجاب حكرا على فئة معينة من البشر.
اليوجينيا أو علم التحكم في السلالة البشرية، هو أحد العلوم التي صعدت مع فورة الداروينية في أواخر القرن التاسع عشر، على يد “فرانسيس جالتون” (مواقع التواصل) |
ورأى “جالتون” أن “التطور الصحيح للجنس البشري قد انحرف عن مساره الطبيعي، بسبب نزعة الخير لدى الأثرياء وإنسانيتهم إلى تشجيع غير الصالحين على الإنجاب”، وهو الأمر الذي رأى فيه -حسب مفاهيمه التطورية- إفسادا لآلية “الانتخاب الطبيعي، ومن ثم أصبح جنس البشر في حاجة إلى نوع من الانتخاب الصناعي”، وهو ما عبّر عنه بمقولته التي اعتُبرَت أيقونة عنصرية: “إن كلاب أفريقيا تكف عن النباح إذا ما تنفست هواءنا”[17].
وحسب “وايكارت”، فإن المفهوم المالتوسي الذي تبناه “داروين” في نظريته التطورية يفترض سابقا معدلات إنجاب عالية، ومن ثم كان التناسل الانتقائي هو المحور الأساسي لرؤيته، التي رأت أنه كلما تكاثر البشر ذوو الصفات المحبذة من الأعراق السامية، مع محاربة تكاثر المتدنيين من المعاقين والأعراق غير الأوروبية، فإن هذا سيثمر إيجابيا في مصلحة الجنس البشري؛ حتى إن كثيرا من الاعتراضات التي صدرت من داروينيين على الحرب العالمية الأولى نتجت عن تهديد هذه الحرب لبقاء الجنس الأوروبي لا لكونها شيئا سيئا في ذاته، وإلا فلو كان الضحايا من أفريقيا، أو كان المعاقون يشاركون في الحرب كالأصحاء، لما بدا الأمر لديهم بهذا السوء.
ساهمت تلك الرؤية المادية، المُحيونة للإنسان، في الانقلاب على الأخلاق الجنسية السائدة في أوروبا، فأصبح التطور هو الحكم الجديد لها، أي “كل ما حسّن النوعية البيولوجية اعتُبِر جيدا أخلاقيا، وأن كل ما أعاقها كان ذميما”[3]، أو كما قال “إدوارد دافيد” في مؤتمر للإصلاحيين الجنسيين: “في عالم العلاقات الجنسية كل شيء أخلاقي ما دام يخدم التطور التصاعدي للأنواع”[18]. الأمر الذي أدى في البداية إلى منع زواج المعاقين، وانتهى بتعقيم الكثير منهم في عهد “هتلر” لئلا ينجبوا خارج إطار الزواج، “فلم يكن الزواج مجرد مسألة فردية، بل مسألة ذات أهمية بالغة للحيوية البيولوجية لأفراد الأمة أو العرق”[3].
لو لم يُجنّ الألمان بنظرية البقاء للأصلح، لما دخلوا الحرب من الأساس، أو على الأقل لم تكن لتبلغ حجمها الضخم هذا
كيف يمكننا تحقيق الموازنة للدخل؟ يمكننا فعل ذلك بتخفيض المصروفات تارة، أو زيادة الموارد تارة أخرى، أو بالدمج بين الأمرين. بالطريقة نفسها، وفي سياق مغاير، رأى عدد من الداروينيين أنه لتخليص العالم من “غير اللائقين بيولوجيا” بصورة أسرع، فإن اليوجينيا وحدها لن تكفي، لذا كان الحل الثاني الذي يقلل من التكاليف: إبادة الطبقات الدنيا[3].
عن هذه الأفكار، التي تطورت على يد “هتلر” إلى حقائق، يقول “زيجمونت بومان”: “لم تكن الهولوكوست مجرّد مشكلة يهودية، ولم تكن حدثا في التاريخ اليهودي وحده. لقد ولدت الهولوكوست ووقعت في مجتمعنا الغربي العقلاني الحديث، في أوج مجد حضارتنا، وفي ذروة إنجازنا الثقافي الإنساني، ولهذا السبب هي مشكلة من مشكلات المجتمع الغربي والحضارة الغربية”[19].
لم تكن الإبادة، متمثلة في محارق النازية للأعراق المغايرة، والتي كانت أغلبيتها من اليهود، وإبادة المعاقين وتعقيمهم، إلا نتيجة حتمية لهذا التطور. فقد “لعبت الداروينية دورا مهما في الجدل حول قدسية الحياة البشرية؛ لأنها غيرت مفاهيم العديد من الناس حول قيمة الحياة البشرية، فضلا عن دلالة الموت”[3]. وكنتيجة لهذه السياسة، فإن “الضعيف والذين فقدوا الصراع من أجل البقاء سيُزالون”[10].
جادل عدد من المفكرين الداروينيين الاجتماعيين بأن الإبادة العرقية، حتى لو نُفِّذت بوسائل دموية، ستؤدي في النهاية إلى تقدم أخلاقي للبشرية
ويرى المؤرخ البريطاني “جيمس جول” في كتابه “أوروبا منذ 1870” أن “أحد العوامل التي هيّأت الأرضية للحرب العالميّة الأولى كان إيمان الحكّام الأوروبيين في ذاك الوقت بالداروينية”[10]. وهو ما يدعمه قول داعية السلام “وليم جينينجز”: “لقد مهدت الداروينية لإرساء حجر الأساس لأكثر الحروب دموية في التاريخ”[20]. مضاف إليه تصريح “ويليام راسكو” في خطابه أمام الجمعية التاريخية الأميركية: “لو لم يُجنّ الألمان بنظرية البقاء للأصلح، لما دخلوا الحرب من الأساس، أو على الأقل لم تكن لتبلغ حجمها الضخم هذا”[21].
من هذا المنطلق اكتسبت الإبادة العرقية منهجها النظري، وقد روى “وايكارت” عن “رودولف كرونار” قوله إن مفتاح التقدم هو إبادة الأجناس الدنيا الذين وقفوا في طريق الثقافة والحضارة المتقدمة؛ لأنهم كانوا -حسب زعمه- غير قادرين عقليا على تبني ثقافة أسمى. علاوة على ذلك، كما يضيف “وايكارت” أيضا، فقد جادل عدد من المفكرين الداروينيين الاجتماعيين بأن الإبادة العرقية، حتى لو نُفِّذت بوسائل دموية، ستؤدي في النهاية إلى تقدم أخلاقي للبشرية.
ويجادل “وايكارت” أن هذا التوجه نحو الإبادة لم يكن حكرا على الألمان في سلوكهم نحو الأعراق المبادة، بل كان ذا تأثير كبير في أماكن أخرى أيضا، فيذكر أن “هربرت جورج ويلز” قد جسّد موقفا داروينيا اجتماعيا -أنجلوأميركي- عندما قال: “التصرف المنطقي العقلاني الذي يتعين القيام به تجاه الأجناس المتدنية فعلا هو إبادة تلك الأجناس”[22]. ذلك لأن حق الأقوى، كما قال الجيولوجي الدارويني “فريدرش روله”، لا يخضع للأخلاق[3].
كما يرى “المسيري” أن الفكر الصهيوني، مثله مثل الفكر النازي، كان ترجمة للرؤية الداروينية، فالصهاينة قاموا بغزو فلسطين “باسم الحقوق اليهودية المطلقة التي تَجُبّ حقوق الآخرين، كما أنهم جاءوا إلى فلسطين ممثلين للحضارة الأوروبية ويحملون عبء الرجل الأبيض، وهم -نظرا لقوتهم العسكرية- يحملون مقدرة أعلى على البقاء”، لذا فإن ما فعلوه في أرض فلسطين من جرائم إبادة “هي أمور شرعية تماما من منظور دارويني علماني، بل وواجبة”[2]. بل إن المفكر الإسرائيلي “إيال وايزمان”[23] ذكر أن ما تفعله الحكومة الصهيونية من فصل عنصري بين مستوطنيها وبين الفلسطينيين يُلقي بظلاله على هذا التصور الذي يرى في عرب فلسطين جنسا مغايرا أدنى لا يحق له البقاء، ويتقاطع هذا بالطبع مع النصوص التلمودية في نظرتها للآخر غير اليهودي.
على أي حال، وكما يقول “ريتشارد وايكارت”، فربما لم تنتج الداروينية وحدها الهولوكوست أو غيرها من أشكال الإبادة والعنف المقصود تجاه جنس/عرق بعينه، كذا فلا يُشتَرَط في كل دارويني أن يكون عنصريا بهذا الشكل، لكن يبقى المحك الحقيقي حول النظرية نفسها، فبدون الداروينية، خاصة تفرعاتها من داروينية اجتماعية وتوجهات التحسين المستقبلي للعرق، لم يكن لـ”هتلر” -وغيره- وأتباعهم “الأسس العلمية الضرورية لإقناع أنفسهم وأعوانهم بأن إحدى أعظم الفظائع المرتكبة في العالم كانت بالحقيقة محمودة أخلاقيا”؛ ذلك لأن الداروينية، أو على الأقل بعض تأويلاتها، نجحت في قلب ميزان الأخلاق رأسا على عقب”[3].
——————————————————————
الهوامش:
أ- التاريخانية: هي الفكرة القائلة إن كل شيء في تحول دائم وأي مفهوم يمكن فهمه كجزء من العملية التاريخية.
ب- المصادر الألمانية، وأغلب المصادر الإنجليزية، مستفادة من دراسة “ريتشارد وايكارت”/ من دارون إلى هتلر.. الأخلاق التطورية واليوجينيا والعنصرية في ألمانيا.
المصادر
- 1Hickman, R., Biocreation, Science Press, Worthington, OH, pp.-51-52,-1983;-Jerry-Bergman,-“Darwinism-and-the-Nazi-Race-Holocaust”, Creation-Ex-Nihilo
- 2عبد الوهاب المسيري، الفلسفة المادية وتفكيك الإنسان.
- 3ريتشارد وايكارت،-من-داروين إلى هتلر، ترجمة جنات جمال ويسرا جلال.
- 4Charles Darwin, Autobiography.
- 5Haeckel, Weltrathselm, 165; Ernst Haeckel to Arnold Dodel.
- 6Carneri, Sittlichkeit und Darwinismus, 7, 275.
- 7Arnold Dodel, Aus Leben und Wissenschaft.
- 8Willibald Hentschel to Christian von Ehrenfels, n.d, in Christian-von-Ehrenfels-Papers.
- 9Vom neuen Glauben: Bekenntnis der Deutschen Erneuerungs -Gemeinde.
- 10هارون يحيى، الأصل الأيديولوجي الحقيقي للإرهاب الداروينية و المادية.
- 11Max von Gruber, Vererbung, Auslese und Hygiene.
- 12ريتشارد داروين، أصل الأنواع.
- 13Eduard David, “Darwinismus und Soziale Entwicklung” in-Max Apel, ed.,-Darwin.
- 14Ernst Haeckel, Natürliche Schöpfungsgeschichte.
- 15طارق الديب، اليوجينيا.. بشر حسب الطلب.
- 16Elof Carlson, Scientific Origins of Eugenics
- 17اليوجينيا.. فكرة قتلت عشرات الملايين دون رحمة.
- 18Helene Stocker, “Zur Emanzipation des Mannes”,-in Die-Liebe-und-die-Frauen, 2nd ed.
- 19زيجمونت باومان، الحداثة والهولوكوست.
- 20William Jennings Bryan, In His Image.
- 21Antonello La Vergata, Evolution and War.
- 22Diane B. Paul, Controlling Human Heredity.
- 23إيال وايزمان، أرض جوفاء.