الفرق بين “القراءة التقنية” و”القراءة العلمية” للتراث
د.معتز الخطيب
الفرق بين “القراءة التقنية” و”القراءة العلمية” للمصادر الإسلامية الأصلية (لكي أتجنب استعمال كلمة: تراث) يتلخص 1. في طريقة تحصيل العلم (بالدراسة المنتظمة على الطريقة الحديثة التي يسمونها التخصص، أو بالقراءة على أهل الاختصاص على طريقة القدماء التي يسمونها التلقي). 2. في الفرق بين العلم وبين المعلومة. المعلومة مثل خبر مقتطع من سياقه لا يكتسب معنى إلا بوضعه ضمن سياق، وتراكم المعلومات لا يجعل صاحبها عالمًا، كما أن تراكم الأخبار لا يجعل حاملها محللاً، فالعلم يحتاج إلى أدوات منهجية لتحويل المعلومات إلى علم.
مثال تطبيقي على القراءة التقنية أن يأتي شخص ويضغط على “المكتبة الشاملة” مثلاً ثم يستخرج عبارات لابن تيمية – مثلاً – يقول فيها “يستتاب وإلا قتل” أو نحو ذلك، أو أن يأتي لعبارة لابن تيمية – مثلاً – يقول فيها: “إذا كان الوالد مشركًا جاز للولد قتله” ثم يبني عليها تصورات وأوهامًا فلا هو فهم مراد المتكلم، ولا وضعه في سياقه، ولا فهم الخطاب الذي اقتطع منه تلك العبارة!.
ولفهم عبارة مثل “جاز للولد قتله” لا بد من الآتي:
1. فهم طبيعة النصوص التي نقرؤها والمصادر التي نتعامل معها وروح عصرها في الكتابة المكثفة التي يتكل فيها الكاتب على مسلمات وفهم القارئ لما يعتبره هو بدهيات؛ لأنه كان يكتب لنخبة لا للثقافة العامة ولا يكتب للنت ولا على تويتر!. وكتب الفقه مليئة بمثل هذه النصوص التي لها منهجية في الفهم والكتابة لجهة الاصطلاح أو لجهة فهم الإطلاقات والتقييدات الواردة فيها، فقد يتعرض المؤلف لمسألة عرَضًا في موضع يذكرها مطلقةً ثم يذكر قيدها في موضع آخر، ولا يتسنى للقارئ فهم مراد المؤلف إلا بعد جمع أطراف المسألة من الكتاب نفسه أو من كتب المؤلف الأخرى وهذا ما يسمونه (التحرير) و(التحقيق) لا التحرير الصحفي ولا تحقيق النصوص بل تحقيق مسائل العلم وتحريرها ولهذا يطلقون على عالم ما أنه عالم محقق يؤلف ويغوص في المعاني ويستشكل ويجيب على الاستشكالات ويقارن ويوازن ويورد اعتراضات …
2. فهم العبارة على أنها جزء من خطاب؛ فمن يقتطع عبارة من كتاب كمثل من يقتطع جزءا من آية أو حتى آية واحدة ثم يبني عليها مسألة أو أصلاً، وهو لا يعي الخطاب القرآني الذي يتأسس على المفاهيم والكلي والجزئي والسياقات المتعددة (اللغوية والمفهومية والتاريخية و…)، ثم على فهم النص القرآني في علاقته بالتقليد والفهم التاريخي والتلقي.
3. ابن تيمية ذكر هذه العبارة الخاصة بقتل الولد للوالد المشرك متكئًا على مسلمات الخطاب الفقهي ولم يَدُر في خلده أنه يكتب لتقنيين، وهذا الخطاب يفرض أسئلة بدهية يعرف المتفقه أجوبتها: (1): (الوالد المشرك): هل الشرك هنا أصلي أم طارئ؟ وهل هو قطعي أم اجتهادي تأويلي على طريقة السلفيين المُحْدَثين؟ ومن يحكم به؟ (2): القتل: ما موجباته عند الفقيه؟ ومن ينفذه؟ فالقتل في الخطاب الفقهي ككل – وابن تيمية واحد من أفراده – لا يتم إلا في سياقين: الأول: معركة/حرب، والثاني: بناء على حكم قضائي. وهذه أبجديات لم ير ابن تيمية ولا غيره حاجة إلى شرحها؛ لأنه يكتب للمتفقه لا للعامي! فهو كان يتكلم عن واقعة محددة تتعلق بالموقف من تولي الولد فعل القتل لمن حُكم بقتله قضاءً وصادف أنه والد، أو من تلاقى فيه الولد المسلم مع الوالد الكافر في معركة عسكرية على أساس ديني (بمنطق ما قبل الدولة الحديثة) وكما كان شائعا في القرون الأولى.
القارئ التقني للمصادر يختلق – أولا – مشكلة حين يستدعي نصًّا منذ قرون ويضعه في سياق معاصر، ويرتكب – ثانيا – مغالطة حين لا يفهم مراد صاحب النص ولا الخطاب الذي ينتمي إليه النص، وينظّر – ثالثًا – على الناس ويزعم التنوير بإطلاق أحكام مغلوطة على ما يسميه “التراث”، وإذا مات صيَّروه مجتهدًا وله أجر!.