الٲخبار

مفاهيم البناء والهدم في الإصلاح الإسلامي المعاصر

في الإسلام أحكام وتشريعات تفصيلية في بعض المجالات تذهب في التفاصيل الدقيقة إلى ما لا يختلف فيه وعليه أهل الاجتهاد. وفي الإسلام قيم ومبادئ عامة في مجالات أخرى، تحتاج من أهل الاجتهاد إلى تطوير الممارسات والتجارب والمؤسسات في المجتمع الإسلامي، وابتغاء الخبرة البشرية حيث وجدت لتطويعها وتكييفها لأغراض المجتمع ومقاصد الإسلام.

ولا يتردد بعض الدعاة -الذين لا نشك في صدقهم، وحبهم، وغيرتهم- في إطلاق تعبيرات تعبر عن هذا الحب وهذه الغيرة بطريقة تحتاج إلى مراجعة، فهم قد يسيؤون من حيث يظنون أنهم يحسنون، وذلك حين يقولون مثلاً بأن الأنظمة السائدة اليوم في مجتمعاتنا الإسلامية هي أنظمة باطلة، أو أنظمة كافرة، يجب تقويضها بكاملها، وإعادة بناء أنظمة إسلامية على أنقاضها.

إن المراجعة التي نحتاج إليها لبناء نظام إسلامي معاصر للحكم، أو التعليم، أو الاقتصاد، إلخ، قد توصلنا إلى القول بإن الإصلاح الإسلامي المنشود لا يعني بالضرورة هدم التشريعات والأنظمة والهياكل التنظيمية والإدارية المعروفة في الواقع المعاصر، شريطة عدم التفريط بالقيم والمبادئ الأساسية للإسلام، ومقاصده.

نعم إن الإسلام هدم بعض قيم الجاهلية، وأحل مكانها قيماً بديلة، ومع ذلك فإنه حتى في مجال القيم لم يهدم كل القيم التي كانت سائدة في الجاهلية، فالنبيّ صلّى الله عليه وسلم أكد أنه جاء ليتمم مكارم الأخلاق، -لا ليبدأها، ونوّه بحلف الفضول الذي عقدته بعض قبائل العرب قبل الإسلام لإنصاف المظلوم من الظالم، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. ولما أسر المسلمون سفّانه بن حاتم الطائي، كلَّمت النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، وقالت: “يا محمّد، إن رأيتَ أن تَمُنَّ علَيّ ولا تفضَحَني في قومي؛ فإنّي بنت سيّدهم، إنّ أبي كان يُطعم الطعام، ويَحفَظ الجوار، ويرعى الذِّمار، ويفكّ العاني، ويُشبع الجائع ويكسو العريان، ولم يَردَّ طالبَ حاجةٍ قطّ، أنا ابنة حاتِم الطائي. فقال لها: “هذه مكارم الأخلاق حقّاً، لو كان أبوكِ مسلماً لترحّمتُ عليه، خَلُّوا عنها؛ فإنّ أباها كان يحبّ مكارم الأخلاق، وإنّ الله يحبّ مكارم الأخلاق.” ثم إن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، لم يكتف بإطلاق سراحها، بل أمر بتأمين متطلبات سفرها إلى الشام من ركوبة، ومؤونة، وثياب، وصحبة آمنة. فلما قدمت على أخيها عدي بن حاتم الذي فر إلى الشام حتى لا يواجه المسلمين، وأخبرته بما كان من أمرها، جاء إلى النبي مسلماً، وأسلمت سفَّانة، وحسن إسلامه وإسلامها. هذا في مجال القيم، أما في مجال التشريعات والهياكل الإدارية، فمعلوم أن المجتمع الإسلامي الأول نشأ في جزيرة العرب التي لم يكن فيها من تلك الهياكل ما كان معروفاً في المجتمعات الأخرى المعاصرة لها، في بلاد الفرس والروم والقبط، لذلك عندما بدأ المجتمع الإسلامي يتسع واحتاج إلى بناء هياكله الإدارية بدءاً بتدوين دواوين الجند والمال، أخذها المسلمون من البلاد الأخرى، بل إن الدواوين قد دونت بلغاتها، فكان لغة الدواوين هي الفارسية في العراق، والرومية في الشام، والقبطية في مصر. ولم تعرَّب الدواوين إلا في أيام عبد الملك بن مروان. وفي عهده كذلك تم لأول مرة صك الدينار الإسلامي، وأنشئت مؤسسات لصك العملة العربية الإسلامية في الشام والعراق وغيرها، ومنع التعامل بالعملات الأجنبية التي كان المسلمون يتعاملون بها، ولا سيما الدينار البيزنطي.

هذا هو حال التفاعل والتثاقف بين المجتمعات والحضارات، وهذا كذلك حال الإصلاح والتطوير اللازم في شؤون السياسة، والتعليم، والاقتصاد، وغيرها. وأيُّ إصلاح إسلامي في تقديرنا، لا بد أن يأخذ بما اصطلحنا على تسميته بمبدأ التكامل المعرفي، فتكون نقطة الانطلاق هي مقاصد الإسلام كما نجدها في القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة، والاستئناس بتطبيقات هذه النصوص عبرالتجربة التاريخية الإسلامية، وعدم الوقوف عند ذلك الحد، بل استيعاب الخبرة البشرية للأمم الأخرى قديماً وحديثاً، والوعي الكامل بمتطلبات الواقع المعاصر، وما يتضمنه هذا الواقع من فرص وإمانات وتحديات، ثم توظيف ذلك كله في إبداع رؤية إسلامية إصلاحية معاصرة، وفي بناء المشروع الحضاري المنشود. وعندها سيكون هذا المشروع ليس خيراً للمسلمين وحسب، وإنما إسهاماً، وإغناءً، وترشيداً، للحضارة الإنسانية المعاصرة.

 

 

 

 

فتحي حسن ملكاوي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً