المقالات

إسماعيل راجي الفاروقي.. مفكر في الغرب.. بأفكار الشرق

في الساعة الثانية والنصف من صباح الثلاثاء 27 مايو/أيار 1986م، ذهبت الدكتورة “لمياء الفاروقي” لتحضير طعام السحور لأسرتها، لليوم الثامن عشر من رمضان، فيواجهها متسلل مجهول من نافذة المطبخ بطعنات ترديها قتيلة على الفور، وهو ما كرره مع ابنتها التي هرعت إليها إثر سقوطها، لكن الصغيرة لم تلحق بأمها، لتروي بعد شفائها كيف كان هذا الغريب متعجلا في حركته، حتى انتهت رحلته المشؤومة إلى منزلهم بطعن أبيها الذي جذبه الصراخ إليهما دون تفكير[1].

بهذه الرواية كانت “أنمار الزين” تضع السطر الأخير في رحلة والدها، المفكر الفلسطيني “إسماعيل راجي الفاروقي”، التي بدأت في يافا قبل 65 عاما في أسرة ميسورة الحال، وتسرد الفصل الختامي لحياة رجل ناضل بعقله في أكثر من اتجاه، حتى كانت نهايته بسبب إحدى هذه الجبهات على يد دموية، اختلفت حولها الروايات، أودته وزوجته في دقائق بلا رحمة.

وقد كان “الفاروقي” رجلا موسوعيا يخوض بحار الفكر والأديان، ويبحر في نقد الصهيونية؛ حتى إن “المسيري” أثنى على إسهامه الفكري في ذلك الباب[2]، كما كان أستاذا لفلسفة الأديان بالعديد من الجامعات الأميركية، وقضى سنتين في كلية اللاهوت وتعرف عن قرب على الفكر الديني المسيحي في الغرب، وألف كتاب “الأخلاق المسيحية” (Christian Ethics)، بالإضافة إلى دراسته التأصيلية للإسلام، الأمر الذي شكل فكره وأثر بشكل واضح في تصوره الفكري ورؤيته الحضارية ومنهجيته وقراءته المعمقة للفكر الغربي وفلسفته وأصوله ومسلماته، وجعلته أكثر اتصالا ومعرفة بحقيقة ما يحمله النموذج المعرفي الغربي من قضايا وطروحات وتناقضات وإشكالات متباينة نعرض لبعض منها في هذه الدراسة من خلال وقوفنا على أدواته في التعامل مع النموذج الغربي”[2].

النشأة والبدايات

في أول أيام 1921م، كان القاضي الشرعي “راجي الفاروقي” يستقبل وليده “إسماعيل” الذي أراد له تعليما مدنيا أكثر حداثة وغربية من دراسة أبيه الشرعية، فألحقه بمدرسة الفرير الدومينيكان الفرنسية، والتي منحته الشهادة الثانوية في عام 1936م، ليلتحق بكلية الآداب والعلوم بالجامعة الأميركية في بيروت حيث حصل على بكالوريوس الفلسفة عام 1941م[3].

وفي الولايات المتحدة، حيث انتهت رحلته، حصل “الفاروقي” على درجتي ماجستير في الفلسفة العامة عامي 1949، 1951م، ليلحقهما بالدكتوراه عام 1952م عن الجوانب الميتافيزيقية والمعرفية للقيم الأخلاقية. لكن، وعلى الرغم من تحصيله الأكاديمي، استشعر “الفاروقي” نقصا في تكوينه المعرفي بسبب اقتصاره على الفكر الغربي، لذا قرر تطعيم هذا القصور، وتعويض ما حرم منه في صغره، بالانتقال إلى القاهرة، حيث قضى أربعة أعوام من التحصيل المعرفي داخل أروقة الأزهر الشريف ليكتمل له ما أراده من الموازنة بين الأصالة الدينية والتحديث الدنيوي[2].

ومع تطور النضج المعرفي، حمل “الفاروقي” أفكاره إلى الولايات المتحدة مجددا، حيث عمل أستاذا في فلسفة الأديان، كما أصدر عددا من المؤلفات باللغتين: العربية والإنجليزية، حول الفلسفة الدينية ومقارنة الأديان، بالإضافة إلى إسهامه الفكري في الصراع العربي الإسرائيلي بكتابه “الإسلام ومشكلة إسرائيل” (Islam and The Problem of Israel) الصادر باللغة الإنجليزية، والذي يذهب البعض، في إحدى الروايات، إلى اعتباره -هو وباقي مؤلفاته في ذلك الصدد- السبب الرئيسي لحادثة السابع والعشرين من مايو/آيار[1].

التوحيد ومضامينه في فكر الفاروقي

عند التعرض لنموذج الفاروقي في المنظور الحضاري، فإننا لن نغفل حجم التفاعل الذي تم بينه وبين الحضارة الغربية، إذ قضى سنتين في كلية اللاهوت وتعرف عن قرب على الفكر الديني المسيحي في الغرب، بالإضافة إلى دراسته التأصيلية ودراسته للإسلام والعلوم الشرعية في الأزهر الشريف.

وقد أثر ذلك التفاعل على التكوين العقلي والمنهجي للفاروقي حيث جمع بين بعدين رئيسين: الفلسفي والشرعي، وفي ضوء هذا التكوين تشكل “ما يمكن أن نسميه “العقل الفاروقي”، الذي انشغل بالهم الإسلامي من خلال أفق يتسم بالرحابة والتأمل الصادق والإنجاز الإيجابي الملموس والبصيرة الحضارية”[2].

وعلى الرغم من معايشته لهذا النموذج “فإنه لم يقع في أسره؛ بل نظر إليه نظرة نقدية من واقع نموذجه المعرفي التوحيدي الذي اتخذه ميزانا يمكن أن يزن به أي نماذج أخرى[2]، ففي كتابه “التوحيد ومضامينه على الفكر والحياة” يشرح الرجل من خلال عدد من المساحات الفكرية والمجتمعية كيف يمكن للتوحيد أن يشكل رؤية الفرد الموحد ويصنع له نموذجه الفكري والمعرفي تجاه العديد من الأمور.

  فالتوحيد كجوهر للخبرة الدينية[4]، يعني “مركزية مفهوم الله بالنسبة للمسلم في كل مكان، وفي كل فعل، وفي كل فكرة، وفي كل زمان”[5]، ويترتب على هذا التصور أن الذات الإلهية هي المنتهى الأخير المطلق ومصدر الأساس القيمي لكل ما في الوجود، فالخبرة الدينية الناتجة عن التوحيد منشغلة بإله واحد فرد صمد ليس كمثله شيء، إرادته لا معقب عليه ، وهادية لكل جوانب الحياة[5].

 

ثم ينتقل الفاروقي إلى التوحيد بوصفه جوهرا للإسلام، ومن ثم جوهرا لحضارته، إذ إن عبارة التوحيد “لا إله إلا الله” تعبر عن معان على المستوى القيمي، أولها أن يملأ الإنسان الكون بالقيمة عبر الرؤية والفعل الأخلاقيين، وثانيها أن الإنسان لا يواجه في هذه الحياة مأزقا أو خطيئة موروثة يمارس حياته للخلاص منها، كما تصور الحياة في الرؤية المسيحية.

وهو هنا يلتقي مع نموذج “بيغوفيتش” الداعي لممارسة الحياة تأسيسا على الإسلام لا اعتزالها[6]، ويرى أن الدعوة إلى ترك الاشتغال الدنيوي هي دعوة مظهرية فارغة ومزيفة. فالتوحيد يدعو بني آدم إلى الفلاح، لا إلى الخلاص، ويعدهم بالثواب في هذه الحياة الدنيا وفي الآخرة بقدر يتناسب مباشرة مع أعمالهم[4].

وفي جانب التاريخ، يرى “الفاروقي” أن التوحيد يحمل تأثيرا على حركة التاريخ وتصور الإنسان المسلم له، فهو يصرح بأن الإسلام يتوقع من المسلم تدخله في سير الزمان والمكان[4]، “فلا مناص أمام المسلم بعد أن يشهد بعبوديته لله وحده ويكرس نفسه وحياته وكل طاقاته لعبادته ويسلم بوجوب تفعيل الإرادة الإلهية في هذه الحياة”[5].

كما إن المسلم لا ينبغي له “أن يعيش حياة الخلوة والرهبنة، إلا على سبيل التمرين على ضبط النفس وتحقيق الانضباط الذاتي. وحتى في هذه الحالة، فإنه إن لم توصله مثل هذه الرياضة إلى غايته بتحقيق نجاح أكبر في تحويل المكان/الزمان، فإنها تعتبر عملا محبطا من قبيل التمركز اللاأخلاقي حول النفس؛ لأن الهدف منها في تلك الحالة سيكون هو اعتبار التحول الذاتي غاية بحد ذاته، وليس مجرد استعداد لتحويل العالم إلى ما يشبه النموذج الرباني”[5].

بين نموذجين.. التثقيف والمعرفة

يعتبر “الفاروقي” من أوائل المهتمين بتمحيص الأسس الفلسفية التي تأسست عليها المعرفة الغربية ومقارنتها بالأسس الإسلامية، وخلص من خلال المقارنة في كتابه “التوحيد” إلى أن هناك اختلافات لا مجال لإنكارها تجعل من التسليم الإسلامي المطلق للمعرفة الغربية أمرا متعذرا، وهذه الاختلافات تتبدى في الاعتقاد الغربي بأحادية العلم في الحقائق وعدم اعترافه بالغيب/الوحي كمصدر للمعرفة، وأن العلم هو ما يتعلق فقط بالحقائق الموضوعية التي ترصدها الحواس، وأنه يخلو من أي موجهات أخلاقية أو قيمية، وأن غايته القصوى إشباع الحاجات المادية لبني البشر وتحقيق سعادتهم دون أن يعنى بالارتقاء بهم.

وعلى النقيض من ذلك فإن المعرفة الإسلامية التي تتأسس -حسب الفاروقي- على مبدأ “وحدة الحقيقة” تعني أن الله هو مصدر المعرفة، وأنه ليس ثمة تعارض بين الوحي من جانب وبين العقل والعلم من جانب آخر؛ فالعقل هبة من الله للإنسان وتقع على عاتقه مهمة مزدوجة هي استيعاب الوحي واكتشاف الأسباب والسنن الكونية.

ويذهب “الفاروقي” إلى أن ما يحول بين العلم الإسلامي وبين الانزلاق إلى ما انزلق إليه العلم الغربي من إنكار لوجود الإله هو كونه يعمل في إطار من القيم والأخلاق المستمدة من الوحي مصدر العلم والمعرفة؛ ونظرا لأخلاقيته فهو يرتبط بالجماعة والأمة، إذ الأخلاق هي مجموعة ضوابط تنظم علاقة الفرد بالمجموع العام، ولا يمكن أن يكون مجال تطبيقها الدائرة الفردية وحسب.

ولم يكن التكوين المنهجي “للفاروقي”، والذي استطاع فيه الجمع بين النموذج المعرفي الغربي والأصالة الشرعية للتراث الإسلامي، جاذبا له نحو الغرب بالانبهار أو الانسلاخ من هويته، وهو الأمر الذي تطرق إليه بنفسه، فمع تأكيده على انفتاح ثقافتنا وحضارتنا الإسلامية على التراث والمنجزات العلمية البشرية، لكنه يحدد طبيعة هذا الانفتاح وشكله بأنه انفتاح واع لا انفتاح المنبهر المأسور، عن طريق إتقان العلم والهيمنة عليه والإلمام التام والتفهم الكامل لكل ناحية من نواحيه[2].

كما دعا الرجل لدراسة النموذج المعرفي الغربي لتفنيد المقولات التي أطلقها الغرب على نفسه وروج لها بقوة، كعالمية الغرب ومركزيته الكونية وحيادية علومه وموضوعيتها، ومطلقية طريق نهضته وتقدمه، وأحادية ميزان التأخر والتقدم كما صورها هو، وهي المقولات التي تفندها الدراسة المتعمقة، لتكشف تناقضها مع نفسها أو تناقضها مع النموذج المعرفي الإسلامي[2].

فيرى “الفاروقي” أن جيله هو الذي اكتشف هذا التناقض عندما عاشه في حياته الفكرية، فيقول: “على أن العذاب النفسي الذي ولده هذا التناقض فينا جعلنا نستيقظ مرعوبين ومدركين تماما ما تتعرض له الروح الإسلامية من انتهاك في جامعات العالم الإسلامي. ولهذا فنحن ننبه العالم الإسلامي إلى هذا الشر، ونسعى ولأول مرة في التاريخ إلى تطوير خطة توقف سريانه وانتشاره، وتتصدى لنتائجه، وتعيد التعليم الإسلامي إلى نهجه القويم”[6].

 

كانت تلك هي الأجواء التي تم خلالها إنشاء “المعهد العالمي للفكر الإسلامي” بواشنطن عام 1981م الذي ترأسه الدكتور “الفاروقي” منذ إنشائه وحتى وفاته عام 1986م، وذهب مؤسسو المعهد إلى أن الأزمة التي تعاني منها الأمة “هي أزمة فكرية، وأن الأزمات السياسية والاقتصادية والاجتماعية ما هي إلا تجليات لهذه الأزمة الأم[3]. وقد قدم المعهد موقف النقد الموضوعي للمعرفة الغربية، كما أنه تبنى إستراتيجية أو خطة مقترحة للعمل عرفت باسم “إسلامية المعرفة” نظر لها “الفاروقي” فيما بعد.

وكان “الفاروقي”[7] يرى أن خطة التقويم المعرفي تبدأ من التعليم الأولي عن طريق إعادة تأسيس النظام التعليمي الراهن على نحو يكفل القضاء على الازدواجية التي تقسمه إلى نظامين أحدهما إسلامي والآخر علماني، واعتماد نظام موحد يحل محلهما يضم العلوم الحديثة إلى جانب مبادئ العلوم الشرعية، الأمر الذي يحافظ على التوازن بين الإلمام بالتطور المعرفي والتثاقف مع الغرب، وفي الوقت نفسه يحفظ الأصالة الإسلامية للطالب وتعريفه بتاريخه وجوهر حضارة أمته على نحو يجعله في منأى عن التأثر السلبي بالأفكار الوافدة.

كذلك قضى “الفاروقي” حياته الفكرية في محاولة لوزن الكفة بين المعارف الغربية والتراث الشرقي الإسلامي، عن طريق التعليم تارة، ومن خلال كتاباته تارة أخرى، ليرحل بعد 65 عاما من رحلته رفقة زوجته، الدكتورة “لمياء”، التي كانت متخصصة بدورها في الفن الإسلامي، تاركا وراءه إرثا معرفيا وثقافيا باللغة الإنجليزية لم يترجم منه إلا القليل، أبرزه كتاباه: التوحيد، وأطلس الحضارة الإسلامية.

وفي “إنديانا” بالولايات المتحدة، حيث استقر به المقام، تصدرت الدماء المشهد الختامي من حياته، تاركة وراءه عددا من التساؤلات والتأويلات، لكن في كل الأحوال كان صيف 1986م يحمل آخر الأنباء -المؤسفة- لرجل من الشرق حمل قضيته وأفكاره لعالم قضى فيه رحلته، وقضي فيه عليه.

   محرر: سامح عودة

سامح عودة

اترك تعليقاً