المقالات

العولمة والوهم الجميل: أفول “القرية الصغيرة”

منذ أواخر السبعينيات؛ عرفت النظرية السياسية والاقتصادية تحوّلاً راديكالياً نحو “الليبرالية الجديدة”، التي ترى أنّ الطريقة المثلى لإدارة الاقتصاد خصوصاً، والمجتمع عموماً، تكمن في إطلاق الحرية لرأس المال وللمهارات الإبداعية للفرد ضمن إطار مؤسسي يحمي حقوق الملكية وحرية التجارة، ويقتصر دور الدولة في هذا التصور على حماية رؤوس الأموال وحقوق وضمان عمل الأسواق بسلاسة.

اقرأ أيضاً: ما الإشكاليّات التي تواجه اللغة العربية في ظل العولمة؟
على الأرض كان هذا التصور المثالي (المنطقية المتخيلة للسوق، والعقلانية المفترضة في الخيارات الفردية) هو الرافعة النظرية لسياسات الخصخصة وتحرير الاقتصاد من القيود والضوابط التنظيمية وانسحاب الدولة من مجالات الرعاية الاجتماعية، وهي سياسات شاعت في معظم نطاق المعمورة.

قناع جميل للكارثة

في أفق هذه السياسات أصبح تعبير “العالم قرية صغيرة” من أكثر التعبيرات دوراناً على الألسنة مع مفهوم “تخطي الحدود القومية” الذي ينبني عليه هذا التعبير، وكلاهما يعبّر عن طبيعة الرأسمالية المنتصرة التي يتزايد تجاهها نحو تجاوز الأطر التنظيمية للدول القومية فيما يتعلق بالتمويل الدولي والتحولات الثقافية والحصول على المعلومات، بعد أن فتحت أغلب دول آسيا وأفريقيا وأمريكا الجنوبية حدودها أمام تدفق السلع ورؤوس الأموال والأفكار، وأصبحت جزءاً من سوق عالمية متسارعة الاندماج، ومشرعنة من قبل منظمة التجارة العالمية وصندوق النقد والبنك الدوليين.

الاستياء الشعبي من المهاجرين لا يأتي من مجرد التوجس من المختلفين ثقافياً؛ بل إنّ جذوره تضرب في ديناميكيات الحياة الحديثة

وترتّب على ذلك أنّ العولمة (العلاقات بين النخب المحلية على مستوى كوكبي) أصبحت السمة الأكثر انتشاراً، ورغم أنّه لم تتم البرهنة على أنّ العولمة تضعف الدولة القومية وتقلّل من أهميتها يتزايد الإجماع على هذا المنحى ليصبح مفهوم “تخطي الدولة القومية” حجر الأساس المعرفي لعدد من موضوعات الساعة، مثل: “مجتمع المعرفة”، و”النسوية عبر الدولية”، و”المجتمع المدني العالمي”، و”الهجرة إلى الشمال”، و”الرابطة الإسلامية”، وأخيراً “أوروبا الموحدة”، مما يعطيه الصدارة في أيّة رؤية معاصرة للعالم.
ورغم الطموحات العالية التي رافقت التحولات الثقافية التي جاءت بها العولمة بوعد بأنّها ستحقق تجانساً ثقافياً للبشرية كلّها، في الحدّ الأقصى لطموحها، وستدير التباينات الثقافية بحِكْمة في الحدّ الأدنى، إلا أنّ المؤشرات المتاحة تكشف أنّها تدفع نحو مزيد من الاختلافات الثقافية والتنافر السياسي، سواء بين الدول القومية أو داخل حدود تلك الدول.

اقرأ أيضاً: خطاب ترامب ومواجهة العولمة
وحتى النظرة المتفائلة إلى العولمة المستندة على تصور عالم من الجماعات ذات المصير المشترك؛ حيث تتشابك فيه المسارات والمصالح وتترابط فيه المجتمعات خلال الحياة اليومية في مجالات العمل والمال والأفكار، أصبحت تتضارب مع واقع الزيادة في اللامساواة، الذي تسبّبت فيه النيوليبرالية التي دفعت أيضاً بمجتمعاتٍ بأكملها إلى هامش المشهد السياسي والاقتصادي العالمي.
وعقب الأزمة الاقتصادية التي عصفت بالاقتصاد الأمريكي (والعالمي لاحقاً) عام 2008 (وفي خضمها اضطرت الدولة الأمريكية مناقضة كافة مسلمات النيوليبرالية و”تدخلت” لإنقاذ البنوك) تراجع الحديث عن العولمة بكلّ ما حملته من وعود بتذويب الفروق الثقافية والقومية والدينية، وفشلها في ذلك كلّه؛ بل تسبّب حلّها المثالي “سياسات الهوية” في خلق فيالق وأخاديد هوياتية بين أبناء الشعب الواحد والطبقة الواحدة، حتى اقتصر الجانب الوحيد في النقاش حول العولمة على ثورة الاتصالات و”مجتمع المعلومات”.
وبضمور الجدل عن العولمة، تصاعد الحديث عن النيوليبرالية الجديدة بشكل مكشوف، سواء من جهة مؤيديها الذين يرون فيها السبيل الوحيد لـ “الحرية والكرامة”، أو من جهة معارضيها الذين صوبوا على مآسيها الاجتماعية، ولم يكن انقشاع ضباب العولمة وتبدّي شمس النيوليبرالية في صالح الأخيرة؛ فتصاعد الحديث عنها لم يبدأ إلا بعد أن فقدت اتّزانها النظري واتضحت الحقائق الكارثية التي صاحبت تسيّدها، وتأكد فشلها المزري في حلّ المشكلات الاجتماعية، وعجزها المزمن عن تحفيز النموّ الرأسمالي (وعدها الرئيس)، فكان سجلّها فيه هزيلاً وفاشلاً منذ الثمانينيات وحتى اللحظة.
كانت أطروحة “العولمة” محض غطاء أيديولوجي لتمرير “البديل الوحيد” (النيوليبرالية) الذي نجح، كما يقول ديفيد هارفي، في كتابه “الليبرالية الجديدة: تاريخ موجز “، في تحقيق هدف الطبقات العليا في استعادة سلطتها الطبقية عبر صعود خدمات التمويل والمضاربات؛ لتصبح مدن التمويل جزراً مذهلة للثروات والامتيازات.

عابرة في اتجاه واحد

في تعريفه للعولمة؛ حاول بيير بورديو كشف التمويه الأيديولوجي الذي تروّجه النيوليبرالية حول المسألة، فذهب إلى أنّ “العولمة لا تعدو كونها وهماً جميلاً اعتنقه السياسيون والمتحكمون في وسائل الإعلام، ومعهم الأكاديميون، لتدعيم الخدعة التي تورّط فيها السواد الأعظم من الناس، أما ما هو  واقع بالفعل فهو نفوذ لا يفتأ يتعاظم للأسواق يتغلغل في المجتمعات من أجل تحقيق الربح”.

اقرأ أيضاً: هل يمكن هزيمة العولمة؟!
هذا الفهم الراديكالي للعولمة الذي يختصرها في كونها ظاهرة اقتصادية، يصلح أساساً للاعتقاد بارتباط الظاهرة بالشركات التي تعمل خارج بلدها الأصلي، والمعروفة باسم “الشركات العابرة للجنسيات” التي تمتلك نسبة معتبرة من الأصول الإنتاجية في العالم، وتهيمن على صناعات بأكملها، مثل البترول والسيارات وغيرها، وتمارس أنشطتها الاقتصادية بناءً على إمكانات السوق، بغضّ النظر عن توافقها مع الاهتمامات القومية.
وقد اتّسع نفوذ هذه الشركات، ونما حجمها، منذ سبعينيات القرن الماضي، وهو العقد الذي شهد تحوّل الاقتصاد العالمي من نموذج اقتصادي متمركز حول الدولة الوطنية إلى نموذج نيو ليبرالي قائم على السوق الحرة وخصخصة الإنتاج ورفع القيود عن رأس المال، وتفكيك أنظمة الرفاه الاجتماعي، بضغطٍ من صندوق النقد والبنك الدولي.
ومع ثورة التكنولوجيا، تمكّنت الشركات الكبرى من تغيير سلم أولوياتها فوجهت استثمارات هائلة إلى العالم الثالث؛ حيث العمالة الرخيصة والقوانين التنظيمية الضعيفة والفساد السياسي والإداري، مساهمةً بذلك في إضعاف الحركة العمالية في بلدانها الأصلية، بالتالي؛ تكون هذه الشركات قد تخلصت من الضغوط الطبقية الصاعدة من أسفل عبر الحركة العمالية في الشمال، وحصلت على أكبر قدر من الأرباح بواسطة الأيدي العاملة في جنوب العالم، التي تعبر حدوده بحرية شديدة، وتمّ تبرير الأمر بـ “منطق السوق”.
ولا يتعلق الأمر بأفول السيادة القومية كما تركز الأدبيات السياسية النيو ليبرالية بقدر تعلقه بقدرة الشركات الكبرى المدعومة بالثقل السياسي لبلادها على اختراق سيادة الدول الضعيفة والتحرك داخل حدودها دون أن تشاركها أيّة معلومات ذات أهمية فيما يتعلق بأنشطتها، وخصوصاً في مجال الثروات الطبيعية.
لذا؛ فإنّ “عبور” هذه الشركات للقوميات أصبح محلّ شكّ من قِبَل المنظرين ذوي الاتجاهات اليسارية وحتى الليبرالية الكلاسيكية؛ فالسياسات القومية هي التي تحدّد مصالح المال والأعمال؛ والقرارات الإدارية التي تأخذها الشركات تميل للتوافق مع الجزء الأكبر من حملة الأسهم في البلد الأصلي للشركة، ولا توجد أدلة كافية لإثبات استقلال هذه الشركات عن الاعتبارات السياسية؛ ففي البلد الذي يضمّ أكبر قدر منها وهو الولايات المتحدة، تتلاعب الشركات بالعملية السياسية كي تتدخل الدولة وتحمي مصالحها، وينضمّ سياسيون، كلّ عام، إلى مجالس إدارة الشركات بعد تقديم خدمات سياسية معينة، ومن ثّم يصبح الفصل بين “البيزنس” والسياسة أصعب من الحديث عن استقلالية الشركات أو عبورها للقوميات.
إذاً، مفهوم “تخطي الحدود القومية” نابع من تلك العملية الاقتصادية بالذات، وبتفنيد الأساس الاقتصادي الذي يرتكز عليه هذا المفهوم والإشارة إلى أنّ ما يحدث في الواقع هو أقرب إلى توجه قومي للشركات الغربية التي تتبع سياسة فرض الأزمات على البلدان الضعيفة، كي تتمكن من شراء ما تبقى لها من أصول بأسعار زهيدة، كما يقول بيتر جران، في كتابه “صعود أهل النفوذ”، يمكن التطرق إلى متعلقات “تخطي الحدود القومية”، وأهمها انمحاء سيادة الدولة القومية.

أفول السيادة؟

تركّز المخيلة الاجتماعية التي خلقتها النيو ليبرالية على تآكل سيادة الدولة القومية الحديثة التي كرّستها معاهدة “وستفاليا”، عام 1648، وتجريد سلطتها لصالح نظام عالمي موحد، بغضّ النظر عن اختراقات السيادة التي عانت منها معظم دول العالم الثالث على مدار عقود طويلة، فلم تحظَ دولة خارج مركز السوق العالمية بسيادة حقيقية تتعرض للتراجع من قبل السياسات النيو ليبرالية، فالسيادة لم تكن متحققة كلياً حتى يمكن الحديث عن أفولها.

أصبح تعبير “العالم قرية صغيرة” من أكثر التعبيرات دوراناً على الألسنة مترافقاً مع مفهوم “تخطي الحدود القومية”

ورغم استناد نظرة أفول الدولة القومية إلى عجز الحكومات عن تنظيم المعلومات المتدفقة والتحكم في وسائل الإعلام، إلا أنّه، كما يذهب بيتر جران في كتابه “صعود أهل النفوذ”؛ ليس هناك ما يدعو لتفسير ذلك بـ “ضعف الدولة” الذي يشير إلى أنّه على مدى الجيل السابق اختارت الدولة التراجع والانسحاب من واجباتها الاجتماعية لكنها لم تفعل ذلك من موقف ضعف، بل من موقف قوة.
ويستند جران في ذلك إلى الفرضية القائلة إنّ الدولة أصبحت تدريجياً أكثر قوة، وليست أكثر ضعفاً، ويعود ذلك إلى تطور التكنولوجيا حصراً؛ فقبل نصف قرن لم تكن أيّة دولة في العالم تمتلك معلومات دقيقة عن كلّ مواطنيها، على عكس الحاضر، حيث بإمكان موظف كبير في أيّة إدارة هجرة وجوازات بأي بلد في العالم أن يشاهد على شاشة حاسوبه كلّ المعلومات اللازمة عن أيّ من مواطني بلده.
وعلى عكس نظرة أفول الدولة، أيضاً يشير المنظر الألماني، أولريش بيك، إلى أنّ الحدّ من سلطة الدولة كان قد بدأ منذ أواخر أربعينيات القرن الماضي، حين أقرت معظم الدول بمواثيق ضدّ جرائم الإبادة الجماعية، وربطت نفسها بمواثيق حقوق الإنسان، وليس للأمر علاقة بانسحابها من المجال الاقتصادي.

الهجرة ومجتمع المخاطرة

إحدى الركائز التي يعتمد عليها تنظير “ما بعد القومية”، هي ظاهرة الهجرة التي زاد حجمها خلال الأعوام الأخيرة، وبالتحديد من الجنوب العالمي إلى الشمال، ورغم أنّ أكبر عملية ارتحال في العصر الحديث قد تمت داخل الحدود القومية (الهجرة الداخلية من الريف إلى المدن من أجل العمل) إلا أنّ الجديد في الظاهرة هو ما تقدمه تكنولوجيا الاتصالات من ربط للمهاجرين ببلادهم الأصلية، فتحفظ بذلك وجود تلك الجماعات كـ “شتات” ديني أو عرقي في البلاد التي يحلون فيها.
ورغم الزخم الهائل لحركة الهجرة بعد الربيع العربي، وتحوّلها إلى قضية سياسية شائكة، إلا أنّ فكرة “العيش في الشتات” ليست واقعية طوال الوقت؛ فليس كلّ المهاجرين على ارتباط وثيق بأوضاع وقضايا بلادهم الأصلية ومنعزلين ثقافياً وشعورياً عن الواقع المحيط بهم، فهناك كثيرون منهم هم أكثر التصاقاً بالقضايا المحلية للبلد الذي يعيشون فيه.
ومن ثمّ يصبح الحديث عن الهجرة كظاهرة عامة محض إغفال للوضع الطبقي الذي يخترق جماعات المهاجرين رأسياً، ويبرز فروقاً هائلة بين أبناء الشرائح العليا من الطبقات الوسطى في العالم الثالث، الذين يهاجرون من أجل الدراسة أو الالتحاق بوظيفة مرموقة وبين الفقراء الهاربين من جحيم العيش في بلاد مُمزقة سياسياً ومُستنزفة اقتصادياً.

اقرأ أيضاً: هل فقدت سيرورة العولمة زخمها؟
كما أنّ العالم اليوتوبي الذي جذب المهاجرين من البداية لم يقابلهم بما يتمنونه؛ فالحكومات الغربية، وعلى رأسها ألمانيا، التي تحاول التصالح مع ماضيها بفتح حدودها أمام المهاجرين، أصبحت مرعوبة من تقويض ثقافتها الأوروبية ومن الاستياء الشعبي، وصعود اليمين المعادي للغرباء، وأقدمت على اتخاذ إجراءات تتنافى مع قيم التحرر التي تدّعيها، ومنها دفع مزيد من الأموال لتركيا ومصر لاستقبال غير المرغوب فيهم من اللاجئين، الذين لم يملكوا المؤهلات اللازمة لخدمة الاقتصاد الألماني.
والاستياء الشعبي من المهاجرين لا يأتي من مجرد التوجس من المختلفين ثقافياً؛ بل إنّ جذوره تضرب في ديناميكيات الحياة الحديثة القائمة على المخاطرة التي أصبحت بمثابة هوية (عملية) للمجتمعات الغربية؛ حيث إنّ جانباً مهمّاً في الليبرالية الجديدة هو انفتاحها على ما يعدّ عفوياً وجانحاً نحو المخاطرة، كما يقول المنظّر الألماني أولريش بريك.

اقرأ أيضاً: الاستلاب في ظل العولمة: كيف أفقر الإنسان نفسه؟
ومجتمع المخاطرة الذي قدمته النيو ليبرالية إلى عصرنا، باعتباره عالم الفرص الجديدة غير المتمركزة حول الدولة، التي تكافئ الأفراد الذين هم على استعداد دائم للمخاطرة ومرونة على التكيف مع سوق العمل المتقلبة واعتقاد يقيني في قدراتهم الفردية، بعد أن فقدوا إيمانهم بالدولة، هو في الحياة الواقعية العالم الذي تنسجم فيه مسألة عدم اليقين مع خبرات الأشخاص العاديين الحياتية؛ حيث يجبرون على العيش في حالة من القلق المزمن حول مستقبلهم المهني والوظيفي.
في المحصلة؛ شجّعت كلّ هذه المشكلات، الاقتصادية والاجتماعية، البلاد التي أقدمت على فتح حدودها الاقتصادية على العودة للقومية الاقتصادية، والبلاد التي انفتحت على السوق بحذر من قبل على التمترس خلف حدودها الجيوسياسية، والإجراءات الصارمة التي تتخذها الصين في الحفاظ على سوقها والتحكم الحديدي في عملتها ومصارفها وتلاعبها بمعايير التجارة الدولية، والردود الأمريكية على ذلك بمراقبة الأسواق ووضع العراقيل أمام المنتجات الصينية، وما أسفر عن ذلك من حرب تجارية بين البلدين، يدعم (ولو على سبيل الاحتمال) ما يذهب إليه طيف من النقاد الثقافيين، بأنّ زمن القمة بالنسبة إلى العولمة في سبيله للمُضيّ، وأنّها ستواجه أفولاً هادئاً حين تفقد وظيفتها، وهي تفقدها بالتدريج.

سەنتەری زەھاوی

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً