البحوث

نشاة الصهيونية المسيحية والتقاء أهدافها الدينية بأهداف أوروبا الإستعمارية

 

أ.د. فرست مرعي

عضو الهيئة العامة لمركز الزهاوي

لم تكن عودة اليهود إلى أرض الميعاد يهودية في الأصل، بل كانت مسيحية أوروبية، نشأت مع نشوء حركة الإصلاح الديني البروتستانتي الذي وجدت فيه السلطات الأوروبية، منذ القرن السادس عشر، مناخاً شعبياً أوروبياً مؤاتياً للتوسع الاستعماري بعد الانتقال من النظام الإقطاعي إلى النظام الرأسمالي الذي ولدت في أحضانه الصهيونية اليهودية وحاكته في المنحى الاستعماري الاستيطاني. كانت العودة قبل عصر القوميات إلى الأرض المقدسة تعني لليهودي التقي الذهاب إلى فلسطين للتعبد بانتظار مجيء المسيح الذي سيعيد بناء الهيكل عن طريق معجزة إلهية.

فالفكرة الدينية الراسخة عند غالبية اليهود استمرت حتى بعد ظهور البروتستانتية بأن العودة ستكون بإرادة رب الجنود الا بالقدرة ولا بالقوة بل بروحي قال رب الجنود (زكريا6/4 )، بينما ارتأت حركة الإصلاح الديني البروتستانتي العكس تماماً بجعل العودة بقدرة بشرية، وهو الأمر الذي أخذت به الصهيونية اليهودية لاحقاً.

يرجع ظهور الصهيونية اليهودية السياسية، كأداة إيديولوجية لكسب التأييد الدولي من أجل إقامة دولة يهودية في فلسطين إلى عام 1896م حين نشر الدكتور ثيودور هرتزل(1860 – 1904م) كتابه الدولة اليهودية، وقويت شوكة الصهيونية السياسية عندما وافق المؤتمر الصهيوني الأول الذي عقده هرتزل عام 1897م  في مدينة بازل السويسرية على البرنامج الصهيوني الذي كان يدعو إلى وطن قومي آمن ومعترف به قانونياً لليهود في فلسطين. ولئن كانت معظم الكتابات الصهيونية اليهودية قد ظهرت خلال النصف الثاني من القرن التاسع عشر، فإن غير اليهود كانوا قد طوروا الأفكار والبرنامج السياسي لما أصبح يعرف فيما بعد بالصهيونية السياسية اليهودية. والواقع أن غير اليهود كانوا قد بدأوا في نشر الفكرة الصهيونية عن الوعي القومي اليهودي الموجه نحو فلسطين قبل عقد المؤتمر الصهيوني الأول بثلاثة قرون، ولولا انتشار هذه الفكرة واختمارها في الأوساط المسيحية الأوروبية لما تمكنت الصهيونية من تحقيق أهدافها ولبقيت فكرة طوباوية غير قابلة للتحقيق. وللسبب نفسه فإنه ما كان للوبي الصهيوني في الولايات المتحدة أن يبلغ مستوى النفوذ الذي بلغه، لولا الحقيقة البسيطة الواقعة اليوم، وهي أنه يعمل في بيئة سياسية ملائمة إلى أقصى حد للأفكار الصهيونية[1]. وهذه البيئة مشبعة بالأفكار اللاهوتية بين العديد من الطوائف البروتستانتية التي تدفع معتنقيها لمعاضدة إسرائيل، التي هي في منظورهم تحقيق للنبوءات التوراتية .

أضواء على حركة الإصلاح الديني البروتستانتية

برزت الجذور الاجتماعية السياسية للصهيونية غير اليهودية أولاً في المحيط الديني الذي كان سائداً في الدول الأنكلو ساكسونية البروتستانتية. ومع الأيام تطورت هذه الأفكار وأصبحت جزءاً راسخاً من الثقافة الغربية، مع أن الصهيونية لم تهجر ميدان الدين والرمزية إلى العمل في السياسة إلا في القرن التاسع عشر، وكان هناك توافق بين الصهيونية كعقيدة قومية والسياسة الاستعمارية السائدة .

 

والأساطير الصهيونية التي بدأ غرسها في المرحلة السابقة للمؤتمر الصهيوني الأول بثلاثة قرون في البيئة غير اليهودية، كانت متوافقة مع تلك التي أصبحت تشكل في النهاية المنطلق الروحي الباطني للصهيونية اليهودية السياسية، وهي أساطير” الشعب المختار” و”الميثاق وعودة المسيح المنتظر”، وقد جعلت أسطورة الشعب المختار اليهود أمة مفضلة على الآخرين، بينما كانت أسطورة الميثاق تركز على الارتباط السرمدي الدائم بين الشعب المختار والأرض المقدسة كما وعد الله، وبذلك منحت فلسطين لليهود كأرض كتبت لهم. أما أسطورة عودة المسيح فقد كفلت للشعب المختار أن يضع حداً لتشرده في الوقت المناسب ليعود إلى فلسطين لإقامة وطنه القومي هناك إلى الأبد.

لقد بدأت الصهيونية غير اليهودية تتخذ شكلاً متميزاً في أوائل القرن السادس عشر حين تضافرت حركة النهضة الأوروبية وحركة الإصلاح الديني على إرساء التاريخ الأوروبي الحديث. وقد أثار الاهتمام بالأدب التوراتي وتفسيره اهتماماً عاماً باليهود وعودتهم إلى فلسطين. وعلى ذلك، لم يعد تحرير اليهود – إعطاء حقوق المواطنين – هو لب المسألة اليهودية في القرن السادس عشر، بل الدور الذي كتب على اليهود أن يقوموا به بشأن القضايا الجديدة لتحقيق نبوءات التوراة واليوم الآخر وعودة المسيح. وعلى هذا، فإن حركة الإصلاح الديني البروتستانتية، بإتاحتها الفرصة للنهضة اليهودية القومية وعودة اليهود الجماعية إلى فلسطين هي التي ابتدأت سجلاً جديداً للصهيونية غير اليهودية كعنصر مهم في اللاهوت البروتستانتي والإيمان بالأخرويات كالموت والخلود ونهاية العالم واليوم الآخر[2]. وتقف هذه الأطروحات البروتستانتية اللاهوتية على طرفي نقيض مع الأطروحات الكاثوليكية التي سنتعرض لها من الناحية اللاهوتية ومن المواقف الفاتيكانية المتبدلة تجاه الصهيونية وإسرائيل .

رواد حركة الإصلاح الديني الستة الأوائل

  • جون ويكلف: ( 1328 -1384م)

مصلح ديني إنكليزي – ناهض الكنيسة الكاثوليكية منتقداً إياهاً لإحرازها الثروات قام بترجمة التوراة من اللاتينية إلى الإنكليزية واعتبرها الدستور الأعلى أو مصدر السلطة وأن الدين يؤخذ منها مباشرة. توسع في حركته وبعث دعاته وحملة عقيدته إلى إنحاء إنكلترا وخارجها ولقيت دعوته استجابة. عرف أتباعه بعد موته بجماعة اللولردية الذين كان لهم شأن في القرنين الرابع عشر والخامس عشر، وكان مجمل هؤلاء الأتباع من الفقراء. وفي سنة 1401م أصدر البرلمان قانوناً بشجبهم فقاموا بثورة محدودة النطاق قضي عليها في المهد سنة 1414 ، ولكن الحركة بقيت تعمل في الخفاء مدة من الزمن [3].

  • جون هس: (1469 -1536م)

كان من أوائل الذين تجاوبوا مع دعوة ويكلف في بوهيميا، واتسع نطاق دعوته من خلال عمله أستاذاً في جامعة براغ. ولقد لقيت آراؤه قبولاً لدى البعض ومعارضة عند البعض الآخر. غير أنه بقي ماضياً على نهجه وأصبح بذلك خصماً للبابوية. فأرسل إليه البابا حرماً يمنعه من التمتع بامتيازات عضوية الكنيسة، فأحرق هس هذا الحرم أمام الناس. ثم أتاه أمر يابوي بالحضور أمام مجمع ديني فرفض الاستجابة أول الأمر، ولكنه عاد قلبي وذهب بعد أن أناه عهد مقطوع يكفل له الأمان على حياته. فشرح عقائده أمام المجلس ودافع عن آرائه. ولكن رغم العهد الضامن له سلامة الحياة، فقد حكم عليه بأن يرفع على الوتد ويحرق حياً، ولقد تركت مينته هذه صدى في أرجاء أوروبا [4].

  • دريداريوس اراسموس: (1469 – 1536م)

راهب كاثوليكي هولندي المولد، كان عالماً إنسانياً وأستاذاً، تبحر في اللغتين اليونانية واللاتينية ووضع فيهما عدة كتب، ولقد أوقعه موقفه من حركة الإصلاح البروتستانتية في خصومة مع مارتن لوثر، وعلى الرغم من شدة تمسكه بالكنيسة الكاثوليكية فقد نقدها نقداً واسعاً ولم ينفصل عنها رغم إقراره بوجود العديد من النقائص فيها، لأنه كان يعتقد أن هذه النقائص تزول بالإصلاح والتدارك [5].

  • مارتن لولر : (1483 – 1546م )

هو راهب أغسطيني عمل أستاذاً للاهوت في جامعة وتنبرغ بألمانيا. وفي عام 1517 شن هجوماً عنيفاً على البابوية المتمثلة آنذاك بالبابا بيوس العاشر (1513 – 1521م) ، لبيعها صكوك الغفران معترضاً بخمسة وتسعين بنداً علقها على باب الكاتدرائية، فعاقبه البابا بالحرمان، فلم يعبأ بالأمر، وقام بترجمة التوراة من اللاتينية إلى الألمانية، وهو أمر تكمن خطورته في ناحيتين الأولى : إحلال اللغة الألمانية في الكنيسة بدل اللاتينية التي لا يفهمها الشعب والثانية أن لوثر لما قام بهذا العمل كانت الألمانية كناية عن لهجات متفرقة فاستعمل لوثر ما اختار من اللهجات الألمانية في الترجمة، وأصبحت فيما بعد، اللهجة التي اختارها هي اللغة الألمانية السائدة المعاصرة. ولقد ساعد على ذلك انتشار الطباعة الآلية التي استخدمها بتلك اللهجة لبث أفكاره التي وجد فيها الأمراء الألمان الفرصة الذهبية للتخلص من هيمنة الكنيسة على الشعب بدل هيمنتهم، ونتج عن ذلك أن الطريق صارت تعهد أمام أولئك الأمراء ليستولوا على الكنائس الجديدة، وهم مرجعها بدلاً من روما، وأخذت البلدان الأوروبية الشمالية تنفصل عن روما الواحدة بعد الأخرى، وإذا بحلقات السلسلة تضم بالتالي بريطانيا واسكتلندا وأسوج وتروج والدانمرك وبوهيميا وشمالي ألمانيا. وأصبح بذلك الإنسان المسيحي الأوروبي المنشق عن روما، من طبعه المستمد من تعاليم المسيح أن يرفض التدخل في أمره، سواء كان المتدخل السلطة الدينية أم الزمنية، ولذلك صارت تتعدد المذاهب البروتستانتية. وقد رفض أصحاب هذه المذاهب الطقوس الكاثوليكية، ومثلوا دوراً كبيراً في سياسة البلاد في إنكلترا في القرنين السابع عشر والثامن عشر، وقطعوا رأس الملك شارل الأول (1649)، ويقيت إنكلترا إحدى عشرة سنة تحت حكم جمهوري بروتستانتي [6].

كان مارتن لوثر كمؤسس وزعيم لحركة الإصلاح البروتستانتي مسؤولاً إلى حد بعيد عن ظهور مناخ القرن السادس عشر الروحي والديني الجديد الذي أوجد أرضاً خصبة للأفكار الصهيونية الأولى. ومما يظهر ميوله اليهودية حماسه لدراسة اللغة العبرية وتفضيله المباديء اليهودية البسيطة على تعقيدات اللاهوت الكاثوليكي، وتأكيده على تمركز الكتاب المقدس في الحياة المسيحية. وهو الأمر الذي حمل البابويين على وصمه بأنه “يهودي” . ومن ناحية أخرى كان لوثر يتهم خصومه في حركة الإصلاح بالتهود، وبخاصة المعمدانيين وعلماء اللغة والدراسات العبرية الليبراليين في الجامعات الألمانية الذين كانوا يوجهون النقد لترجمات لوثر للعهد القديم العبري. ويمكن تقسيم كتابات لوثر عن اليهود إلى فترتين متميزتين: ما قبل 1537م وما بعده، ففي عام 1523م كتب لوثر (المسيح ولد يهودياً)، الذي أعيد طبعه سبع مرات في العام نفسه، وقد شرح في هذا الكتيب المواقف المؤيدة لليهودية، وأدان اضطهاد الكنيسة الكاثوليكية لليهود محتجاً بأن المسيحيين واليهود ينحدرون من أصل واحد، وكان هدفه النهائي تحول اليهود للمسيحية أي البروتستانتية.

لكن موقف لوثر من اليهود أصبح أكثر قسوة في القسم الثاني من حياته، فقد أثارت حفيظته الأنباء القائلة إن اليهود كانوا يجمعون الأنصار لعقيدتهم من خلال حركة المسيحيين المتشددين (sabbatarians) في مورافيا بدلاً من أن يرتدوا للمسيحية،  ففي عام 1544م ألف كتابه فيما يتعلق باليهود وأكاذيبهم لمواجهة التحديات الموجهة للوثرية، وقد تداخلت في هذا الكتاب الصهيونية واللاسامية بشكل غريب :”من الذي يحول دون اليهود وعودتهم إلى أرضهم يهوداً؟ لا أحد، إننا ستزودهم بكل ما يحتاجون لرحلتهم لا لشيء إلا لنتخلص منهم. إنهم عبء ثقيل علينا وهم بلاء وجودنا “[7].

وكان مارتن لوثر حاداً في تعنيفه لليهود، وقد اتهمهم بالتحجر، وطالب المسيحيين بالكف عن مجادلتهم لأنهم خالون لم يتعظوا بكل العقوبات التي أزلها الله بهم، وحملته على التبروء مهم [ لأنكم لستم شعبي]، (هوشع: 1 -9)، فلا أمل في إصلاحهم، ولا أمل في اعترافهم بمجىء المسيح الذي سماهم ” أولاد الافاعي”، وفي إنجيل يوحنا يقول لهم المسيح داحضاً تباهيهم بأنهم نسل ابراهيم:[ لو كنتم أولاد إبراهيم لكنتم تعملون أعمال إبراهيم]، (يوحنا 8: 39)، ويتابع قائلاً:[ أنتم من أب هو إبليس وشهوات أبيكم تريدون أن تعملوا]، (يوحنا8:44). فعلى الشعب أن يحذر هؤلاء اليهود القساة القلوب المغضوب عليهم، والضرورة تقضي بالتخلص منهم.

استمر الوئام بين لوثر واليهود خمسة عشر عاماً، وعندمل انبرى الى مهاجمتهم كانت أفكار النبؤات التوراتية، والاعتقاد بمقولات” الشعب المختار” وعودته إلى “أرض الميعاد” لاقامة مملكة إسرائيل توطئة لمجيء المسيح الثاني، قد ترسخت في ألمانيا وبقية أنحاء أوروبا، ومن المعلوم أن يهود أوروبا ليسوا من العرق السامي، كما يقول الكاتب العبري في القرن الحادي عشر ميلادي، (يافث بن آلي) وأنهم من الخزر الذين اعتنقوا الديانة اليهودية بعد تهود ملكهم (بولان) عام 740م[8]. ومن الطبيعي أن تنشأ علاقة وثيقة بين اليهود وحركة الإصلاح الديني البروتستانتية، ولعل المؤرخ الامريكي المشهور “ول ديورانت” ( 1885 – 1981م) يلقي الضوء بشكل واضح على مدى تأثير اليهود في حركة الإصلاح الديني فيقول: “وبلغ تأثير اليهودية ذروته في الإصلاح الديني، ومن الوجهة الدينية كان هذا الإصلاح رجوعاً إلى أصل العقيدة البسيطة والأخلاق الصارمة في صدر المسيحية اليهودية، فإن عداء البروتستانتية للصور الدينية والتماثيل كان عوداً إلى عداء السامية للصور المنحوتة، واحتفلت بعض الفرق البروتستانتية بيوم السبت (مثل اليهود)، وإن إنكار عبادة العذراء وعبادة القديسين، ليقترب كثيراً من التوحيد الصارم عند اليهود، كما أن ارتضاء القساوسة الجدد للزواج والجنس، جعلهم أشبه بأحبار اليهود، منهم بالكهنة الكاثوليك، إن نقاد رجال الإصلاح الديني اتهموهم (بالتهود) وأسموهم أشياء اليهودية، أو أنصاف اليهود”.

والمعروف أن المذهب البروتستانتي هو السائد في معظم دول أوروبا الغربية (= بريطانيا والمانيا وهولندة والسويد والنرويج والدانمرك وغيرها)، كما أنه المذهب الذي يشكل أتباعه ما يقارب مائة وخمسون مليوناً في الولايات المتحدة الأميركية، وينحدرون من أصل أنكلوسكسوني، هؤلاء البروتستانت هم أصحاب القرار في الولايات المتحدة الأميركية، والعالم الرأسمالي لأنهم يملكون 80% من الفعاليات الاقتصادية في الولايات المتحدة الأميركية، ولذا فإن السياسة الأميركية، بتوجهاتها الرئيسية وحتى الفرعية، تستمد مصداقيتها من مواقف البروتستانت، ولما كانوا يؤمنون بالعصر الألفي السعيد وبضرورة، إقامة مملكة إسرائيل في فلسطين، توطئة لظهور المسيح المخلص ويعتبرون ذلك واجباً دينياً مقدساً، فمن هنا تأتي خطورة مواقفهم، تجاه القضايا  الإسلامية للأمتين العربية والاسلامية، وفي مقدمتها القضية الفلسطينية [9].

  • أورليخ زوينكلي : (1483 – 1531م)

هو مصلح ديني سويسري بروتستانتي. ولقد كان راهباً انتهى به الاعتقاد، كما انتهى بغيره من زعماء الثورة البروتستانتية إلى أن الدين ينبغي أن يؤخذ من التوراة مباشرة بلا وسيط. وفي زوريخ قاوم الطقوس الكنسية الكاثوليكية، وندد باستعمال الصور والأيقونات، ولم يقر امتناع الإكليروس عن الزواج، وناهض البابوية والرهبانية، وشدد على أن الفرد مسؤول عن معتقده، وفي حركته لقي العون والعطف من السلطة المدنية في سويسرا قدمت له الزعامة البروتستانتية في سويسرا وجنوب ألمانيا. كان هدفه تأسيس كنيسة على أساس جمهوري يسنده شعب الكنيسة، واشتملت خططه على إصلاح سياسي يوائم انتشار البروتستانتية في أوروبا، ولكن تعاليمه التي نشرها استغرقها بعد زمن قليل مذهب كلفن [10].

  • جون كالفن: (1509 – 1564م)

لاهوتي فرنسي بروتستانتي تخلى عن الكثلكة ودخل في البروتستانتية وأصبح أحد زعمائها، ولقد اضطرته المضايقات للهجرة إلى سويسرا. وفي جنيف وضع كتابه (قواعد الكلفينية اللاهوتية)، وذهب فيه إلى أن التوراة هي المصدر الوحيد لشريعة الله، وواجب الإنسان أن يترجم هذا بالعمل ويحفظ النظام في حياته الدنيوية، وفي جنيف أنشأ حكومة قائمة على الشريعة التوراتية، وقال: إن الخلاص إنما هو بالإيمان وحده، وفي كتابه قواعد الدين المسيحي، تكلم عن القضاء والقدر؛  لذلك نشأت فجوة بين مفاهيمه ومفاهيم لوثر. والكلفينية تختلف عن الكثلكة اختلافاً جوهرياً بقولها إن الخلاص إنما هو لمن يختارهم الله . انتشرت الكلفينية في إسكتلندا باسم العهديين (Convenonters)، وفي بريطانيا باسم المتطهرين (Puritans)، وعرفوا في فرنسا باسم الهوكونوط (Huguenots).

ومن جهته  يذهب ليونارد يونغ (1885 – 1961م) في كتابه: (أفتك من القنبلة الهيدروجينية)، الصادرة طبعته الأولى في لندن عام 1956م، إلى أن كالفن من أصل يهودي كان اسمه كوهين، وقد نشط وأتباعه في نشر أفكار حركته المتشحة بصبغة دينية مسيحية في ظاهرها، ولكنها في باطنها تعتمد على روح الشريعة الموسوية، ونظام السبت وقواعد التوراة. ثم نشأت عن هذا كله، بعد زمن، فرق بروتستانتية بالعشرات، وظهر من هذه الفرق من كان نصيراً للصهيونية اليهودية بقوة وباليهودية العالمية [11].

كان من أثر حركة الإصلاح الديني البروتستانتية أن الكنيسة الكاثوليكية لم تعد تدعي بأنها عالمية. وللمرة الأولى لم يعد اليهود أشد الأقليات الدينية اضطهاداً، إذ واجهت مجموعات مسيحية منشقة كالمعمدانيين وفرق بروتستانتية أخرى المصير نفسه. وخلال الحروب الدينية أصبح ما يتعسر تحقيقه بالعقل والإدراك السليم يحل في ميدان المعارك. وقد تضافر سلام أوكسبرك (1555م)، ومجلس ترانت (1547 – 1563م)، ومعاهدات وستفاليا (1648م)؛ على جعل المجتمع الأوروبي علمانياً، وانبثق التسامح من الضرورة السياسية، وكان لذلك تأثير إيجابي في الحياة اليهودية [12].

المعتقدات الأساسية للصهيونية المسيحية

أضفت تفسيرات بعض الطوائف البروتستانتية الغربية للتوراة في القرن السادس عشر صبغة سياسية على الكتاب المقدس تركزت حول اعتبار اليهود أمة وليسوا جماعات تعتنق الديانة اليهودية، وأنها أمة مفضلة على بقية الأمم لأن “اليهود الشعب الله المختار”، وأنه يتوجب انبعاث هذه الأمة وعودتها إلى موطنها الأصلي حسب الوعد الإلهي إلى أرض الميعاد، وفقاً للميثاق الإلهي الذي يربط اليهود بهذه الأرض التي وعد الله إبراهيم وذريته من اليهود بها. وافترضت التفسيرات التوراتية لدى بعض الطوائف البروتستانتية بأن عودة اليهود إلى فلسطين مقدمة ضرورية لمجيء المسيح الثاني. وترسخت هذه المعتقدات عند الصهاينة المسيحيين بدءاً من القرن السادس عشر الميلادي، وبذلك لم يعد اليهود في المفهوم الصهيوني المسبحي مجرد أتباع ديانة معينة، بل غدت معتقداً سياسياً بعد أن كان ذلك معتقداً لاهوتياً، ولا يزال المعتقد الديني السياسي هذا متنامياً باطراد في الولايات المتحدة الأميركية، وعاملاً مؤثراً في صناعة القرارات الداعمة بلا حدود لإسرائيل .ومن اللافت للنظر إبان الفترة الأولى من حركة الإصلاح الديني البروتستانتية أنهم جردوا الكتاب المقدس من أية صبغة سياسية، ورأوا أن عودة المسيح بعد عودة اليهود إلى أرض الميعاده شأن مرتبط بالمشيئة الإلهية لا البشرية [13].

مقولة العصر الألفي السعيد

كان من بين النتائج البارزة للإصلاح الديني البروتستانتي ظاهرة الاهتمام بتحقيق النبوءات التوراتية المتعلقة بنهاية الزمان. وكان جوهر العصر الألفي السعيد هو الاعتقاد بعودة المسيح المنتظر الذي سيقيم مملكة الله على الأرض التي ستدوم ألف عام. واعتبر المؤمنون بالعصر الألفي السعيد أن مستقبل الشعب اليهودي أحد الأحداث الهامة التي تسبق نهاية الزمان. والواقع أن التفسير الحرفي لنصوص سفر الرؤيا قادهم إلى الاستنتاج بأن عودة اليهود كامة إسرائيل إلى فلسطين هي بشرى الألف عام السعيدة، لكن ارتداد اليهود للمسيحية عنصر هام لتحقيق ذلك، بل إن بعض الفرق البروتستانتية كانت تصرعلى اعتناق اليهود للمسيحية قبل بعثهم، بينما اعتقد آخرون أن ذلك سيتم بعد عودتهم إلى فلسطين. بيد أن هذه المقولات كانت مرفوضة كلياً في المفهوم الكاثوليكي. ومع ذلك استمرت مقولات العصر الألفي السعيد في الانتشار واستقطاب الأنصار، وبلغت الذروة خلال القرن العشرين عند أصحاب مذهب العصمة الحرفية الأميركي الذي يزعم أصحابه أن ولادة دولة إسرائيل هي التحقيق الواقعي للنبوءة في العصر الحديث [14].

وفي إنكلترا توطدت أقدام حركة الإصلاح الديني بعد إقدام الملك هنري الثامن (1491 – 1547م) على الانفصال عن البابوية في روما. وكانت بعض الطوائف كالمعمدانيين والفرانكيين تعبر عن آمالها بالمسيح المنتظر في القارة الأوروبية، لكن الكنائس اللوثرية والكالفينية الرسمية كانت تضطهدها بعنف باعتبارها قوى مارقة، حتى إن “مايكل سيرفتس” (1509 – 1553م) أحرق حياً لاتهامه بأنه يهودي معاد للثالوث. وفي عام 1589م لقي “فرانسيس كت” المصير نفسه في إنكلترا. وكان الرجلان من الموحدين، وكتبا عن بعث اليهود، وكان كل منهما يرى أن جمع شعب الله المختار إنما يعني حرفياً الشعب اليهودي. وفي حين تعرضت جماعات هذه الفرق للقمع في هولندا وسويسرا وألمانيا، إلا أنها في إنكلترا الإنجليكانية لم يتم قمعها، وسرعان ما حظيت باحترام كبير في الأوساط البريطانية .

ولم يكد يمر عقد على مصير ( فرانسيس كت) التعس الذي اعتبر واحداً من المارقين المؤمنين بالعصر الألفي السعيد حتى ظهر “توماس برایتمان” (1562– 1607م) وهو عالم لاهوت ذو شأن، وتناول الموضوع الذي كان يلمح له كت بشكل مفصل، فقد كتب مباشرة عن البعث اليهودي في كتابه المبني على سفر الرؤيا (apocalypsis apocalypscos)  وقال إن اليهود كشعب سيعودون ثانية إلى فلسطين وطن آبائهم الأوائل “لا من أجل الدين، كما لو أن الله لا يمكن أن يعبد في مكان آخر، بل لكي لا يكافحوا كغرباء ونزلاء لدى الأمم الأجنبية “[15].

وكان لبريتمان الأب الروحي لعقيدة بعث اليهود البريطانية، أتباع كثيرون من معاصريه من بينهم أعضاء في البرلمان. وقد وافق أحد هؤلاء وهو (السير هنري فتش) على ما جاء في كتاب برايتمان، ونشر في عام 1621م كتابه المثير للجدل ((البعث العالمي الكبير أو عودة اليهود ومعهم)) كل أمم وممالك الأرض إلى دين المسيح)). وجاء في هذا الكتاب: “حيث تذكر إسرائيل ويهودا وصهيون والقدس في الكتاب المقدس) فإن الروح المقدسة تعني إسرائيل الروحية أو كنيسة الله التي تتكون من المسيحيين أو اليهود أو منهم معاً، ولكنها تعني إسرائيل التي انحدرت من صلب يعقوب. وينطبق الشيء نفسه على عودتهم إلى أرضهم وقواعدهم القديمة وانتصارهم على أعدائهم … سيقيمون الكنيسة المجيدة في أرض يهودا نفسها … هذه التعبيرات وأمثالها ليست مجازات وأقوالاً  تفوه بها المسيح، ولكنها تعني اليهود فعلاً وقولاً”[16].

ورفض( فنش) بشكل قاطع تفسير أوغسطين المجازي وأصر على أن الله كان يعني، طبقاً للنبؤة التوراتية، إعادة اليهود جماعياً وقومياً الى وطنهم السابق بشكل فعلي:” إنها ليست قلة مبعثرة هنا وهناك، بل… الامة بشكل عام. سيعودون الى وطنهم…وسيعمرون كل إجزاء الارض كما عمروها من قبل… سيعيشون بسلام وسيبقون هناك للأبد.

من الملاحظ أن (فنش) مزج بين الدين والسياسة، وقد استعمل التعبيرات الصهيونية لاستمالة معاصريه من اليهود، ومع ذلك لم تلق دعوته استجابة من اليهود.  وعلى الرغم من تراجعه عن طروحاته التي رأى فيها الملك ” جيمس الاول” (1603 – 1625م) انتهاكاً شخصياً واعتداء على حقوقه كحاكم مطلق؛ إلا أن تلك الطروحات رسخت تدريخياً في الحياة الروحية البريطانية، ووصلت عصرها الذهبي في العهد البيوريتاني اللاحق، حيث سادت مقولة العصر الالفي السعيد.

كان المصلحون الأوائل يظهرون الحب لشعب الله المختار، ولكنه لم يكن حباً نابعاً من قلقهم على اليهود بل لدورهم المرسوم لهم في خطة الله كما أوحى بها وعده لهم، وكان ارتداد اليهود إلى المسيحية لا يزال الهدف النهائي. لذلك فقد كان (فنش) يرى أن هذا الأمر سيتم على أسس مسيحية رغم تفکیره بمستقبل باهر للشعب المختار. وقد حدد ذلك بوضوح في مقدمة “البعث العالمي العظيم”.

إن الله يتغاضى من أيام خطيئتكم يدعوكم بكل وسيلة للتوبة وهدفه أن يجمعكم من كل الأماكن التي تفرقتم فيها شرقاً وغرباً وشمالاً وجنوباً وأن يعيدكم إلى وطنكم ويضمكم إليه عن طريق الإيمان إلى الأبد[17].

الثورة البيوريتانية التطهرية في إنكلترا

وصلت النهضة العبرية ذروتها في عهد الثورة البيوريتانية بإنكلترا في القرن السابع عشر. وكانت البيوريتانية تمثل أشد أشكال البروتستانتية تطرفاً ومغالاة في إجلال الكتاب المقدس وإعطاء الأولوية للعهد القديم، تماماً كما كانت الحالة في جنيف في عهد الكالفنيين الذين ورثتهم . وكان البيوريتانيون، كأتباع كلفن، يستشهدون بالعهد القديم لدعم أفكارهم السياسية وأصبح كومنولث القديسين في جنيف هو جمهورية القديسين البيوريتانية وأصبح العهد القديم (التوراة) كتابهم الوحيد وأدبهم الوحيد وغذاءهم الفكري والروحي، ومرشدهم وفيلسوفهم وصديقهم وحجتهم القانونية ومحكمة استئنافهم العليا. ولقد تغلغلت التعابير العبرية في الحديث الإنكليزي، كما أن بعضهم اعتبر اللغة العبرية الوحيدة للصلاة وتلاوة التوراة. وظهر تفضيل البيوريتانيين للعهد القديم في العادات اليومية بالتخلي عن المبادىء الخلقية المسيحية والاستعاضة عنها بالعادات اليهودية. وقد طالبت مجموعة” اللفرز” levellers البيوريتانية المتطرفة الحكومة بأن تعلن التوراة دستوراً للقانون الإنكليزي. وبعد أن حل كرمويل “البرلمان الطويل” عام 1653م استبدله بالبرلمان القصير المكون من القديسين فقط أي البيوريتانيين. وكان مجلس الدولة سيكون من سبعين عضواً أسوة بعدد أعضاء السنهدريم (المجلس الأعلى اليهودي القديم).

لم يعد الأطفال يعمدون بأسماء القديسين المسيحيين المحبوبين، بل أخذوا يحملون أسماء المقاتلين والبطارقة العبرانيين، وحولوا الاحتفال الأسبوعي الذي كانت تقيمه الكنيسة منذ زمن بعيد وتحتفل فيه بذكرى بعث المسيح إلى السبت اليهودي. وذهب بعضهم إلى أبعد من ذلك، فاعتنق اليهودية كما فعل (جون تراسك) وجميع أتباعه، وبعض الشخصيات المهمة كالفنان والرسام الشهير (الكسندر كوبر). وأصبح من المستحيل أن يتشرب المرء بتاريخ العهد القديم، وأن يسترجعه كوحي سماوي، ويعيش معه كمرشد يومي ولا يحترم الشعب المسؤول عن ذلك كله. وهكذا أخذت فكرة الشعب اليهودي المختار تلعب دوراً متميزاً في الفكر الإنكليزي البيوريتاني والنظام القائم[18] .

فلسطين من أرض مسيحية إلى أرض يهودية!!

مع اختمار أفكار الصهيونية المسيحية بفعل التأويلات البروتستانتية، بدءاً من القرن السادس عشر، لم تعد اليهودية مجرد ديانة بل أصبحت عقيدة لاهوتية سياسية، ولم يعد الكتاب المقدس مجرد كتاب ديني بل أصبح كتاباً سياسياً يتضمن مقولات الوعد الإلهي إلى “الشعب المختار” بأرض “الميعاد”، وراجت على نطاق واسع، ضرورة إعادة فلسطين لأصحابها العبرانيين طبقاً لنبوءات العهد القديم كمقدمة لمجيء المسيح الثاني. ولقد كان هذا الرواج في بريطانيا. على أوسع نطاقٍ، والجديد في الأمر أن فكرة العودة لم تعد مرتبطة بالمشيئة الإلهية، كما كانت من قبل، بل أصبح من الممكن أن تحصل بفعل بشري. وهكذا نجد التبدل الجذري في المفهوم الأوروبي، فبعد أن كانت النظرة الأوروبية إلى فلسطين بأنها أرض مسيحية مقدسة، والتي بسببها نشبت الحروب الصليبية، وتم إقصاء اليهود خلالها عن القدس، أصبحت النظرة الأوروبية الجديدة إلى فلسطين بأنها أرض يهودية تبعاً لتأويلات النبوءات التوراتية [19].

ولم يمض وقت طويل حتى شهدت إنكلترا البيوريتانية حركة منظمة تنادي بعودة اليهود إلى فلسطين. وعندما كتب المؤمنون بالعصر الألفي السعيد من أمثال: فنش، وكت، وبرايتمان عن البعث اليهودي في نهاية القرن، كان اليهود قلة ينظر إليهم بازدراء، أما الآن فقد أصبحت البيوريتانية بإيمانها بالعصر الألفي السعيد في مركز القوة، فقد لقيت فكرة البعث اليهودي قبولاً على نطاق واسع [20].

وفي عام 1649م  قدم كل من عالما اللاهوت الإنكليزيان البيوريتانيان (جوانا وايبنزر)، و(كارترايت) joanna     and ebenezer carturight  إسترحاماً إلى الحكومة البريطانية جاء فيه:” ليكن شعب إنكلترا وسكان الأراضي المنخفصة أول من يحمل أبناء وبنات إسرائيل على سفنهم إلى الأرض التي وعد بها أجدادهم أبراهيم وإسحاق ويعقوب لتكون إرثهم الأبدي، وكانت هذه هي المرة الأولى في تاريخ فكرة البعث اليهودي التي يقوم فيها عمل من صنع البشر على أنه الطريق الوحيد لتحقيق الهدف الذي كان يعتبره اليهود وغيرهم أمراً روحياً لا يتحقق إلا بتدخل العناية الإلهية”[21]؛ وكان أكثر من فوجئ بمضمون هذا الاسترحام البيوريتاني اليهود، لأنهم لا يفهمون “أرض الميعاد” على هذا النحو، وإنما هي بالنسبة إليهم مسألة روحية محضة لا علاقة للجغرافية بها على الإطلاق [22]. ولقد تضمن هذا الاسترحام طلبا بالسماح لليهود بدخول إنكلترا، وإلغاء قانون النفي الذي وضعه الملك أدوارد. لذلك سارت فكرة البعث اليهودي وفكرة إعادة السماح لليهود بدخول إنكلترا جنباً إلى جنب، وكان تفسير فقرات معينة من العهد القديم التي تتضمن أن تشتت اليهود قبل بعثهم شرط ضروري لخلاص إسرائيل النهائي وعودة المسيح المنتظر تؤكد هذا التناقض الظاهري، وهكذا كان على إنكلترا، البلد الوحيد الذي ليس فيه وجود يهودي ظاهري، أن تكون عوناً الله القوي في الإسراع بالحادث المنتظر[23].

وترى الكاتبة اليهودية الامريكية “بربارة توخمان ” (1912 – 1989م) أن فكرة البعث اليهودي، والسماح لليهود بدخول إنكلترا لم يكونا من أجل اليهود أنفسهم بل من أجل الوعد الإلهي المعطى لهم بالعودة التي كان ينظر إليها على أنها اعتناق اليهود للمسيحية، لأن هذه هي علامة تحقيق الوعد[24].

أوليفر كرمويل (1599 – 1658م) وصهيونيته المسيحية – السياسية

كان كرمويل بيوريتانياً منعصباً، وقد انتصر على جيش الملك تشارلز وحكم عليه بالإعدام، ولقد تبنى طلب الاسترحام الذي تقدم به اللاهوتيان البيوريتانيان آنفاً، وأثناء ترؤسه للكومنولت البيوريتاني (1649 – 1658م) دعا لعقد مؤتمر وايت هول في ديسمبر/ كانون الاول عام 1655م بغية إصدار تشريع يبيح لليهود العودة إلى إنكلترا، ولقد ضم المؤتمر شخصيات دينية وقانونية بارزة، بالإضافة إلى کرمويل نفسه، وكان من بين الحضور (مناسح بن إسرائيل) كبير حاخامات أمستردام، حيث قدما حججاً تؤيد عودة اليهود إلى بريطانيا. وكان هذا الحاخام قد أصدر كتابه (أمل إسرائيل) الذي ربط فيه بين الصهيونية المسيحية الإنكليزية البيوريتانية والمسيحية اليهودية الحقيقية، كما ربط بين التفكير اللاهوتي والسياسة العملية. كان مناسح على اطلاع تام على تعاليم البيوريتانيين الجديدة حول الأمور الآخروبة، ولم يكن يرى أن إعادة السماح لليهود بدخول إنكلترا هدف في حد ذاته، ولكنه خطوة نحو إعادة استيطانهم النهائي في فلسطين. وهكذا التقى التفكير اللاهوتي والمصالح السياسية بين البيوريتانيين وعلى رأسهم كرمويل، وطروحات الحاخام مناسح. ولقد راجت الترجمة الإنكليزية لكتابه (أمل إسرائيل) ونفدت ثلاث طبعات منه قبل أن تطأ قدما المؤلف أرض إنكلترا عام 1655م لأن الرأي العام البريطاني، بفضل البيوريتانيين، كان مهيا لتقبل طروحات الحاخام، ولا غرابة أن تلتقي المصلحة السياسية إلى جانب الدين والقانون، إذ نص مؤتمر (وايت هول) على أن السماح لليهود بدخول دولة بروتستانتية ينبغي ألا يكون “قانونياً” فحسب، بل أمراً نفعياً[25].

كان الكسب التجاري هو الحافز لكرمويل لفعل ما فعله، إذ إن الحرب الأهلية التي سبقت العهد البيوريتاني الحقت ضرراً بليغاً بمركز إنكلترا كقوة تجارية وبحرية، وكانت طبقة التجار البيوريتانيين تشعر بالغيرة من الألمان الذين وجدوا الفرصة سانحة للسيطرة على الطرق التجارية للشرقين الأدنى والأقصى .

وكان معروفاً آنذاك أن لليهود الألمان فضلاً في اتساع التجارة الألمانية مع بداية القرن السابع عشر. وعندما وافق كرمويل على السماح لليهود بدخول إنكلترا من جديد، كان منهمكاً بسلسلة من الحروب التجارية مع البرتغال والأراضي المنخفضة(= هولندة) وإسبانيا. وكان لدى كل من هذه الدول جماعة يهودية مهمة معروفة بثروتها ومواهبها التجارية وقيامها بعقود أعمال في الخارج. وعلى ذلك، فالتجار اليهود في إنكلترا قد يسدون خدمات له بعملهم جواسيس يزودونه بمعلومات عن السياسات التجارية للدول المنافسة له، وعن المؤامرات التي يديرها أنصار الملكية في الخارج، بفضل اتصالاتهم وتنقلهم في أوروبا. وكان هناك حافز آخر وهو رؤوس الأموال الضخمة التي يمكن أن يجلبها اليهود معهم لاستثمارها في الصناعة الإنكليزية

وعلى الصعيد ديني كانت اهتمامات كرمويل بجمع اليهود في إنكلترا تفوق اهتماماته بجمعهم في فلسطين. ونظراً لأن إنكلترا في عهده لم تكن امبراطورية بريطانية بعد، فإن اهتماماته لم تكن استعمارية بل تجارية محضة. وكانت الصهيونية البيوريتانية قانعة بإعادة اليهود مستقبلاً إلى فلسطين، ولم تكن ترى أن لإنكلترا دوراً سياسياً في تحقيق تلك العودة، اللهم إلا إذا كانت عودة اليهود لإنكلترا خطوة على هذه الطريق. وبقيت فكرة عودة اليهود إلى فلسطين كمقدمة لعودة المسيح المنتظر تحتل مكانة راسخة في العقيدة الدينية البروتستانتية، وأصبحت هذه الفكرة تستغل فيما بعد كستار للمصالح الاستعمارية في فلسطين التي ارتبطت بالمتطلبات الأساسية للامبراطورية [26].

ومن جانب آخر فقد تضاءلت أهمية اللغة العبرية في الحياة الإنكليزية في أعقاب موت كرومويل عام 1658م، لكنها لم تفقد جاذبيتها بالنسبة لكثير من المتعاطفين المسيحيين معها. وبعودة آل ستيورات للحكم عام 1660م هزمت البيوريتانية نفسها، ثم قضي عليها نهائياً في عهد الثورة المجيدة عام 1688م، ورغم ذلك استمرت عقيدة العصر الألفي السعيد المؤيدة للصهيونية، بل إنها ازدهرت في بيئة عصر العقل المعادية لها في القرن الثامن عشر. ولم تكن هذه العقيدة البيوريتانية مقتصرة على إنكلترا، فلقد امتدت إلى أرجاء أوروبا كافة، حيث كانت البروتستانتية راسخة في الإحساس الشعبي في الأراضي المنخفضة الكالفنية التي وجد فيها اليهود الهاربون من محاكم التفتيش ملاذا وترحاباً كحلفاء ضد العدو المشترك للملك الإسباني والكنيسة الكاثوليكية[27].

الصهيونية المسيحية في الأقطار الأوروبية

امتدت عقيدة العصر الألفي السعيد إلى الأراضي المنخفضة (هولندا) و(بلجيكا) التي كانت خاضعة للحكم الإسباني الكاثوليكي، وتمكن أتباع هذه العقيدة البروتستانتية من تثبت أقدامهم في تلك الأراضي بعد الثورة على هذا الحكم عام 1565 التي انتهت بانتصار القوات البروتستانتية عام 1609، وتكونت إثر ذلك جمهورية هولندية، وكانت الألفية البروتستانتية صفة مميزة للأيديولوجية الهولندية الكالفينية، فازدهرت الطوائف المتهودة خلال القرن السابع عشر وبلغت ذروتها في تأييد أدعياء المسيح [28].

وفي هولندا عاقب الحاخامون الفيلسوف اليهودي الأصل باروخ سبينوزا (1632 -1677م) بالحرمان بسبب ثورته الفكرية على تحجر اليهودية، ونفي من مدينة أمستردام بدعم من القساوسة الكلفانيين[29]. وفي فرنسا راجت عقيدة العصر الألفي السعيد، وبخاصة بين الهجنوت في المناطق الجنوبية، وكان ممثلهم البارز هو “إسحاق دي لابيرير” (1594 – 1676م) الذي كتب دعوة اليهود، ودعا إلى إحياء إسرائيل بتوطين الشعب اليهودي في الأرض المقدسة رغم اعتناقه النصرانية. وهناك عالم فرنسي آخرهو “فيليب جنتل لانكالير” (1656 – 1717م) دعا لتوطين اليهود في فلسطين على أن يعطى الخليفة العثماني مدينة( روما) بدلاً منها فاتهم بالخيانة العظمي. وتنبأ قسيس فرنسي آخر وهو “بيير جوريو” في كتاب له بإعادة تأسيس مملكة يهودية في فلسطين قبل انتهاء القرن السابع عشر. وفي ألمانيا واسكندنافيا راجت عقيدة العصر الألفي السعيد، وأصبحت مدينة هامبورغ مركز الحركة التقوية الألمانية الصوفية المرتكزة تعاليمها الأخروية على عودة الشعب اليهودي إلى فلسطين. وقد استغل مؤسس هذه الحركة “فيليب جاكوب سبنر” (1635 – 1703م) كتابات لوثر الأولى حول المسألة اليهودية من أجل تعزيز حب السامية كوسيلة لإغراء اليهود بالتنصر قبل عودتهم لفلسطين، لكنه كان يدعو إلى تفهم واحترام اليهود الذين يؤثرون التمسك بدينهم. وفي عام 1655م نشر بول فلجنهادر( 1593 – 1677م) كتابه (أخبار سعيدة لإسرائيل) الذي أكد فيه عودة المسيح المنتظر ووصول المسيح اليهودي حدث واحد. وكانت علامة ظهور المسيح اليهودي المسيحي حسب اعتقاد المؤمنين بالعصر الألفي السعيد هي “عودة اليهود الدائمة إلى وطنهم الذي منحه الله لهم من خلال وعده القاطع فإبراهيم وإسحاق ويعقوب”[30].

ومن شمال المانيا تسربت الافكار المسيحية – الصهيونية المتعلقة بعودة اليهود لفلسطين الى البلدان الاسكندنافية، ففي الدانمرك حث ” هولجر بولي” ملوك أوروبا على القيام بحملة صليبية جديدة لتحرير فلسطين والقدس من الكفار(= المسلمون) ونوطين اليهود وارثيا الشرعيين؟. وفي عام1696م قدم خطة مفصلة الى ملك انكلترا” وليم الثالث” () طالباً منه أن يعيد احتلال فلسطين من جديد ويسلمها لليهود لإقامة خاصة بهم.وكانت خطته تعد في ذلك الوقت محاولة جريئة للربط بين الطموحات الدينية لدعاة بعث اليهود والاحداث السياسية. وقد خاطب الملك الانكليزي بإسلوبه ولغته المسيحية قائلاً:” أي كورش العظيم يا أداة الله العظيم الذي بفضله سيولد المعبد الاخير من بين رماد معبد هيرود” ( في إشارة الى الملك الفارسي الاخميني كورش الذي سمح لليهود بالعودة من بابل الى فلسطين عام 539ق.م).

وفي السويد أرغم “أندرو بدرسي كمب”(1622 -–1689م) وهو ضابط سابق في الجيش تحول إلى اللاهوت على مغادرة ستوكهولم بسبب دوره في نشر حركة التبشير بالمسيح الألمانية. وقد استقر قرب هامبورغ حيث نشر عام 1868م كتابه (أخبار إسرائيل السارة) الذي كان هجوماً عنيفاً على المسيحية التقليدية  بالقول:” أيها المسيحيون الوثنيون، إنكم تسمحون لمعلمين مزيفين، وبخاصة روما أم الفسق، بأن يقنعوكم بأن الله حرم اليهود من الميراث وطردهم. وإنكم إسرائيل المسيحية صاحبة الحق في امتلاك أرض كنعان إلى الأبد. واستحث اليهود على أن يفرضوا على الآخرين الاعتراف بأنهم شعب الله المختار وأن يتهيأوا للعودة الدائمة إلى الأرض المقدسة “.

عمت أفكار العصر الألفي السعيد البلدان الأوروبية، لا سيما خلال حرب الثلاثين عاماً (1618 – 1648م) ، وراجت التوقعات المتعلقة بنهاية الزمان بين الطبقات الاجتماعية الأوروبية كافة. وعلى الرغم من حملات القمع التي تعرض لها دعاة هذه الأفكار، فإن كتاباتهم ساعدت على تعزيز فكرة العودة اليهودية إلى فلسطين، ولم يمض وقت طويل حتى بدأت الأمور العملية وهي موعد وكيفية العودة تحظى بأهمية.[31]

تغلغل أفكار الصهيونية – المسيحية في الثقافة الأوروبية

تزاوج في إنجلترا منذ زمن كرمويل عاملان أساسيان فيما يتعلق بعودة اليهود إلى فلسطين المنافع التجارية والكسب المادي من جهة، والعامل الديني المتوارث المبني على النبوءات التوراتية التي جرى تأويلها بشأن تلك العودة من جهة ثانية. ولم يغب الأثر الديني المتوارث رغم غياب كرمويل وعودة الملكية إلى إنكلترا، فلقد استمرت أفكار العهد القديم أكثر مصادر الإلهام لفناني العهد الجديد وشعرائه لا في إنجلترا فحسب، بل في القارة الأوروبية كذلك. وهكذا ظهرت معادلة فلسطين اليهودية بكل مضامينها الصهيونية في مختلف الفنون الأدبية. فهذا الشاعر “ملتون” (1608 – 1674م) في قصيدته الشهيرة (الفردوس المستعاد 1667) يعزف على وتر عودة اليهود إلى “وطنهم”. لقد قرر ملتون بشكل واضح أن إسرائيل ستعاد إلى فلسطين لا عن طريق الفتح، بل بتدخل قوة خارقة. وقصيدة ملتون عقدة النصرانية تظهر إيمانه الراسخ بالعصر الألفي السعيد. ولم يكن بمقدور ملتون كشاعر بيوريتاني في بيئة بيوريتانية إلا أن يختار هذا الموضوع ويعالجه كما فعل، إذ لم يكن يجد مشقة في خلق شخصياته التي كانت ماثلة في الخيال الشعبي. فشخصيات العهد القديم ك: موسى، ويوشع، وداود، وروث، ويعقوب، وأستير، أصبحت أسماء شائعة. ومن السهل ملاحظة تفضيل أنبياء اليهود على أبطال اليونان القدامي لدى قراءة مقتطفات من الأدب الأوروبي في القرنين السابع عشر والثامن عشر الميلاديين. وبعد جيل واحد فقط جدد (الكسندر بوب) هذه الفكرة عن المملكة اليهودية المستعادة في فلسطين في قصيدته المسيح، وكان تفسيره للنصوص التوراتية يستند إلى تعليلات لاهوتية لشخص المسيح، ولكنه ضمنها أوصافاً حية لنهضة إسرائيل كشعب وأمر واقع، وقد تصور بوب قدسه الجديدة مأهولة باليهود العائدين. واستعملت الصور الصهيونية الرفيعة عن القدس اليهودية الجديدة في ترانيم القرن الثامن عشر. وقرب نهاية هذا القرن خاطب “وليم بليك” (1757 – 1827) اليهود بهذه الأبيات:

“استيقظي يا إنكلترا، استيقظي استيقظي فأختك القدس تناديك . لماذا ينام هؤلاء المؤمنون كالأموات ويغلقونها عن جدرانك القديمة”[32].

وفي فرنسا ظهرت موضوعات عبرية توراتية في الأدب الفرنسي، وكان العهد القديم مصدراً لموضوعات (جين بابتيست راسين) وإلهامه الشعري، ويصور معاصره (جاك بناين بوسيه) في كتابه (دراسة في التاريخ العالمي عام 1861م) إسرائيل على أنها الأمة التي تعلو كل الأمم وأنها حجر الأساس في تاريخ العالم. وظهرت مسحة عبرية صهيونية في الأدب الألماني، وكان (هانس ساشس) قد طرق في كتابين موضوعات من التاريخ اليهودي. وكان للشاعر الألماني (جوتهولد أبهريم لسنغ) المنزلة العليا بين أقرانه في عصر التنوير الفلسفي، وروايته (ناثان الحكيم عام 1779م) تنتقل بالقارئ مباشرة إلى القدس موطن بطل الرواية اليهودية ناثان[33].

وخلال القرن الثامن عشر تغلغلت الروح الشعرية الصهيونية في الطقوس الدينية الألمانية، وكانت فكرة إعادة اليهود إلى فلسطين هي الفكرة المهيمنة في معظم ترانيم حركة التقوية البروتستانتية الجديدة. إذ إن معظم هذه الترانيم تصور التاريخ اليهودي في أبهى مراحله، بل إن النص الألماني كان يتضمن في أحيان كثيرة كلمات عبرية [34].

احتذاء العلماء والفلاسفة بالأدباء والفنانين

لم يقتصر التصهين المسيحي في أوروبا على الأدباء والفنانين، بل تعداهم إلى العلماء والفلاسفة، ذلك ما يبدو جلياً في كتابات علماء وفلاسفة القرنين السابع عشر والثامن عشر البارزين: كجون لوك، وإسحاق نيوتن، وجوهان جو تفريد هردر. فقد جاء في “تعليقات على رسائل القديس بولس” الذي كتبه (جون لوك) أن الله قادر على جمع اليهود في كيان واحد .. وجعلهم في وضع مزدهر بوطنهم. ومن المثير للعجب في عصر العقل والاكتشافات العلمية للقوانين الطبيعية في القرن الثامن عشر، مجاراة العلماء والفلاسفة للمهتمين بالتأويلات التوراتية المتعلقة بالأخرويات، وبوضعهم تفسيرات علمية خاصة لعودة اليهود إلى فلسطين .

فإسحاق نيوتن في كتابه “ملاحظات حول نبوءات دانيال ورؤيا القديس يوحنا” أشار إلى أن اليهود سيعودون إلى وطنهم، وذهب إلى أبعد من ذلك حين حاول أن يضع جدولاً زمنياً للأحداث التي تفضي إلى العودة، وتوقع تدخل قوة أرضية من أجل إعادة اليهود المشتتين. وذهب الفيلسوف “دافيد هارتلي” في كتابه “ملاحظات حول الإنسان وواجباته وتوقعاته عام 1749م” إلى اعتبار اليهود يشكلون كياناً سياسياً موحداً له مصير قومي مشترك رغم تشتتهم الحالي، وأضاف إلى الحجج النبوتية تفسيراته التاريخية والاجتماعية والنفسية الخاصة عن الشعب اليهودي الذي يعتبر كائناً حياً يرتبط أفراده معاً باللغة المشتركة والروابط التاريخية .أما القس الكيمائي (جوزيف برستلي)، فقد استمر على قناعة بأن اليهودية والمسيحية تكمل كل منهما الأخرى. ولذلك فقد كانت دعوته لليهود للاعتراف بأن يسوع هو المسيح المنتظر تقترن بدعائه بأن يضع إله السماء، إله إبراهيم وإسحاق ويعقوب الذي نعبده نحن المسيحيين كما تعبدونه أنتم حداً لمعاناتكم، يجمعكم ويعيد توطينكم في وطنكم أرض كنعان ويجعلكم أكثر أمم الأرض شهرة. وقد تصور برستلي فلسطين أرضاً غير مأهولة بالسكان، أهملها مغتصبوها الأتراك(= العثمانيون)، ولكنها مشتاقة ومستعدة لاستقبال اليهود العائدين.[35]

وتظهر دولة إسرائيل المستقبلة في كتابات “جان جاك روسو”(1712 – 1778م) البروتستانتي وفي كتابات “بليزباسكال” (1623 – ى1662م) فيلسوف الصوفية الكاثوليكية الفرنسية في القرن السابع عشر. فقد كان يفكر في دور الشعب اليهودي ويرى أن إسرائيل هي البشير الرمزي للمسيح المنتظر، وعبر عن احترامه الشديد لإنجازات اليهود الأمة الأولى. وقد وجه له “فولتير” (1694 – 1778م) نقداً عنيفاً في القرن الثامن عشر لتقديسه التاريخ اليهودي واعتباره الشعب اليهودي أقدم شعب عرفه الإنسان. وقد كان للعبرية تأثيرها على (جوهان جوتفرايد هارد ) الفيلسوف وعالم اللاهوت البروتستانتي الذي دفعه إعجابه بالعهد المقدس القديم إلى الادعاء بتفوق النبوغ العبري. ولقد صنف قدامى العبريين كامة فريدة مستقلة عن سائر الأمم ولها روحها الخاصة المتميزة. غير أنه في الوقت نفسه كان يضمر احتقاراً لليهود المعاصرين الذين أخفقوا في تأييد قوميتهم وإحساسهم القومي ولم يغلبهم الحنين لوطن الأجداد، رغم كل الظلم الواقع عليهم.

هذا الفهم لليهود واليهودية كأمة عضوية متكاملة، بدلاً من أن تكون ديانة، كان واحداً من السمات المميزة للفيلسوف ” عمانوئيل كانت” (1724 – 1804م) الذي وصف اليهود ذات مرة بأنهم الفلسطينيون الذين يعيشون بيننا و(لجوهان كوتليب فخته) الذي كان عداؤه لليهود مشوبا بأفكار صهيونية. لم يكن لليهود في نظره مكان في أوروبا وعليهم أن يصعدوا إلى فلسطين حيث نبتت جذورهم. ولم يكن لدى أوروبا حل لمشكلتهم إلا باحتلال أرضهم المقدسة ثانية وإعادتهم جميعاً إليها .وفي أدب الرحلات نجد تأثيراً بالمناخ الديني السائد في ذلك العصر . ففي أدبيات الرحالة تبدو صورة التركي متوحشاً فظاً، وإن الأتراك هم المسؤولون عن الدمار الذي أصاب أرض فلسطين، وإن السكان البدو قوم سيئون جداً لا يوثق بهم كما أنهم مخربون ومتطفلون على البلاد. وكان السكان المسيحيون كذلك موضع استهزاء لممارساتهم الدينية الخرافية، كتقديس بعض الأماكن والآثار، بل إن بعض المتشككين الأوائل في الدين كانوا يرفضون دخول كنيسة المهد، ويصفون عبادة الرهبان وتقبيلهم للآثار المقدسة بأنها تخريف غريب من الحماقات الرومية [36].

يتضح من مجمل ما تقدم مدى تأثير الفكر الديني الإصلاحي البروتستانتي على شيوع الاعتقاد بين الأدباء والفلاسفة والعلماء والرحالة بارتباط فلسطين بالشعب اليهودي، وحقه بالعودة إليها تحقيقاً للنبوءات التوراتية ولسفر الرؤيا، ومع نهاية القرن الثامن عشر قذفت المطابع سيلاً جديداً من الأدب الديني الجدلي، كان أبرزه الجدل العنيف الذي دار بين جوزيف برستلي الصهيوني المسيحي وخصمه اليهودي دافيد ليفي الذي كان يرفض المباديء المسيحية المتعلقة بالعصر الألفي السعيد. فقد رفض ليفي التحول إلى المسيحية، كما رفض عودة قومه، مؤكداً أن عليهم أن يحققوا مهمة الخلاص[37].

وفي الشتات بدلاً من العودة إلى وطن قومي لهم. فأفكار العودة التي كانت سائدة في الأوساط المسيحية لم تكن مألوفة عند اليهود، وقد أدى تتابع الأحداث بأن ما كان يجري من أحداث سياسية وعسكرية إن هو إلا تسلسل لأحداث سفر الرؤيا التي توحي بآخر الزمان. ولم يعد الأمر بحاجة إلى برهان بالنسبة للمؤمنين بالعصر الألفي السعيد، وبعودة اليهود إلى فلسطين، وشيئاً فشيئاً أخذت الأفكار السياسية تتسرب إلى العقيدة التي كانت دينية بحتة وأصبح للقوى الأرضية دور عليها أن تقوم به، ولم تعد التوبة وارتداد اليهود إلى المسيحية، وهما أمران كانا يحظيان بأهمية فائقة، شرطاً لازماً للعودة اليهودية إلى فلسطين كما كان الأمر من قبل[38].

 

 

 

قائمة المصادر والمراجع والهوامش

[1]– ريجينا الشريف، الصهيونية غير اليهودية، جذورها في التاريخ الغربي، ترجمة: أحمد عبدالله عبدالعزيز(الكويت: عالم المعرفة،1985م)، ص8 -12.

[2] – ريجينا الشريف، المرجع السابق، ص13، 24 – 26.

[3] – مارتن لوثر، نفاق اليهود، ترجمة وتحقيق: عجاج نويهض، ( بيروت: دار الفكر المعاصر، 1974م)، ص30 – 32. في سنة 1941م أنشئت في الولايات المتحدة الأمريكية منظمة اسمها بالإنجليزية :

 

(the Christian nationalist crusade) وتعني (الصليبية المسيحية الوطنية) ، وكان من المبادئ الأساسية لهذه الحركة والموثقة في نظامها الأساسي (الاحتفاظ بأمريكا أمة مسيحية) لشعورهم بأنه هناك مخططاً محكماً على مستوى عال يرمي إلى تبديل التراث المسيحي بالتراث اليهودي ” ؛ ولهم أنشطة من برامج ومجلات وأنشطة – حسب قولهم –  لإيقاظ الأمريكيين من الخطر اليهودي. وكتاب نفاق اليهود ، طبعته “الحركة الصليبية الوطنية” في لوس أنجلوس سنة 1948 م ، وخلال مسيرة تلك الحركة  قامت طباعة عشرين مرسوماً بابوياً بشأن “اليهود واليهودية” ، وامتازت تلك المراسم بصرامة لا تقل عما جاء في كتاب نفاق اليهود لـ ” مارتن لوثر ” .جاء في مقدمة الناشرون للكتاب : بعد عثورنا على هذا الكتاب لرجل عظيم كـ ” مارتن لوثر ” ، وبعد ما كانت الأيادي الخفية تعمل بمكر على مواراته وإخفائه عن الملايين المعجبين بصاحبه .. ها هو الكتاب يوقظ وينبه( .الناشرون آيار 1948م ). ونبه الناشرون أنه لا ينبغي لهم في النهاية أن يستنتجوا أن وجهة نظر لوثر فيما يتعلق باليهود هي بالضرورة وجهة نظر البروتستانت ، وهناك من البابوية من استعمل لغة صارمة إزاء اليهود كلغة د. مارتن لوثر أو بالأحرى أصرم منه . وأضاف الناشرون في مقدمة ترجمتهم للكتاب من الألمانية إلى الإنجليزية : ” في الواقع أن إقامة اليهود وسكناهم في حارات أو أحياء خاصة بهم لا يشاركهم فيها غيرهم ، كان ذلك بمقتضى مراسم بابوية ، وكذلك فصل الجماعات المسيحية عن اليهود كان بمراسيم من بابا روما ، والغاية من هذه الملاحظة تنبيه القارئ إلى أن هذه القضية لم تكن يوماً محض بروتستانيتية أو كاثوليكية أو غير ذلك وكثيرون من جميع الأديان وافقوا لوثر وكثير خالفوه ” ..

[4]– مارتن لوثر، المرجع السابق، ص33 -34.

[5] – مارتن لوثر، المرجع السابق، ص35 – 36.

[6] – المرجع نفسه، 36 – 44.

[7]– المرجع نفسه، ص45 – 47.

[8] – الملك بولان: كانت مملكة الخزر ،التي تعد قومياً أحد الشعوب التركية القديمة، منطقة شمال القوقاز ودلتا الفولغا لغاية عام 1000م إلى أن نجح الروس (بمساعدة البيزنطيين) بالسيطرة عليها. ذكر في “الموسوعة اليهودية” طبعة 1903 (مكتبة نيويورك العامة) أنّ الخزر: شعب خليط تركي، فنلندي، مغولاني غامض الأصول بالنسبة لوجوده التاريخي في قلب آسيا، شق طريقه بحروب دموية في حوالي القرن الأول قبل الميلاد نحو أوروبا الشرقية، حيث أقام مملكة الخزر” آمن ملك الخزر الوثني”الخاقان بولان” في عام 740 ميلادي باليهودية في العاصمة إتيل، حيث أصبحت ديانة المملكة بعد أن كان سكانها يعبدون “قضيب الرجل”. يقول المسعودي: “وقد كان تهود ملك الخزر في خلافة الرشيد، وقد انضاف إليه خلق من اليهود وردوا إليه من سائر أمصار المسلمين ومن بلاد الروم، وذلك أن ملك الروم في وقتنا هذا وهو سنة اثنتين وثلاثين وثلاثمائة (هجرية) وهو أرمنوس نقل من في ملكه من اليهود الى دين النصرانية وأكرههم”. وتوجه ملك الخزر والعائلات النبيلة بعد سقوط المملكة الخزرية إلى غرب أوروبا حاملين معهم أموالهم وذهبهم أما بقية الشعب الخزري (الأشكينازي) فانتشر في أوروبا الشرقية، وبالتالي فإنّ يهود الغرب الإشكيناز المنتشرين اليوم في أوروبا وأمريكا ومؤسسي الحركة الصهيونية والذين يشكلون غالبية يهود العالم في الوقت الحالي ليسوا عبرانيين على الإطلاق ولا يمتون إلى بني إسرائيل وإبراهيم وسوريا الكبرى أو حتى كامل المنطقة العربية بأي قرابة أو علاقة تاريخية. يقول المؤرخ أرثر كوستلر: “ينقسم يهود عصرنا الى قسمين السفرديم والاشكنازي . وفي سنة 1960 قدر عدد السفرديم بخمسمائة ألف (وهم يهود اسبانيا) . وبلغ عدد الأشكنازي في الفترة نفسها حوالي 11 مليوناً” كما أشارت دراسة حديثة لخبير الجينات، اران ايلهايك، من مدرسة جون هوبكنز للصحة العامة فى بالتيمور بولاية ميرلاند الأمريكية أن أصل يهود الأشكينازي الذين يشكلون أكثر من 90% من يهود العالم يعود إلى مملكة الخزر المذكورة وهذا ما أكده المؤلف اليهودي أرثر كستلر بكتابه “القبيلة الثالثة عشر”.

[9]– حكمت بلعاوي، يهود الخزر ودورهم العدائي التاريخي، مجلة الكاتب الفلسطيني، العدد22 – دمشق، 1991م، ص62، 68 – 69.

[10] – مارتن لوثر، نفاق اليهود، المرجع السابق، ص47 – 48.

[11] – المرجع نفسه، 48 – 50.

[12] – ريجينا الشريف، الصهيونية غير اليهودية، جذورها في التاريخ الغربي، ص48.

[13] – المرجع نفسه، ص49.

[14] – المرجع نفسه، ص38 – 39.

[15]– يوسف أيوب حداد، هل لليهود حق ديني أو تاريخي في فلسطين (بيروت: بيسان للنشر والتوزيع والاعلام)، ج1، ص338.

[16] – يوسف أيوب حداد، المرجع السابق، ج1، ص338.

[17]– المرجع السابق، ص40 – 44؛ جورجي كنعان، الاصولية المسيحية،( بيروت : دار بيسان للنشر والتوزيع، 1995م)، ص40، 41.

[18] – ريجينا الشريف، الصهيونية غير اليهودية، جذورها في التاريخ الغربي، ص50 – 54.

[19] – يوسف أيوب حداد، هل لليهود حق ديني أو تاريخي في فلسطين، ج1، ص341.

[20]–  ريجينا الشريف، الصهيونية غير اليهودية، جذورها في التاريخ الغربي، ص54 – 55.

[21]– إيلان هاليفي، المسألة اليهودية، ترجمة: فؤاد شديد، (دمشق: مكتب الخدمات للطباعة، 1986م)، ص7.

[22] – إيلان هاليفي، المرجع السابق، ص56.

[23] – ريجينا الشريف، الصهيونية غير اليهودية، جذورها في التاريخ الغربي، المرجع السابق، ص56

[24] – يوسف أيوب حداد، هل لليهود حق ديني أو تاريخي في فلسطين، ج1، ص342 نقلاً عن بربارة توخمان في كتابها الإنجيل والسيف: إنجلترا وفلسطين منذ العصر البرونزي حتى بلفور عام1956م.

[25] – ريجينا الشريف، الصهيونية غير اليهودية، جذورها في التاريخ الغربي، المرجع السابق، ص56 – 58.

[26] -المرجع السابق، ص59.

[27]– المرجع نفسه، ص59 – 60.

[28] – نفسه، ص60 – 61.

[29]– إيلان هاليفي، المرجع السابق، 183.

[30] – يوسف أيوب حداد، هل لليهود حق ديني أو تاريخي في فلسطين، ج1، ص346.

[31] – ريجينا الشريف، الصهيونية غير اليهودية، جذورها في التاريخ الغربي، المرجع السابق، صص62 – 64.

[32]– المرجع نفسه، صج1، ص348.

[33] – نفسه، ج1، ص384 – 349.

[34] – ريجينا الشريف، الصهيونية غير اليهودية، جذورها في التاريخ الغربي، المرجع السابق، ص75 – 79.

[35] – يوسف أيوب حداد، هل لليهود حق ديني أو تاريخي في فلسطين، ج1، ص350.

[36]– ريجينا الشريف، الصهيونية غير اليهودية، جذورها في التاريخ الغربي المرجع السابق، ص79 – 84.

[37]– يوسف أيوب حداد، هل لليهود حق ديني أو تاريخي في فلسطين، ج1، ص351.

[38]–  ريجينا الشريف، الصهيونية غير اليهودية، جذورها في التاريخ الغربي المرجع السابق، ص84 -86.

‎ٲ.د. فَرسَت مرعي

د.فرست مرعي اسماعيل مواليد ۱۹٥٦ دهوك ٲستاذ التاريخ الاسلامي في جامعة دهوك له ۲۱ كتابا مؤلفا باللغتين العربية والكردية ، و٤۰ بحثا ٲكاديميا في مجال تخصصه

‎ٲ.د. فَرسَت مرعي

د.فرست مرعي اسماعيل مواليد ۱۹٥٦ دهوك ٲستاذ التاريخ الاسلامي في جامعة دهوك له ۲۱ كتابا مؤلفا باللغتين العربية والكردية ، و٤۰ بحثا ٲكاديميا في مجال تخصصه

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً