موقع البحث في التفكير البشري
بقلم: فتحي حسن ملكاوي
جاء لفظ البحث في القرآن الكريم مرةً واحدة بصيغة الفعل المضارع، في قوله تعالى: ﴿فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْءَةَ أَخِيهِ قَالَ يَا وَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَٰذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْءَةَ أَخِي﴾ (المائدة: 31). ويلفت النظر أنَّ ما أوردته معاجم اللغة لم يخرج عن المعنى الذي يتضمنه سياق الآية الكريمة؛ يبحث: يحفر بمنقاره ورجليه حفرةً في التراب، ويسأل ويفتش، فقد جاء في لسان العرب: البَحْثُ: طَلَبُكَ الشَّيْءَ فِي التُّرَابِ؛ بَحَثَهُ يَبْحَثُهُ بَحْثًا، وَابْتَحَثَهُ… الْبَحُوثُ مِنَ الْإِبِلِ الَّتِي إِذَا سَارَتْ بَحَثَتِ التُّرَابَ بِأَيْدِيهَا أُخُرًا، أَيْ تَرْمِي إِلَى خَلْفِهَا… وَالْبَحْثُ: أَنْ تَسْأَلَ عَنْ شَيْءٍ وَتَسْتَخْبِرَ. وَبَحَثَ عَنِ الْخَبَرِ وَبَحَثَهُ يَبْحَثُهُ بَحْثًا: سَأَلَ. وَكَذَلِكَ اسْتَبْحَثَهُ، وَاسْتَبْحَثَ عَنْهُ… اسْتَبْحَثْتُ وَابْتَحَثْتُ وَتَبَحَّثْتُ عَنِ الشَّيْءِ، بِمَعْنًى وَاحِدٍ أَيْ فَتَّشْتُ عَنْهُ.”1
وتفسير هذه الآية عند جميع كتب التفسير التي اطلعت عليها: الطبري، وابن كثير، والقرطبي، والخازن، والزمخشري، والبغوي، والسعدي، وابن عاشور، كان سرداً لما ورد عن حادثة قتل قابيل لأخيه هابيل، وجهله بفكرة دفن الجثة، حتى رأى غراباً يقتل غراباً آخر، ويقوم الغرابُ القاتلُ بحفر حفرة في الأرض ويدفن جثة الغراب المقتول، فيتعلّم قابيل عملية الدفن هذه. لكنَّ ابنَ عاشور في التحرير والتنوير بعد تفسيره الآية، يعلق على “العرض العملي التعليمي demostration” الذي يسَّره الله لابن آدم، فيقول: “وهذا المشهد العظيم هو مشهد أوَّلِ حضارة في البشر، وهي من قبيل طلب سَتْر المشاهد المكروهة. وهو أيضاً مشهدُ أوَّلِ علمٍ اكتسبه البشر بالتقليد وبالتجربة، وهو أيضاً مشهد أول مظاهر تَلَقِّي البشر معارفه من عوالم أضعفَ منه كما تشبَّه الناس بالحيوان في الزينة، فلبسوا الجلود الحسنة الملونة، وتكللوا بالريش الملون وبالزهور والحجارة الكريمة، فكم في هذه الآية من عبرة للتاريخ والدين والخُلُق!”2
ونحن نضيف شيئاً من التفكُّر في اللفظة القرآنية “يبحث”، ففي سياق المشهد التي تصفه هذه الآيات إيحاء بالكثير من دلالات جهود البحث المعروفة؛ فإذا كان الغراب يبحث في الأرض (أي يحفر) بمنقاره ومخالبه ليصنع حفرةً يدفن فيها الغراب المقتول، فإننا نستطيع أن نتخيل طبيعة هذا العمل الشاق، الذي يتطلب بذل الجهد اللازم للحصول على حفرة بحجم مناسب وتجميع التراب على جوانبها استعداداً لوضع الجثّة في الحفرة، ثم دفنها بالتراب المتجمع على جوانبها. وفي دفن الجثة تكريم لها حتى لا تتعرض للنهش من كائنات أخرى، وحتى لا تتعفن وتخرج رائحتها، فتتلوث البيئة بما يكره من الروائح…
فعملية “البحث” في الأرض كانت تتم بوعي وقصد، وتصاحبها خطوات وإجراءات وأخلاقيات، وتتم في تسلسل معين، وليس خبط عشواء. ثم إن هذا العمل البحثي الشاق كان يستهدف حلَّ مشكلة حقيقية، كانت أول تجربة للإنسان على الأرض من نوعها. ولا شك في أنَّ الإنسان قد استفاد منها عندما تكررت هذه المشكلة، وطوَّر معها من أجل ذلك أدوات البحث، فبدلاً من استخدام يديه ورجليه في البحث في الأرض، استخدم غصن شجرة أو حجراً مدبباً، ثم صنع فأساً من الخشب والحجر ثم فأساً من المعدن، وربما أعدّ كفناً خاصاً للجثّة، وربما جهّز الجثّة وعالجها ببعض المواد التي اهتدى إلى وظائفها في حفظ الجثّة من التحلل والتعفن، وغير ذلك مما حفظته لنا وثائق التاريخ وبقاياه، وما تطور بعد ذلك وصولاً إلى ما نعرفه اليوم من أفكار وممارسات اكتسبها الإنسان بمواصلة البحث والاكتشاف.
وقد أفادنا هذا الفهم لكلمة “يبحث” في القرآن الكريم في تحديد مفهوم البحث العلمي وتعريفه: فالبحث جهدٌ بشريٌّ يهدف إلى حلَّ مشكلة، أو الإجابة عن سؤال، أو تطوير ممارسة، ويتمّ وفق إجراءاتٍ وأساليبَ محددة، وفي خطوات متسلسلة، وأخلاقيات حاكمة. وهذا يعني أنه يتطلب جهداً وعناءً يشبه الجهد الذي يبذله الإنسان في حفر قبر؛ وهو عملية منظمة تتم وفق خطوات وإجراءات وليس خبط عشواء، ويستخدم الباحث في بحثه الأدوات المناسبة، فلكل بحث أدواته، ثم إنَّ الأدوات في تطوُّر، فتصمم أدوات ووسائل جديدة تخدم البحث بصورة أفضل، وهو عمل هادف يعرف الإنسان ضرورة القيام به وفائدته. وهو عملٌ يتم وفق ضوابط أخلاقية تتوخّى الصدق والموضوعية في جمع البيانات وتتنظيمها وتحليلها وتوجيه نتائجها لما يفيد وينفع. ولذلك أصبح مصطلح البحث في دلالاته العلمية يتجاوز وصف الموضوع المبحوث بما هو فيه، إلى فهم ما هو عليه، وتفسيره، والتنبؤ بما ينتهي إليه، وربما التحكّم فيه لضمان نفعه ودرء ضرره. فكلُّ ذلك من عمل البحث ومن غاياته.
ويلفت الانتباه أنَّ دلالة المصطلح في اللغة الإنجليزية نقلت معنى البحث search إلى تكرار البحث وإعادته re-search أي search again، لأنّ البحث مرةً واحدة قد لا يوصلنا إلى الهدف الذي كان من أجله البحث.
فالبحثُ لا يصل بالباحث إلى حد معين حتى يفتح له أبواباً جديدة لم تكن معروفة له من قبل، فهو سعي بشري متصل، سعي بشري خاص، يتضمن -فيما يتضمنه- وضع خطة للبحث فيها الهدف والإجراءات والأدوات والضوابط، ثم تنفيذ هذه الخطة بإجراء البحث، الذي ينتهي بنتائج محددة، ويتم تفسيرها ومعرفة دلالاتها وتطبيقاتها، والأسئلة التي تثيرها. فتكون هذه الأسئلة موضوعاً لاستمرار ذلك السعي البشري، بحثاً عن إجاباتٍ لهذه الأسئلة. وهكذا فإن واحداً من أهم نتائج أي مشروع بحثي هو ما يؤدي إليه من ثغرات في الفهم، وتساؤلات لم تكن في البال، وقضايا مستجدة لم تكن مثارة من قبل، مما يعني أن سعي الإنسان في اكتساب المعرفة لا يتوقف. وقد يكون ذلك مما تشير إليه الآية الكريمة: ﴿لَقَدْ خَلَقْنَا الإنْسَانَ فِي كَبَدٍ﴾3
أليس بهذا الكبد والسعي المتواصل في البحث والاكتشاف، كان تطور العلوم والمعارف في تاريخ الإنسان، وهو الأمر الذي لا يزال متواصلاً، يجد الإنسان فيه بعض ما يفيده، ويؤدي بحثه إلى بعض ما يضرّه، إلى أن ينتهي ما قدّره الله لحياته على هذه الأرض، ثم ينتهي به المطاف في الآخرة ليرى نتيجة سعيه في الدنيا، وتتبين له حقيقة قوله سبحانه: ﴿وَأَن لَّيْسَ لِلْإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَىٰ. وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَىٰ. ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الْأَوْفَىٰ﴾ (النجم: 39-41).
وإذا كنا قد توقفنا –فيما سبق- عند مصطلح “البحث” اعتماداً على الفعل “يبحث” كما ورد في القرآن الكريم، فإنَّ مفهوم البحث في القرآن الكريم أوسع بكثير من الدلالة اللغوية للمصطلح؛ فالبحث يتضمن عملية اكتساب العلم والمعرفة، من مصدرين أساسيين حدَّدهما القرآن الكريم؛ وذلك في حديثه عن الآيات المقروءة التي تقدم للإنسان أصول الاعتقاد والأحكام والتوجيهات التي تتحقق بها مصالحُ الإنسان ومقاصدُ وجوده وحياته، وعن الآيات المنظورة التي تعين الإنسان في اكتشاف سنن الوجود وفهمها ومراعاتها، وتوظيفها في بناء العمران والحضارة. وحدّد القرآن الكريم وسائلَ اكتساب العلم والمعرفة من هذه المصدرين، بوسيلتين أساسيتين هما الحواس والعقل، فبهما –معاً- يحصل التفكّر والتذكّر والتدبّر، فيما تُوَجِّه إليه الآيات المقروءة والمنظورة. لذلك نجد القرآن الكريم يُكثر من دعوة الإنسان إلى السير والنظر، وإعمال منافد الحس البشري من سمع وبصر، وإعمال أداة التعقل والتفكر من قلب وفؤاد.
وإذا كنا نفهم من القرآن الكريم ضرورة بناء التكامل بين المصدرين من جهة، والتكامل بين الوسيلتين من جهة أخرى، فإننا نفهم منه كذلك أنَّ البحثَ في مجالات العلم والمعرفة يتضمن إقامة الترابط والتكامل بين المصدرين والوسيلتين. وقد جاءت الآيات القرآنية في التوجيه إلى المصادر والوسائل بصور متعددة، منها: التوجيهات والأوامر المباشرة: ﴿قُلْ سِيرُوا﴾، ﴿قُلِ انْظُرُوا﴾؛ ومنها الاستفهام التقريري، ﴿أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا﴾، ﴿أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا﴾؛ والاستفهام الإنكاري: ﴿أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ﴾، ﴿أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ﴾؛ ومنها تحديد الغاية: ﴿لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ﴾، ﴿لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ﴾، ﴿لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ﴾، وغير ذلك من أساليب الدعوة إلى استعمال الحواس والتفكر والتدبر في أحداث التاريخ، وآفاق النفس، ومشاهد العالَم الطبيعة والاجتماعية، من مثل قوله تعالى: ﴿أَفَلَا يَعْقِلُونَ﴾، ﴿قُلْ أَرَأَيْتُمْ﴾، ﴿أَفَلَا تَسْمَعُونَ﴾، ﴿أَفَلَا تُبْصِرُونَ﴾، ﴿أَوَلَا يَعْلَمُونَ﴾.
ومن أساليب القرآن الكريم في التعلّم واكتساب المعرفة وصف المواقف والمشاهد والقصص، وأحياناً بقدر من التفصيل في كيفية حدوث الأشياء، كما في تكوّن الجنين في بطن أمّه، وفي نشأة النبات، وكيفية حل المشكلات الاجتماعية، كما في حالات الخلاف بين الزوجين، والمشكلات السياسية، كما في قصة ذي القرنين وبنائه سداً أملساً وعالياً باستعمال الحديد والنحاس.
ومن هذه الأساليب تعليم ما يختص بالتعامل بين الناس في شؤون المال والتجارة والديون والرهن وغيرها، فأطول آية في القرآن الكريم كانت آية الدين التي تقدم تعليمات تفصيلية لما يجب عمله لحفظ الحقوق، والتنويه بأمر الكتابة والكاتب تسع مرات في الآية الواحدة.
والإنسان -بالمقارنة مع الحيوانات- فريدٌ في خَلْقه وأشكال حياته، ولا سيما في قدرته على البحث والاكتشاف والتغيير والتطوير. وهو كائنٌ بَحَّاثةٌ؛ لا يكفُّ عن البحث، ولا يكتفي في بحثه عن ظواهر الأمور، وإنما يحاول البحث في العمق والتفاصيل، فالعقل الذي يتميز به عن المخلوقات الأخرى يمكّنه من الوعي بذاته، والوعي بمحيطه، والقدرة على الفهم والإدراك والتفكُّر، وبحثه لا يقتصر على الأشياء وخصائصها وتغيراتها وفوائدها، وإنما يبحث في الأفكار، ويقلِّب الرأي فيما هو منها صواب أو خطأ. وهو يعبّر عن نتائج بحثه، بأساليب الاتصال والتخاطب اللغوي بالكلام المنطوق والخط المكتوب، وتطوير هذه الأساليب باستمرار. وبهذه الفرادة وهذا التميّز تمكّن الإنسان من إقامة المجتمعات البشرية، واستعمار الأرض وتسخير كثير من طاقاتها، وتمكّن في وقت مُبكِّر من الوجود البشري على الأرض، من تشييد حضارات يعجب أبناء هذا الزمان بعد عشرات القرون من درجة رقيّها وتقدّمها في بعض الجوانب.
أما الحيوانات فقد زوّدها الخالق سبحانه بما يمكنها من أداء مهمتها في حياتها، وعبّر القرآن الكريم عما زوَّدها الله به بمفهوم “الهداية”. وقد ذكر ابنُ القيم في معنى الهداية مما يختص بالحيوان، فقال: والهداية لها أربع مراتب، وهي مذكورة في القرآن: المرتبة الأولى: الهداية العامة، وهي هداية كلِّ مخلوق من الحيوان والآدمي لمصالحه التي بها قيام أمره. قال الله تعالى: ﴿الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى﴾ (الأعلى: 2-3). فذكر أموراً أربعة: الخلقة والتسوية والتقدير والهداية، فسوّى ما خلقه، وأتقنه وأحكمه، ثم قدّر له أسباب مصالحه في معاشه وتقلباته وتصرفاته، وهداه إليها، والهداية تعليمٌ، فذكر أنه الذي خلق وعلّم. كما ذكر نظير ذلك في أول سورة أنزلها.4 وقال تعالى حكاية عن عدوِّه فرعون أنه قال لموسى: ﴿قَالَ فَمَن رَّبُّكُمَا يَا مُوسَىٰ. قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَىٰ كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَىٰ﴾ (طه: 49- 50).5
ولأن العقل كان مناط التكليف عند الإنسان، فهذه الحيوانات غير مكلفة؛ لأنّ الله عزّ وجلّ لم يزودها بالعقل، لكنها أُعطِيت من التمييز والإدراك ما تقوم به حياتُـها، وما سُخِّرت له من منافع الإنسان، بهداية عامة غريزية، تُـميّز كلَّ نوع حيواني منها بما يناسبه، وبسلوك خاص؛ صوتاً، وحركة لا يتغير ولا يتطور من جيل إلى جيل آخر. فلا يقوم الحيوان بسلوك غير الشيء الذي طبعه الله عليه، لا يفارقه ولا يتخلَّف عنه.
ونستثني من ذلك أنَّ بعض الحيوان يمكن أن يتعلّم شيئاً فيتميز الفرد منه بما يتعلمه عن غيره من أفراده التي لا يتاح لها التعليم، فكلب الصيد والحرث والحراسة يتعلم ما يُعملِّه الإنسانُ لأغراض محددة. قال تعالى: ﴿قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَمَا عَلَّمْتُم مِّنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ﴾ (المائدة: 4). ويكون هذا التعليم لأغراض الصيد في الكلاب والصقور وغيرها. ويكون لغيرها من الحيوانات التي يتم تدريبها للقيام بحركات معينة كما في الدلافين، والأسود، والفيلة، والخيل، وطير الحمام، والببغاء، وغيرها. وسلوك الحيوان مدعاة للعجب في التوالد والتغذية والهجرة وبناء البيوت والتخاطب بالأصوات والحركات وغير ذلك، وتحدث منه بطريقة لا نرى فيها ظاهرة البحث أو التعلم. ونعجب من دقة ما تنتجه بعض الحيوانات؛ فالعنكبوت يبني بيته بمهارة فائقة، والنحل يبني خلاياه ويجمع عسله بإتقان مدهش، وكلُّ ذلك في الحيوان هو ما جعله الله في طبيعته المخلوقة، التي تتكّرر في الزمان والمكان دون تغيير. لكنّها لا تماثل وعي الإنسان بذاته وبمحيطه وقدرته على التفكير والبحث وتطوير العلوم وبناء الحضارة.
وقد بدأ هذا الوعي وهذه القدرة في الإنسان من بداية وجوده على الأرض، لكن صورة الإنجاز تختلف اختلافاً كبيراً مع مرور الزمن، فالعلوم والمنشآت الحضارية التي عرفها الإنسان كانت تتجدّد وتتغير وتنمو وتتطور من جيل إلى جيل، وهو تطور وتغير هادف يتم بالبحث والاكتشاف والاختراع بصورة متواصلة ويتم عن وعي وإدراك.
وليس صحيحاً أنَّ الطرق التي استعملها الإنسان في البحث وتحصيل المعرفة تطورت تاريخياً في مراحل متتابعة يحددها أوغست كونت مثلاً بالمرحلة الحسية أو الخرافية، ثم الفلسفية الميتافيزيقية، ثم العلمية التجريبية الحديثة.6 فالآثار الباقية من الحضارات القديمة، في الصين والهند واليونان ووادي النيل وبلاد الرافدين، تشير إلى إنجازات لا نزال نطلق على بعضها –على الأقل- اسم العجائب. ونحن نرى الآن أن الإنسان – حتى في أيام طفولته- فضوليٌّ بطبعه، يرغب في المعرفة ويلحّ في السؤال، ويبحث ويتعلّم بأكثر من طريق. والكتب الدينية القديمة جميعها تحمّل الإنسان المسؤولية عن أعماله، وتفرض عليه صحة الفهم وممارسة البحث والتفكير والاكتشاف، وحتى عندنا يُطلب إليه اتّباع التعليمات فإنه يقوم بذلك بفهم ووعي بالنتائج.
وليس صحيحاً كذلك ما يُصرّ عليه كثيرٌ من الباحثين من أن الإنسان بدأ حياته عاجزاً عن التفكير، وأن أعماله كانت استجابات انعكاسية لمثيرات خارجية أو داخلية، أما المنهج العلمي في البحث والتفكير واكتساب المعرفة الموثوقة فلم يبدأ إلا من فرانسيس بيكون عندما ألّف كتابه في قواعد المنهج التجريبي وخطواته في أوائل القرن السابع عشر الميلادي.7 صحيح أنَّ الإنسان بدأ بخبرات ومعارف قليلة، أشارت الآية التي بدأنا هذا المقال بها، لكن ابن آدم كان يتعلم من البداية، حين أدرك قيمة ما رآه من عمل الغراب، وتعلّم منه درساً مهماً، واصل بعده البحث في تطوير ما يختص بذلك الدرس، وأدرك الأخطاء التي ارتكبها، “فأصبح من النادمين.”
الهوامش:
1. ابن منظور، أبو الفضل، جمال الدين محمد بن مكرم (توفي711ه). لسان العرب، بيروت: دار صابر، ط3، 1414ه، المجلد الثاني، ص114-115.
2. ابن عاشور، محمد الطاهر. تفسير التحرير والتنوير، تونس: الدار التونسية للنشر، 1984، ج6، ص 174.
3. وقد تحدث الفخر الرازي في تفسير قوله تعالى: ﴿لَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان فِى كَبَدٍ﴾، فقال: “وهو أنه ليس في هذه الدنيا لذة البتة، بل ذاك يظن أنه لذة فهو خلاص عن الألم، فإن ما يتخيل من اللذة عند الأكل فهو خلاص عند ألم الجوع، وما يتخيل من اللذات عند اللبس فهو خلاص عن ألم الحر والبرد، فليس للإنسان، إلا ألم أو خلاص عن ألم وانتقال إلى آخر، فهذا معنى قوله: ﴿لَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان فِى كَبَدٍ﴾ انظر ذلك في:
– الرازي، فخر الدين محمد بن عمر بن الحسن التيمي البكري، المشتهر بابن خطيب الري (توفي606ه). تفسير الفخر الرازي المعروف بالتفسير الكبير ومفاتيح الغيب، بيروت: دار الفكر، ط1، 1981م، ج31، ص182.
4. يشير ابنُ القيم بذلك إلى الآيات الخمس الأولى من سورة العلق: ﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ. خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ. اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ. الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ. عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ﴾ (العلق: 1-5).
5. ابن قيم الجوزية، أبو عبد الله محمد بن أبي بكر (توفي 751ه). مفتاح دار السعادة ومنشور ولاية العلم والإرادة، تحقيق عبد الرحمن بن حسن بن قائد، مكة المكرمة: دار عالم الفوائد، 1432ه، ج1، ص234.
6. Durant, Will. The Story of Philosophy. New York: Simon and Schuster, 1953, p.266
7. Bacon, Francis. The New Organon, Edited by Lisa Jardine & Michael Silverthorne. Cambridge,UK: Cambridge University Press, 2000 (Cambridge Texts in the History of Philosophy).
– انظر مقدمة المحررين وخاصة صxxv وانظر أيضاً رسالة فرانسيس بيكون إلى الملك James ملك بريطانيا آنذاك الذي أهدى المؤلف الكتاب إليه، وذلك حين يقول: “إنّه بصراحة يعدّ هذا الكتاب ميلاد الزمن وليس الذكاء”. ويعيد الفكرة نفسها مشيراً أن “ثمّة مشكلات عديدة جعلت الناس يتشبثون بمعتقداتهم قروناً طويلة، ولأسباب عديدة، جعلت من غير المستغرب أن فهمنا الجديد هذا لم يطرق بال الناس، وبقي خفيّاً حتى الآن.. إنّه أخيراً خطر على بال رجل ودخل عقله. وذلك على سبيل الحظ السعيد، وليس الذكاء المتميزّ، لذلك يمكن اعتبار هذا المنهج بمثابة ولادة للزمن وليس نتيجة للذكاء.” ص64