التكامل والتوازن في الاتِّباع والإبْداع في الفكر التربوي الإسلامي
بقلم: فتحي حسن ملكاوي
التكامل في الفكر التربوي الإسلامي هو خاصيَّة يتناول فيها هذا الفكر الجوانبَ المختلفة المكونة لشخصية الإنسان بالقدر المناسب من موضوعات التربية، وبالأساليب والوسائل المناسبة لكلِّ مكوِّن ولكلِّ موضوع، بالاعتماد على أنّ هذه المكونات والموضوعات يرتبط أحدها بالآخر، ويؤثِّر فيه. ولكنَّ أحداً منها لا يغني عن غيره في تعريف شخصية الإنسان وهويته. فشخصية الإنسان هي كلٌّ متكاملٌ بصورة لا يسهل تفكيكه إلى مكوناته، إلا لأغراض تسهيل دراسته. والتكامل في المعالجة التربوية لا يعني التساوي في الكم أو التشابه في النوع بالضرورة، وإنَّـما يعني توفير الفكر التربوي والممارسة التربوية التي تؤدي الغرض، وتشبع الحاجة.
ويـختص التوازن في الفكر التربوي الإسلامي بالمقادير والأبعاد النسبية لعناصر كلِّ صفة من الصفات التي نودُّ لهذا الفكر أن يصوغها، بحيث لا تزيد لتصل إلى حدِّ الإفراط ولا تنقص لتصل إلى حدِّ التفريط. وإنَّـما يتوفر في الصفة ما يلزمها بتوسط واعتدال. ويسمح هذا التوازن بتوظيف ما يتميز به شخص عن آخر في صفة من الصفات، على سبيل التخصص. ثـمَّ إنّ خاصية التوازن كما هي صفة أصيلة في كلِّ ما خلق الله سبحانه فإنَّـها كذلك تقوم على الطبع والفطرة البشرية.
أولاً: الاتِّباع في القرآن الكريم
لا نريد في هذا المقام استقصاء لفظ الاتباع وما يرتبط به من معان، بل نكتفي بالإشارة إلى أن الاتباع لفظٌ قرآنيٌّ حكيم توجَّه للإنسان منذ بداية خلقه، حين طلب الله سبحانه من الإنسان أن يهبط إلى الأرض ليسكنها، ووعده أن يرسل إليه ما يهديه من تعليم يلزمه في سكنى الأرض وإعمارها: ﴿قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَىٰ﴾ (طه: 123) فما على الإنسان إلا أن يتّبع هدى الله حتى يتجنّب أن يضِلَّ عن غايته في الدينا، أو يشقى في الآخرة. وتوالت دعوة الإنسان إلى اتِّباع ما أنزل الله على رسله وفي كتبه. ﴿اتَّبِعُوا مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ وَلَا تَتَّبِعُوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلًا مَّا تَذَكَّرُونَ﴾ (الأعراف: 3)، ووصاه باتباع صراط الله المستقيم، وتجنّب أي سبل أخرى: ﴿وَأَنَّ هَٰذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ﴾ (الأنعام 153)، وحذَّرهم من اتِّباع أهواء الضالّين والمضلّين، ﴿وَلَا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِن قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَن سَوَاءِ السَّبِيلِ﴾ (المائدة: 77).
وفي القرآن الكريم ألفاظ تتصل بالاتِّباع، منها التأسِّي والاقتداء: فالذين يرجون فضل الله يوم الحساب في الآخرة هم فئة ممن كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أسوةً حسنة لهم. ولأنَّ النبيَّ بشرٌ تحيط به الأحوال والظروف ما يحيط بالبشر، فإنَّ بالإمكان التأسِّي به، لـِما يراه الناس من شؤونه وسلوكه في حياته، وما كان لهذا التأسِّي أن يتم لو كان الرسول ملَكاً من الملائكة.
وللمؤمنين أسوة بنبي الله إبراهيم، ومن معه من الأنبياء أو المؤمنين، وقد أوحى الله لمحمد صلّى الله عليه وسلم أن يتبع ملّة إبراهيم عليه السلام. ولعلَّ المقصود هنا هو الاتباع في أصل الدين والتوحيد، وليس في الشريعة، فلكلِّ نبيٍّ جعل الله شريعةً ومنهاحاً. وفي الاقتداء جاء ذكر الأنبياء وما آتاهم الله من كتاب وحكم ونبوة، وهداهم الله إلى الدين الحق والصراط المستقيم، ثم عقب الله على ذلك بتوجيه القول إلى محمد صلّى الله عليه وسلم: ﴿أُولَٰئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ﴾ (الأنعام: 90). “أي: اقتد واتبع” فالاقتداء هنا يكون “بالعمل الذي عملوا، والمنهاج الذي سلكوا، وبالهدى الذي هديناهم” فاتباع النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، هو طاعته فيما جاء به من الاعتقادات، وما قاله أو أمر به من فعل أو ترك، والاقتداء والتأسِّي بأقواله وأفعاله، شريطة أن يكون كل ذلك عن نِيَّةِ الاتِّباع وقَصْدِه وإرادَتِه.
ونلاحظ أنَّ القرآنَ الكريم ربط بين الاتباع والهدى والصراط المستقيم. ﴿فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ﴾ (طه: 123)، ﴿وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ﴾ (الأنعام: 153)، فالاتِّباع ومعه التأسِّي والاقتداء يعني تأثر الإنسان بغيره، فيعتقد بمعتقده، ويأخذ بقوله، ويسلك سلوكه بقصد وإرادة. وعلى هذا جاء مفهوم التابعين، ﴿وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ﴾ (التوبة: 100). والتابعون هم الذين اتَّبعوا من سبقهم من الصحابة، واقتفوا أثرهم، وساروا على نهجهم، فكان ذلك سبباً في تقرير الفضل لهم. وكلُّ ذلك من الاتِّباع المحمود.
لكنّ القرآن الكريم بيّن أنَّ ثـمَّة اتِّباعاً لا يكون على هدى ولا علم ولا عقل، ومن هذا النوع من الاتِّباع حال من رفضوا اتِّباع ما أنزل الله، واتّبَعوا بدلاً من ذلك ما وجدوا عليه آباءهم، حتى لو كان آباؤهم لا يعقلون شيئاً ولا يهتدون، ومَثَلُ هؤلاء كمثل الصُّمِّ البُكْم الذين لا يعقلون: ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللّهُ قَالُواْ بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلاَ يَهْتَدُونَ. وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُواْ كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لاَ يَسْمَعُ إِلاَّ دُعَاء وَنِدَاء صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ﴾ (البقرة: 170-171) وفي مثل هذه الحالة من الاتِّباع تكون أعمال الطرفين؛ الذين اتَّبَعوا والذين اتُّبِعوا، حسرات عليهم يوم القيامة، وما هو بخارجين من النار: ﴿إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُواْ مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُواْ وَرَأَوُاْ الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأَسْبَابُ وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُواْ لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّؤُواْ مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ﴾ (البقرة: 166-167).
ثانياً: الاتِّباع والتقليد في التراث الإسلامي
وقد لا يختلف الاتِّباع عن التقليد في المعنى العام، كما أشار إلى ذلك الشاطبي في الموافقات في أكثر من موقع. فكما أنَّ الاتِّباع منه المحمود ومنه المذموم كما تبين ذلك في الاستعمال القرآني للفظ الاتِّباع، فكذلك التقليد قد يكون محموداً إنَّ كان على هدى وبصيرة، أو مذموماً إنْ كان بغير علم ولا هدى. لكنَّ ابنَ عبد البر يُـميِّز بين الاتِّباع والتقليد، ويرفض التقليد، وخصص لذلك باباً سماه: “باب فساد التقليد ونفيه، والفرق بين التقليد والاتِّباع.” وفسّر ذلك بأنَّ الـمُقلِّد إذا قال برأي غيره مع علمه بدليله، فإنَّ ذلك لا يُعدّ تقليداً، بل اتِّباعاً، وإذا قال برأي غيره دون معرفة الدليل فهو التقليد الممنوع. وذكر حديثَ النبيِّ صلّى الله عليه وسلم: “يذهب العلماء ثم يتَّخِذُ الناس رؤوساً جهالاً، يُسألون فيُفْتُون بغير علم فيَضلّون ويُضلّون.” وعقّب ابنُ عبد البر على الحديث بقوله: “وهذا كلُّه نفْيٌ للتقليد وإبطال له لمن فهمه وهُدي لرشده.” ثم نقل قولَ أبي عبد الله بن خواز بنداد: “التقليد معناه في الشرع الرجوع إلى قولٍ لا حجة لقائله عليه، وهذا ممنوع منه في الشريعة، والاتِّباع ما ثبت عليه حُجَّة.”
ولا شكَّ في أنَّ الأمَّة الإسلاميَّة هي أمَّة الاتِّباع لِـمَا جاء به الوحي الإلهي والهدي النبوي، ولِـمِا عَلِمْنا من سنة الراشدين المهديين، ولكنَّه اتِّباعٌ على علم وهدى وبصيرة، لأنَّ الـمُتَّبِع يرى الصراط المستقيم الذي سار عليه المهتدون قبله فيتَّبِعُهم عليه.
ثالثاً: الاتِّباع والتجديد بين الفطرة والضرورة
وتتَّصل ظاهرة الاتِّباع بالتربية والتعليم اتصالاً وثيقاً. فالأسرة في حياة البشر هي أقدم مؤسسة للتربية والتعليم، تؤدِّي مهمتها عن طريق الاتِّباع والتقليد. وكانت الأعراف الاجتماعية مصدراً للاتِّباع والتقليد، فالناس على مدار التاريخ يتَّبعون من سبقهم في كثير من الأمور، فاستعمال اللغة هو مسألة اتِّباع؛ لأنَّه يقوم أساساً على ما جرى الاستعمال اللغوي عليه في كلِّ أمة، جيلاً بعد جيل. وتُعرف الشعوب بأنـماط من السلوك في العاديّات من المطاعم والمشارب والملابس، اتِّباعاً وتقليداً، والشائع المعروف أنَّ الأبناء يتَّبعون الآباء غالباً في هذه الأمور، وفي غيرها من الانتماء الديني والمذهبي، وكثير من الممارسات الاجتماعية. لكنَّ ظاهرة الاتِّباع والتقليد لم تكن تمنع التغير والتطور في هذه الممارسات، فكلَّما تسببت بعض العوامل في نوع من الممارسة الجديدة، فإنَّـها لا تلبث أن تستقر حقبة من الزمن يسود فيها الاتِّباع والتقليد من جديد.
وعوامل التغيير لا تقتصر على العاديَّات من الممارسات الاجتماعية، وإنَّـما يدخل التجديد في فهم النصوص الدينية، وطريقة تنزيلها على الواقع المتجدّد لحياة الناس.
وتظهر الحاجة إلى التجديد في حالتين، الأولى حين يبتعد الناس بالتدريج عن الحالة العلمية والعملية للدين في أصل نزوله، وقد يرافق ذلك شيء من الانحراف في الفهم والممارسة، حتى يصبح الدين غريباً كما بدأ، فتظهر الحاجة إلى إصلاح ما فسد، والعودة بالفهم الأصيل حتى لكأنَّ الدين بدأ من جديد. كما ورد في الحديث “بَدَأَ الإِسْلاَمُ غَرِيباً، وَسَيَعُودُ كَمَا بَدَأَ غَرِيباً، فَطُوبى لِلْغُرَبَاءِ.” وثمة زيادة في رواية أخرى ذكرتها بعض كتب الحديث: قيل: يا رسول الله! من الغرباء؟ قال: الذين يُصلحون إذا فسد الناس.” ويتصل معنى الحديث النبوي بعملية التجديد في الدين المشار إليها في حديث التجديد: “إنَّ الله يبعث لهذه الأمة على رأس كلِّ مائة سنة من يجدِّد لها دينها.” واقتصر معنى التجديد في لغة التراث الإسلامي حتى القرن الثاني عشر الهجري على ما يشير إليه هذا الحديث، وطفق العلماء يقترحون اسم المجدد في كلِّ مائة سنة من تاريخ الإسلام، ويحددونه بقدر ما اجتهد في فروع الفقه المذهبي، أو بقدر ما أعاد الاعتبار للسنة ومحا من البدعة. فعمر بن عبد العزيز مجدد المائة الأولى، والشافعي مجدد المائة الثانية وهكذا. وقد علَّق ابنُ كثير على كلام العلماء عمن يعدُّونه من المجددين فقال: “وقد ادَّعى كلُّ قوم في إمامهم أنَّه المراد بهذا الحديث، والظاهر، والله أعلم، أنه يعم حملة العلم العاملين به من كل طائفة، ممن عَمَلُه مأخوذ عن الشارع، أو ممن هو موافق من كلِّ طائفة وكلِّ صنف من أصناف العلماء، من مفسرين، ومحدِّثين، وقراء، وفقهاء، ونحاة، ولغويين، إلى غير ذلك من أصناف العلوم النافعة، والله أعلم.”
وأخذ معنى التجديد كذلك لفظ الإحياء في عبارة إحياء السنة وإماتة البدعة؛ إذ نجد مصطلح إحياء السنة في حديث نبوي: “من أحيا سُنَّة من سنتي قد أُمِيتَتْ بعدي كان له من الأجر مثل من عمل بها، من غير أن يَنْقُص من أجورهم شيئاً، ومن ابتدع بدعة ضلالة لا يرضاها الله ولا رسوله كان عليه من الإثم مثل آثام من عمل بها، لا يَنقُصُ ذلك من أوزار الناس شيئاً.” ونجد مصطلح إحياء البدعة كذلك في وقت مبكّر، فقد رُوِي أنَّ عبدَ الله بنَ عباس رضي الله عنه قال: “ما أتى على الناس عام إلا أحدثوا فيه بدعةً وأماتوا فيه سُنَّةً، حتى تحيا البدع وتموت السنن.” ويبدو أن الإمام الغزالي حين قرر أن يجعل عنوان كتابه المعروف “إحياء علوم الدين” كان يرى أنَّ “علوم الدين” في عصره أخذت طريقها إلى الموت، فأراد أن يجتهد في إحيائها.
أمَّا الحالة الثانية من التجديد فربَّـما تكون في صور جديدة من فهم مقصود النص الشرعي نظراً لما يصل إليه علمُ الناس حول موضوع ذلك النص، ويكون ذلك في مسائل الطب والإدارة والزراعة والصناعة والعمران وغيرها، وفي وسائل التعليم والدعوة والاتصال والتواصل وغيرها، ومن أنظمة العلاقات بين المجتمعات والدول، ومن عُدَّة القتال وأنواع الجهاد، وغير ذلك مما لم يكن معروفاً من قبل. وقد لا يكون ذلك في صورة أحكام جديدة بالضرورة، بقدر ما يكون تنزيلاً للنصوص التي استنْبِطت منها الأحكام على النوازل والحالات والأوضاع المستجدة.
رابعاً: الإبداع والبدعة
ألفاظ الإبداع والابتداع والبدعة تـحمل معنى حيادياً بين الذم والمدح، كما هي في الاستعمال القرآني، وكما ظهرت في معاجم اللغة، وكما استعملها الصحابة؛ إذ نجد في لسان العرب: “بَدَعَ الشيءَ يبدَعُه بَدْعاً، وابتدعه: أنشأه وبدأه … والبِدْع: الشيء يكون أولاً… وفي التنزيل: ﴿قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ﴾ (الأحقاف: 9): أي ما كنت أول مَنْ أُرسل، قد أُرسل قبلي رسلٌ كثير … والبدعة: الحديث وما ابتدع من الدين بعد الإكمال… قال ابن الأثير: البدعة بدعتان: بدعة هُدى وبدعة ضلال، فما كان في خلاف ما أمر الله به ورسوله صلى الله عليه وسلّم، فهو في حيِّز الذم والإنكار، وما كان واقعاً تحت عموم ما ندب الله إليه وحضَّ عليه أو رسوله فهو في حيّز المدح، وما لم يكن له مثال موجود كنوع من الجود والسخاء وفعل المعروف، فهو من الأفعال المحمودة… (ومنه) قول عمر رضي الله عنه: نعمت البدعة هذه … والبديع: المبدِع …. والبديع من أسماء الله تعالى… الكسائي: البِدْع: في الخير والشر.”
ومع ذلك فإنَّ أكثر ما ورد في التراث الإسلامي عن البدع كان ذمَّاً، لأنَّ سياق الحكم بالذمِّ كان يتصل بالزيادة أو النقص في الدين أو التدين. ومع التأكيد على أنَّ البدعة بهذا المعنى لا تحتمل غير الذم، فإنَّ كثيراً من هذا الذم للبدعة والابتداع قد كان في مواجهة تيارات الغُلُوِّ أو التفريط في مسائل الاعتقاد والعبادة، وربما كان انعكاساً لحالة التقليد الشديد الذي عانى منها المجتمع المسلم في بعض المراحل.
خامساً: الحاجة إلى الإبداع في الفكر التربوي
للفكر التربوى الإسلامي مهمة مركزية في البناء الحضاري لمجتمعاتنا وأمتنا الإسلامية، ومهمته أن يدفع صناع القرار في العمل التربوي إلى توفير الفرص للمتعلمين للانطلاق فيما يسَّره الله لهم من طاقات إبداعية. ونحن ننطلق في تقرير ذلك من اهتمامنا بالبعد الممدوح من الإبداع، وما يتصل به من تجديد وبعث وإحياء، دون أن نفتقد وَعْيَنا بشرط الاتِّباع، وما يتصل به من الأحكام والتوجيهات في الوحي الإلهي، ومن معاني الاقتداء والتأسي بالهدي النبوي. وقد تزايد الوعي بضرورة الاهتمام بالإبداع في التربية الحديثة نتيجة النقد المتواصل للإرث التاريخي للمدرسة، المتمثِّل في حفظ تراث الشعوب ونقله إلى الأجيال الجديدة، وتزويد المتعلمين بما يلزم للتأقلم الاجتماعي في الحياة المعاصرة، إضافة إلى كونها وسيلة للضبط الفكري والسياسي الذي يضمن للقاهرين السيطرة على المقهورين. لكنَّ المدرسة عند بعض المفكرين فشلت في كثير من الأحيان في إطلاق روح التحرر والإعلاء من كرامة الإنسان، وفي رفض ممارسات القهر التي تقتل طاقات الإبداع والتجديد والابتكار في الإنسان.
إنَّ التربية مسؤوليةٌ خطيرة؛ فالقائم عليها يؤثِّر في حياة أعداد كبيرة من البشر، ويستطيع أن يحدث تغييراً إيجابياً أو سلبياً. وقد كان مبعث النبيِّ صلّى الله عليه وسلم ليكون هادياً ومُعلِّماً مِنَّةً من الله عز ّوجلّ كما جاء في قوله سبحانه: ﴿لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِّنْ أَنفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ﴾ (آل عمران: 164) وقوله عزّ وجلَّ: ﴿كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِّنكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُم مَّا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ﴾ (البقرة: 151).
وكان الأمر بالقراءة والكتابة في المجتمع المسلم منذ بدء نزول الرسالة سبباً في تحوُّله إلى مجتمع علم وتعلُّم وتعليم بكلِّ معنى الكلمة. وقد كان ذلك إبداعاً في نمط الحياة لم تألفه المجتمعات، لا سيما أنَّه إبداع يتوجَّه لربط الناس بالخالق عزَّ وجلَّ‘وتوجيه حياتهم وفق ما يوحي به من شروطٍ تُحقِّق لهم المصالح وتدرأ عنهم المفاسد.
والمجتمعات الإسلامية اليوم تعاني من التخلف في معظم مجالات الحياة، سواءً حكَمْنا عليها بالتخلّف في ضوء ما يريد منها إسلامها، أو بالقياس إلى ما تمتلكه من إمكانات وطاقات، أو بالمقارنة مع الشعوب والمجتمعات الأخرى. وقد ثبت بما لا يدع مجالاً للشك في أنَّ الخروج من هذه الحالة لا يمكن أن يتم بجهود اللحاق بالمتقدمين، بعد تجربة ذلك لمدة تزيد عن قرنين من الزمان، فالفارق كبير في المسافة الحالية بين المتقدمين والمتأخرين، والفارق كبير في سرعة الحركة وجهود التغيير، فلا بد من نوع آخر من الجهود، جهود إبداعية غير تقليدية تشكّل قفزات في المستقبل، وفي ميادين مختلفة عن تلك التي عُرف فيها التنافس والتسابق. ولدى الأمة من رصيد القيم والأخلاق – لو تـمَثَّلَتْهُ في واقعها- ما يمكِّنها من التفوق والريادة. والفكر التربوي المؤسس على التربية الإبداعية هو ما يتيح المجال لإطلاق الطاقات والقدرات واستثمارها في جهود النهوض والسبق الحضاري والخروج من حالة الغثائية والتخلف.
التربية الإبداعية المنشودة في التعليم لا تقتصر على مادة تعليمية دون أخرى، فالحاجة إلى الإبداع قائمة في جميع المجالات، في تعليم العلوم الطبيعية والتطبيقية، والعلوم الإنسانية والاجتماعية، واللغات والفنون وغيرها. فأزماتنا الإدارية سواءً إدارة الدولة أو إدارة المؤسسات تحتاج إلى حلول إبداعية، ومثلُها أزماتنا الاقتصادية والتربوية وغيرها. ونحن لا نجدُ المبدعَ مبدعاً في كلِّ شيء، ولكنَّه يكون مبدعاً في مجال دون آخر، ففَتْحُ المجال للإبداع في الممارسات التربوية يكشف عن القدرات الإبداعية في المجالات المختلفة، والأمة بحاجة إلى الإبداع في كلِّ هذه المجالات، بما يغنيها عن التبعية لغيرها. ولم تجد مجتمعاتنا في يوم من الأيام خبيراً أجنبياً مبدعاً في حل المشكلات، أفلح في مساعدتنا في حل مشكلة لجأنا إليه فيها، هذا إن رغب في حلّها حقيقة! لكن مشروع النهوض والتفوّق الحضاري الذي تبنيه الأمة الإسلامية يمكنه أن يجعل إبداعات الأمم الأخرى عنصراً من عناصر التدريب والإعداد لإطلاق الطاقات الإبداعية لأبنائها.
والتربية الإبداعية لا تقتصر على مؤسسات التعليم التقليدية في الأسرة والمدرسة والجامعة، وإنما تحتاج بالإضافة إليها إلى مؤسسات من نوع آخر، تتمثل في مراكز بحث علمية تتوافر فيها المواد والأدوات والبيئة النفسية والمادية الحافزة على الإبداع والحاضنة له. وكلَّ ذلك فكرٌ تربوي، لكنَّه غير مستقل عن الفكر الإداري والاجتماعي والسياسي.
سادساً: الإبداع والتساؤل
تشير الدراسات النفسية إلى أنَّ إمكانية الإبداع تبدأ منذ الطفولة، فكثير من أسئلة الأطفال أسئلة إبداعية تنطلق بصورة تلقائية، فإذا توفرت فرص رعاية هذه الإمكانية فالأمل أن يتواصل نـموُّها وظهور آثارها. لكنَّ كثيراً من ممارسات التربية الأسرية ثم المدرسية لا تفسخ المجال اللازم لتلك الرعاية التي تحتاج إلى وقت، وإلى برمجة وتخطيط. فالأسرة مشغولة بكثير من أمور الحياة وقضاياها الملحة، فلا يبقى من الوقت والصبر والجهد النفسي ما يتَّسع لإبداعات الأطفال التي تسمّى في كثير من الأحيان عبث الأطفال. وكذلك المدرسة التي يُلاحَق فيها المعلمون بواجبات مرسومة من مقررات ومناهج ومسؤوليات متنوعة. وحتى في المراحل اللاحقة من الحياة العملية يرغب الناس عادة، ولا سيما المسؤولون في الإدارة، في تجنب عبء الأسئلة وما تسببه من اضطراب النظام.
يقول الباحث البريطاني الأمريكي “وارن بيرغر” المتخصص فيما يسميه “علم السؤال Questionology”: “فالمدارس لا تُعلِّم بالطرق التي تشجع التساؤل، لأنَّ الأسئلة تتحدى السلطة وتسبب خللاً في بنية المؤسسة ونظامها وعملياتها، وتدفع العاملين فيها على الأقل للتفكير بطرق مختلفة عما هو سائد … والمعلم الذي يسمح للطلبة بمزيد من الأسئلة عليه أن يكون راغباً في التخلي عما يلزمه من ضبط للفصل الدراسي…” وينقل الباحث المذكور عن عالم الأعصاب جون كونيوس John Kounios “أنَّ دماغ الإنسان يجد طرقاً لتقليل الحِمْل العقلي، ومن هذه الطرق قبول معظم ما يدور حوله في أي وقت دون أسئلة، أو بإهمال هذه الأسئلة. فنحن نمارس العمل عندئذٍ مثل القائد الآلي للطائرة، لنوفِّر بعض الطاقة العقلية للقيام بمهمات متعددة، وتحمل أعباء حياتنا اليومية الطاحنة!”
إننا حين نفهم هذا الميل الطبيعي في الإنسان في التخفف من الأسئلة الكثيرة، فإنَّنا نحتاج إلى نتعامل معه وفقاً للحالة التي تمر بها مجتمعاتنا وأمتنا. فالمجتمع الذي يعيش على مساعدات خارجية إما لأغراض الأمن أو الاقتصاد، إذا لم يبدع أفكاراً وأساليب جديدة تغنيه عن هذه المساعدات، فسوف يأتي اليوم الذي لا يجد فيه من يـمدُّ له يد المساعدة. والمؤسسة الإنتاجية الناحجة في السوق الخاص بها إذا لم تواصل التجديد والإبداع في تطوير نوعية منتجاتها والتخطيط لمنتجات جديدة، فسوف تفقد مكانها في السوق. والمؤسسة غير الناحجة إما أن تبدع أفكاراً جديدة لإصلاح وضعها وتطور أساليب جديدة أو تخرج من الساحة بأقل الخسائر.
لكنَّ رجال الأعمال والإداريين والسياسيين كلُّهم نتاج الأنظمة التربوية والتعليمية، التي تحكمها فلسفة وأنظمة ومناهج وإجراءات، فإذا أردنا أن يكونَ لدينا سياسيون مبدعين، ورجال أعمال مبدعين، واقتصاديون مبدعين، فإنّ علينا أن نفتحَ المجال في وقت مبكر من مراحل التعليم لتنمية الفضول والتساؤل والرغبة في البحث والاكتشاف والإبداع، ونُبقى هذا المجال مفتوحاً في المراحل التالية.
ويرى بعض المتخصصين في دراسات الإبداع الصلة الوثيقة بين عملية التساؤل والقدرة على الإبداع، ولذلك فإنَّ توفير البيئة التربوية التي تعين تشجيع المتعلمين على طرح الأسئلة الصعبة هو الذي يعينهم فيما بعد في مواقف الحياة العملية في مؤسساتـهم، على صياغة الأسئلة الصحيحة اللازمة للسير في طريق الإبداع. يقول وارن بيرغر: “أما بالنسبة للإبداع، فهو يعتمد في كثير من الأحيان على قدرتنا ورغبتنا في التعامل مع الأسئلة الصعبة التي يمكن أن تطلق العنان للخيال. وبالنسبة إلى الأشخاص الذين يحاولون الابتكار في مؤسستهم عن طريق طرح أفكار جديدة في الإنتاج، وبالنسبة لشخص يحاول التعبير عن رؤية جديدة بطريقة جذابة ومبتكرة، فإنَّ طريق الإبداع هو رحلة في البحث والاستقصاء … وكثير من الاختراقات الإبداعية creative breakthroughs المعروفة في الأعمال والفنون، يمكن إرجاعها إلى أسئلة من نوع: لماذا؟ أو ماذا لو؟”
ويتزايد إدراك علماء النفس بالقدرات التي يمتلكها الأطفال، ويلاحظون أنَّـها لا تلبث أن تختفي بتأثير ما يعانون من كبت وقمع في المؤسسات التربوية التقليدية، سواءً في الأسرة أو المدرسة، أو في الأعراف الاجتماعية والنظم السياسية. “وتظهر هذه القدرات بعدد الأسئلة التي يسألها الطفل ونوع هذه الأسئلة، فطفل ما قبل المدرسة يُلِحُّ في طرح الأسئلة المتتابعة حول موضوع واحد للوصول إلى ما قد يكون عمقَ الموضوع، حتى يُطلب منه أن يسكت. فعقله في حالة نموذجية للتعجب والتساؤل والبحث والنمو، لكن عدد الأسئلة يأخذ بالتناقص سنة بعد الأخرى في التعليم، كما تشير البحوث التي أجراها “معهد الأسئلة الصحيحة”. والنظام التربوي مسؤول عن ذلك. وثَـمَّة عوامل متعددة تؤدي إلى هذه النتيجة منها أنّ الرسائل التي يتلقاها الطفل من الأسرة والمعلمين والأطفال الآخرين في الصف الدراسي تخيفه من الانطباع الذي يتكون عنه عند الآخرين من أنه لا يعرف ما كان يجب عليه أن يعرفه، والمعلمون يعلنون صراحة أنه لا يتوفر لديهم الوقت لأسئلة التلاميذ الكثيرة فعليهم أن يستعملوا الوقت المتاح لأداء الواجبات الكثيرة المنوطة بهم.”
إنّ كثيراً من البحث في تيسير سبل التساؤل في برامج التعليم وتوظيف ذلك في تنمية الإبداع، يتم عادة في نظم تربوية ذات عناوين، مثل: التعليم التقدمي، وتفريد التعليم، والتعليم الإبداعي، وغيرها من العناوين التي تجعل هذه النظم مختلفة عما يعرف بالتعليم التقليدي. والاستطراد السابق في الحديث عن موقع الإبداع في التعليم المدرسي لا ينبغي أن يلفتنا عن وجود آراء تربوية مختلفة لا ترى الإبداع أمراً مستقلاً عن المواد الدراسية، بل هي جزء من كل مادة، فالإبداع في الرياضيات لا يتم إلا في تدريس الرياضيات. ثم إنّ التعليم التقليدي يقدم للتلاميذ مادة علمية مهمة لا يمكن الاستغناء عنها. لكن من الخطأ الكبير أن تعرض مسائل التجديد والتطوير في التعليم عن طريق “ثنائية” التعليم التقليدي والتعليم الإبداعي، وكأنَّـهما قطبان متناقضان، كما هو الحال في كثير من الثنائيات الزائفة. “ومن المؤسف أنَّ تاريخ التعليم في كثير من الأحيان يتأرجح بين قطبين متناقضين. وما يكون عليه حال التعليم هو ما يستقر عليه الأمر في أحد القطبين. بينما يكون التعليم الفعال دائماً متوازناً بين الصرامة والحرية، بين المعتاد والتطوير، بين الفردية والجماعية، بين النظرية والتطبيق، بين العالَـم الداخلي للإنسان والعالَـم الخارجي. ومن الخطأ أن يبقى بندول التعليم يتنقل بين طرفين متقابلين؛ لأنّ المهمة هي دائماً مساعدة المدارس والطلبة في إيجاد التوازن، فليس هناك نموذج مثالي يتصف بالخلود في العمل التربوي، وإنَّـما هي جهود متصلة لخلق أفضل الشروط لناس حقيقين في مجتمعات حقيقية، لكنَّها تعيش في عالم متغير باستمرار. وهي مهمة ملحَّة دائماً. صحيح أنّ الخبرة التربوية هي دائماً خبرة شخصية لكن القضايا التي تختص بها هذه الخبرة هي قضايا عامة نجدها في جميع المجتمعات وبصورة مستمرة.
وإذا كان التعليم التقليدي يتضمن قدراً من مفهوم الاتِّباع لما عُرِف فضلُه ونَفْعُه، وارتبط بأصول شرعية تعد من الثوابت، فإنَّ المأمول في التعليم التجديدي أن يتضمن مساحة من الإبداع في الوسائل والتجديد في الأساليب اللازمة لحياتنا المعاصرة، وما تواجهنا فيها من تحديات وما تمنحنا من فرص. ومن هنا يأي الحديث عن التوازن بين الاتِّباع والإبداع.
وبالله التوفيق.