أبعاد ثقافية وروحية
د. نادية ناصر نجاب
هناك تداخل بين الأخلاق وعلم النفس، إذ إن علم النفس يُعنى بدراسة السلوك الإنساني ونوع التصرفات التي تضمن وجود صحة نفسية جيدة. وتظهر العلاقة بين الأخلاق وعلم النفس في السعي نحو كبح جماح الشهوات ورغبات الذات، إذ يسعى المرء للالتزام بالمعايير الأخلاقية للمجتمع في سلوكياته لتفادي أي نوع من التصادم أو الأذى. ويدرس علم النفس سلوكيات الإنسان من مناظير مختلفة حسب حقل التخصص.
ويهدف علم النفس إلى مساعدة الناس في تحقيق الإدراك الذاتي وفهم الذات بشكل سليم. ولأن علم النفس نشأ في الأساس في أحضان الفلسفة، فإن من بين اهتماماته مسألة الخطأ والصواب، والرذيلة والفضيلة. كما يبحث علم النفس في السلوك والعملية النفسية للأفراد تحقيقاً لمصلحة الفرد والمجتمع. ويكمن الهدف العام لعلم النفس في فهم السلوكيات وتوضيحها وتوقعها بل وتحسينها. لذا فإن السلوك الأخلاقي هو أساس نظريات علم النفس المختلفة. والصواب والخطأ مأخوذان عن البيانات التجريبية، ويتم تعميمها كمبادئ عامة للأخلاق وقواعد عامة للسلوك.
وليس الهدف من هذه المقالة القصيرة مناقشة البحث النفسي المتعمق لمسألة الأخلاقيات وعلاقتها بعلم النفس في إطار الطرق العلمية الموضوعية والجدل المتعلق بالفلسفة الوضعية وما يقابلها. ومع ذلك فإن التجارب والبيانات الناتجة عنها لوضع إطار نظري تعد بالغة الأهمية ولها أثر كبير في حقل علم النفس. كما أن كليّة المبادئ الأخلاقية المستندة إلى الطرق العلمية والموضوعية تعد مجالاً خصباً للاختلاف وتعدد الرؤى في نظر الأشخاص من ذوي الثقافات المختلفة.
ولتوضيح تلك التحديات التي تواجه النظريات والفلسفة الوضعية التجريبية التي يرى البعض أنها تقوَض المنظومة القيمية الثقافية والشخصية، سوف أقدم أمثلة من واقع خبرتي في تعليم الفلسفة وعلم النفس في جامعة بيرزيت، وكذلك من واقع خبرتي البحثية للمساعدة في تحليل دور الأعراف والتقاليد والدين والثقافة في صياغة سلوكيات الإنسان ومواقفه وقيمه الأخلاقية.
وتعكس خبرتي في تعليم الفلسفة الأوروبية وعلم النفس في فلسطين مشكلة التوفيق بين الدين والثقافة من جانب والعلوم من جانب آخر. وقد رأى معظم الطلاب أن الفلسفة الغربية وعلم النفس لا ينتميان إلى منظومتهم الثقافية وقيمهم الدينية.
وحاول طلابي لفت الانتباه إلى وضعهم الاجتماعي والسياسي والعوامل المهمة التي تؤثر على سلوكياتهم وتصرفاتهم. وارتأى بعض الطلاب المسلمين على سبيل المثال أن القرآن يتناول جميع الأمور اللازمة لتحقيق العدالة الاجتماعية ورعاية حقوق الإنسان وتوفير الصحة النفسية السليمة. ووجه طلابي النقد إلى مجموعة من المفاهيم الغربية المتعلقة بحرية الفكر والتصرف لدى الأفراد. ومن بين النقاشات التي تعكس هذا التضاد مع النظريات الغربية قضية حق المرء في الانتحار. فقد اعتبروا أن هذا الفعل لا يدخل ضمن ممارسة المرء لحقه في حرية الفكر، إذ إنه أمر يحظره الدين. بل انتقدوا نظرية كانط حول مسألة كلّيّة الأخلاق.
ورأى الطلاب أن الكذب على سبيل المثال أمر خاطئ إلا أنهم لا يسّلمون بنظرية الأخلاق لكانط والتي تنص على أن هذا المبدأ يسري في جميع الظروف والأحوال وعلى جميع الأشخاص. ومثلوا لذلك بالكذب على الجنود الإسرائيليين في نقاط التفتيش لتجنب الاعتقال. ورأوا أن هذا الأمر مبرر تماماً في ظل القهر والاحتلال. إن الفلسفة الوضعية المنطقية والقوانين العامة الناجمة عن البيانات التجريبية لا تعني شيئاً بالنسبة لهم. وعلاوة على ذلك رأوا أن النظرية التي تقول بأن الناس لا يقترفون الخطأ خوفاً من الله هي أسمى أخلاقيا من نظرية كانط حول الأخلاق المنطقية الحرة المستقلة، بل هي مضادة لها.
ومن منظور فلسفي، فإن الأمر المطلق عند كانط على سبيل المثال هو المبدأ الرئيس للقانون الأخلاقي. وتنشأ شمولية الأمر الأخلاقي عند كانط من الالتزام بالقانون الأخلاقي دون وجود أي محفزات خارجية. ويوضح كانط هذا الأمر بقوله: “اعمل كما لو كنت تريد أن تقيم الحكم الصّادر عن فعلك قانوناً كلّيّاً للطّبيعة”. فإن مقولة “يجب على المرء ألا يكذب” تصبح قانونا كلياً لا يسمح بأي استثناءات ومن المفترض معه ألا يكذب أي شخص مهما كانت الظروف. ولنضرب مثالاً من واقع خبرتي التعليمية في فلسطين حيث أخبرني طلابي أنهم يكذبون على الجنود الإسرائيليين لتفادي الاعتقال، وفي الوقت ذاته يعتقد الطلاب أن الكذب خطأ لكنه مسموح به عند الضرورة.
وفي الصفوف الدراسية لعلم النفس لم يقتنع الطلاب بنظرية الأخلاق عند كولبرج، إذ إنه يدرس الأخلاق باستخدام نموذج تجريبي يتضمن مشكلة أخلاقية لبحث مراحل الحكم الأخلاقي فيما يتعلق بالنفس والمجتمع والقوانين. وقد استخدم قصة هاينز الذي لا يملك ثمن الدواء لزوجته، ويطرح كولبرج سؤالاً حول ما إذا كان ينبغي لهاينز سرقة الدواء في هذه الحالة التي تعاني فيها زوجته من سرطان مميت ولا يملك مالاً لشراء الدواء الباهظ الثمن. ويطرح هذا السؤال على رجال وأولاد من مختلف الأعمار.
وقد طّور كولبرج نظريته في الحكم الأخلاقي استناداً إلى الإجابات التي حصل عليها حول مشكلة هاينز وكيف يبرر الناس سلوكياتهم. وقد فنّد مسألة كلّية الأخلاق وشموليتها من منظور نوعي ومن منظور ثقافته الغربية. وجاءت كارول جيليجان لتشكك في صحة نظرية كولبرج، ورأت أن أخلاق المرأة تنبع من ارتباطها بالناس. وفي كتاب لها بعنوان “In a different Voice” ترى كارول أن النساء يتمتعن بخلق العناية أكثر من العدالة. لذا فالمسألة بالنسبة للنساء لا تتعلق بالقواعد والقوانين وإنما بالآخرين وبالارتباط بهم، مما يثبت أن الدين والثقافة ليسا العاملين الوحيدين اللذين يمكنهما تشكيل منظومة القيم، وإنما يمكن لاختلافات النوع الاجتماعي أن تؤثر على السلوكيات والاختيارات، وتمثل تحدياً أمام أي محاولة للوصول إلى مبدأ أخلاقي كلي يستند إلى منهج علمي موضوعي. وقد رأى طلابي أن مشكلة هاينز لا علاقة لها بثقافتهم. وأن الصيادلة في مجتمعهم كانوا ليعطوا الدواء لهاينز حتى إذا لم تكن هناك مساعدة من جانب الأقارب أو الأصدقاء.
وفي مقرر علم النفس الاجتماعي أثناء مناقشة قضية كيتي جينوفيز أو “تأثير المتفرجين”، رأى الطلاب أن هذه القضية غربية بامتياز ولا تنطبق على منظومة القيم الخاصة بمجتمعهم. لقد تم اغتصاب كيتي جينوفيز وقُتلت في مدينة نيويورك ولم يتصل أحد من جيرانها الثمانية والثلاثين بالشرطة حتى فات الأوان. وقد دفع هذا الأمر بعض علماء النفس من أمثال جون دارلي وبيب لاتاني إلى إجراء سلسلة من التجارب لدراسة القضية والوصول إلى نظرية تقول أنه كلما زاد عدد الحاضرين، قلت احتمالية تقديمهم العون والمساعدة، ذلك أن كل متفرج يعتمد على الآخرين، وبالتالي يكون هناك تشتيت للمسؤولية. وقد رأى الطلاب أن هذا الأمر غير وارد في ثقافتهم وفي حالة كهذه، سيقدم جميع الجيران يد المساعدة ويبادرون بتحمل مسؤوليتهم.
من بين القضايا الأخرى المثيرة للجدل والمتعلقة بالفلسفة الوضعية في علم النفس هي قضية العلاج النفسي. يستخدم علم النفس السريري النظريات التي تدعمها شواهد تجريبية كدليل للتعامل مع المرضى في الصدمات. وهناك مسألتان تتعلقان بعمومية العلاج وكلّيته، تتمثل الأولى في التقييم والثانية في طرق العلاج. ولا تؤثر العناصر الثقافية والدينية في التقييم، ويتم الحكم على كون السلوك سوياً من عدمه استناداً إلى البيانات المتحصلة من التجارب والخبرات. لذا قد يساء الحكم على مسألة الانسجام والامتثال ويُنظر إليها على أنها أمر شاذ، بدلاً من الاعتراف بها وحمايتها لاستيفائها المعايير الاجتماعية. كما أن استيفاء المعايير المجتمعية في بعض الثقافات هو أمر حيوي للصحة النفسية للشخص.
وأي تعارض مع القيم المجتمعية قد يؤدي إلى التوتر والقلق لدى الفرد. لذا فلا يمكن للتقييم والعلاج إغفال هذه العناصر. ويرتبط هذا في الواقع بنظرية كولبرج المذكورة أعلاه فيما يخص مراحل النمو الأخلاقي بهدف تعميم النتائج على الجميع. ويرى كولبرج أن الأخلاق التي تفي بالمعايير الاجتماعية ومنظومة القيم تأتي في المرتبة الثانية لمراحل النمو. وفي بعض الثقافات يتصرف الناس بطريقة تخوّل لهم المكافأة في مجتمعهم وفي الوقت نفسه يُنظر إلى أفعالهم الأخلاقية على أنها نتاج أمر سماوي يحفّزها.
علاوة على ما سبق، وأثناء تجربتي في فلسطين وبعض الثقافات العربية لاحظت أن الناس يتعاملون مع الصدمة في إطار مفهوم غيبي خارق للطبيعة. وأثناء حديثي مع سيدات فلسطينيات مصابات بصدمة نفسية، وجدت أن غالبية النساء، رغم التفكير في الانتحار، إلا أنهن لم يقدمن عليه لأن الله حرّمه. فالمعتقدات الثقافية والدينية تؤثران على تقييم الناس للصدمة وللعلاج. على سبيل المثال، فإن صبر أهل الإيمان على تقلبات الدهر ومصائبه وما يتمتعون به من ضبط للنفس ينشأ من اعتقاد جازم أن كل هذا يحدث لحكمة ما وبقضاء الله وقدره.
والبعض يرى أن المعاناة جزء من الحياة واختبار لقدرة المرء على التحمل. كما أنهم يوقنون أن الإيمان والشعائر الدينية هي جزء من عملية العلاج وتطهير النفس. وهذا الإيمان هو ما يدفع هؤلاء الناس إلى الثقة في أن العدالة الإلهية ستعاقب من يرتكب الشرور والآثام في نهاية المطاف، وما هي إلا مسألة وقت. ويأتي علم النفس الحديث ليشكك في صحة تلك الاعتقادات التي يتبناها أهل الإيمان لأن العناصر الغيبية لا تعد مؤثرات عملية نافذة في علم النفس الحديث. والهدف العام من العلاج النفسي هو أن نعيد للمرء احترامه لذاته وهو أمر يرتبط بمدى تطور الأنماط الأخلاقية للسلوك، وهي معتمدة على الكلّيّة والشمولية والبيانات التجريبية.
وعلى الرغم من الجهود البحثية الحديثة في مجال علم النفس والفلسفة والتي تُعنى بالنواحي الثقافية والدينية، إلا أن هذا الأمر ليس كافياً، إذ إن المناهج الدراسية لعلم النفس والفلسفة في الثقافة العربية والإسلامية تُدرّس من منظور غربي، وبعض النظريات التي وردت معنا هنا هي أساس تلك المناهج الدراسية. وعندما تعرضت لرفض طلابي لهذه النظريات، لم أجد أي بحث علمي ثقافي يمكن الرجوع إليه من أجل المقارنة والتحليل في ضوء تجربتي الشخصية. وقد شجعت طلابي على تناول مواطن القصور هذه والتركيز عليها في دراستهم ومشوارهم الوظيفي. هناك أيضاً غياب للسياسات والخطط والتمويل والنشر وغيرها من الأمور اللازمة لتشجيع البحث العلمي، بل إن هناك نقص في الموارد البشرية في مجال علم النفس والأخلاق