البحوث

سيغموند فرويد.. عالم النفس الذي انتحر

يمان الشريف

طبيب الأمراض العصبية سيغموند فرويد، مؤسس علم النفس الحديث. على الرغم من أنه لم يدرس علم النفس قط

غرفةٌ تتصاعد بها دخان سيجارتين بكثافة، وبقايا تبغ محروق لم تجد لها مكانا كي تسقط فاستقرت على السجادة المخملية تاركة وراءها آثار بقعٍ داكنة. في هذه الأجواء التي يملؤها السكون وتبادل طويل بين نظرات المريض والطبيب، وبعض نفخات من دخان شوّشت الرؤية، يسأل الطبيب مريضه إن كان قد رأى حلمًا ما مؤخرا، فيهز المريض رأسه بنعم، فيطلب الطبيب منه أن يسرد له حلمه ويرفع القلم والورقة بتأهب مصغيا للمريض.

تُعرف طريقة هذا العلاج بالتحليل النفسي، ويُنظر إليها على أنها الوسيلة التي يتم استحضار ما هو ”لا واعٍ“ إلى حالة الوعي عبر طرح أسئلة ذات قيمة تكشف المستور، ويتم بعدها استدراج المريض بالبوح بمشاعره أو ذكرياته المكبوتة ثم يتم معالجتها والتعامل معها بإشراف طبي.

ابتكر هذا النمط من العلاج طبيب الأمراض العصبية سيغموند فرويد، وهو في الوقت ذاته مؤسس علم النفس الحديث. وعلى الرغم من أنه لم يدرس علم النفس قط، فإن شخصيته الفريدة أثبتت قدرتها في افتعال الجدل في الأوساط العلمية بسبب أطروحاته التي في العادة تلقى مؤيدين كثرا ومعارضين على حدٍ سواء، مما منحه أضواء صاخبة في ذلك الحين.

 

فرويد.. الشرارة الأولى

وُلد فرويد الطفل المدلل في اليوم السادس من شهر مايو/أيار عام 1856 في التشيك لعائلة يهودية. وبسبب بزوغ نجمه وحنكته منذ الصغر، قام والداه بتفضيله على أشقائه السبعة الآخرين والعناية بتعليمه، أملاً في أن يُحسن من المستوى المادي للعائلة حينما يكبر.

درس الطب واستغرقت دراسته الجامعية ضعف السنوات المقررة، وذلك لانشغاله بأمور أخرى بعيدة عن مجاله، ونال شهادته طبيبا في عام 1881.[1]

انتقل في طفولته وعاش معظم حياته في فيينا عاصمة النمسا، وتزوج فيها، فكان له ستة أبناء أشهرهم ابنته آنا فرويد التي أصبحت محللة نفسية كأبيها.

عانى فرويد من سرطان الفم بسبب فرط استهلاكه للسجائر، مما دفعه إلى القيام بثلاثين عملية جراحية لفمه، ومع ذلك لم يتوقف عن التدخين المفرط، بل على النقيض تمامًا، فقد كان مدافعا شرسا عن عادته، فقد قال يومًا لابن أخيه هاري الذي رفض منه سيجارة ذات مرة ”يا بني، التدخين هو أحد أعظم وأرخص وسائل الترفيه في الحياة، وإذا قررتَ مسبقا عدم التدخين، فإنني أشعر بالأسف من أجلك“.[2]

كان لزميله الفسيولوجي جوزيف بروير الفضل الأول في تغيير مسار اهتمامه وعمله في السنوات التالية، فقد تعرف فرويد على مصطلح التنويم المغناطيسي لأول مرة على يد زميله الذي كان يقوم بعلاج مرضى الهستيريا، فبعد تنويم المريض مغناطيسيا يقوم الطبيب بجعل المريض يتحدث عن معلومات لم تكن ظاهرة في حالة الوعي، ومن ثم تبدأ الأعراض بالزوال تدريجيا. وهو ما كان يعرف بـ“العلاج بالكلام“.

بدا فرويد متحمسا للعمل في هذا المجال، وقام بمساعدة زميله بتأليف كتابهما المشترك ”دراسات في الهستيريا“ عام 1895.

رحل فرويد إلى باريس ليواصل تلقي المزيد من الخبرة في هذا المسلك الجديد، وعندما عاد بعد أعوام طويلة، قام بإنشاء عيادته النفسية، لكنه فوجئ بأن التنويم المغناطيسي لم يكن بتلك الكفاءة، فمازال هناك الكثير من الخبايا العالقة التي لا يمكن الإفصاح عنها حتى مع التنويم المغناطيسي.

وهذا ما دعاه إلى تطوير طريقة أحدث للعلاج وهي أن يجعل المريض يتحدث بأريحية تامة بينما يكون مستلقيا على أريكة والطبيب يدوّن كل ما يسمعه وبعدها يحاول الوصول إلى تحليل سليم للخريطة التي بين يديه. وهنا خطر على بال فرويد مصطلح ”التحليل النفسي في علاج الاضطرابات العقلية والنفسية“، وهو ما يعرف أيضا بعلم النفس العميق.

عانى فرويد من سرطان الفم بسبب فرط استهلاكه للسجائر

البنية النفسية.. ”هو“ و“أنا“ و“أنا عليا“

من أشهر النظريات التي طرحها فرويد تلك التي تتحدث عن ”البنية النفسية البشرية الثلاثية“، والتي عبّر عن العلاقة بين أساسيات هذه البنية بأنها في حالة توتر ونزاع، وتتكون النفس البشرية من الآتي:

  • الـ“هو“ (id):

وهي المجموعة التي تمثل الغرائز الكائنة في الإنسان، والتي تنتقل جينيا ولا تتأثر أو تستجيب لأي عامل سواء أكان المنطق أم الواقع. وهي غرائز تستجيب مباشرة لأي منبه كالشعور بالجوع. والمسؤول عن هذه الغرائز هو العقل غير الواعي، فلا يهدأ حتى تُلبى حاجتها بغض النظر عن العواقب، وإذا تم تجاهلها يُصاب المرء بشعور من عدم الارتياح.

فهذا الجزء من تكوين النفس هو أناني بطبعه وغير واقعي وبدائي في إدراكه ولا يأبه لأي ظروف محيطة، ويبقى طبعه طفوليا ولا يتغير مع الوقت بسبب انعدام سبل التأثر به من العالم الخارجي.

  • الـ“أنا“ (ego)

يتأثر هذا الجزء من البنية النفسية بالعوالم الخارجية، وهو الذي يقوم بالموازنة بين ”الهو“ والضوابط الخارجية، وهو التكوين المسؤول عن اتخاذ القرارات وفق خطط ورؤية مسبقة، ويستجيب للأسباب المحيطة. يبحث جزء ”الأنا“ عن إرضاء رغباته كما يقوم جزء ”الهو“، لكن بإستراتيجية واقعية على الرغم من عدم مقدرته من التفريق بين الصواب والخطأ، ولكن يعمل على مبدأ عدم الإضرار بالنفس.

في بحثه ”الأنا والهو“ الذي نشره عام 1923، يشبّه فرويد ”الهو“ بأنه خَيْل بينما يَعتبر ”الأنا“ الخيّال الذي ينبغي عليه أن يتفقد قوة واندفاع خيله بشكلٍ دائم.

  • الأنا العليا (superego)

يمثل هذا الجزء الأخلاق والقيم التي يتعلمها الفرد من والديه ومن المجتمع، وتكمن وظيفته في مواجهة الأفكار والرغبات القادمة من ”الهو“، وأيضًا تحفيز ”الأنا“ لتحقيق أهداف مثالية بدلا من أن تكون واقعية.

فلو حدث وانصاغ ”الأنا“ لـ“الهو“، يقوم ”الأنا العليا“ بمعاقبة المرء ويجعله يشعر بالسوء وبالذنب، وكلما تكون قيمة ”الأنا العليا“ عند الإنسان عالية، يكون شعوره إزاء نفسه بالفشل مهما صنع. ويتكون هذا الجزء من الإنسان في مرحلة الطفولة عند الإنسان.

فنتاج كل ما سبق من البنية النفسية الثلاثية عند فرويد هو أن الإنسان يعيش وسط نزاعات داخلية بين رغباته اللاواعية وإدراكه والقيم المثالية.[3]

 يتفق جمهور كبير من علماء النفس على أن أفضل ما ألفه فرويد هو كتاب “تفسير الأحلام” الذي نشره عام 1900

الحلم كما يراه فرويد

 يتفق جمهور كبير من علماء النفس على أن أفضل ما ألفه فرويد هو كتاب ”تفسير الأحلام“ الذي نشره عام 1900، وقد تعمد تأخير نشره حتى يكون حديث المئوية الجديدة بين الناس.

فكما كانت الأحلام حديثاً شغل القدماء أمثال أرسطو الذي جعله موضوع بحث سيكولوجي، واعتقد بأن الأحلام ليست إلا وليدة الطبيعة وتتبع قوانين النفس البشرية، وأن جسم الإنسان يستجيب لكل المنبهات التي تطرأ عليه أثناء حلمه مثل أنه ”إن رأى نارا في حلمه تحرقه فإنه سيشعر بحرارة العضو المحترق حينما يستيقظ“. وهذا على خلاف أولئك الذين سبقوا أرسطو الذين قالوا إن الأحلام قادمة من عند الإله وإنها تأتي كرسائل إلهية للتبشير أو للتنبيه.[4]

أما بالنسبة لفرويد فإن الحلم بوّابة لأعماق النفس البشرية، وأن كل ما يحلم به المرء عبارة عن تجارب سابقة أو تصورات مبنية على أحداث قديمة، وأن الإنسان يحلم بما رآه أو قاله أو رغب فيه، وفي معظم الأحيان يعبر الحلم عن انفعالاتنا العاطفية في حالة الوعي.

يشرح فرويد طريقة علاجه الخاصة عن طريق التحليل النفسي بأن تكون استجوابا أو سردا -إن صح التعبير- من المريض للطبيب، وغالبًا ما يكون السرد لحلم داهَم المريض. ويرد فرويد على الأطباء الذين لا يثقون بطريقته العلاجية بقوله إنّ هناك علاقة بين الحلم والمخ، إذ إن أجزاء في المخ تستمر في نشاطها بسبب منبهات مجهولة، فالحلم ليس إلا اضطراب مُخي يحدث أثناء النوم. ويرى بأنّ إمكانية تفسير الحلم إلى لغة مفهومة ذي معنى هو أكبر تحدٍ قد يواجه الطبيب أثناء التحليل، والأمر الوحيد الذي يساعد الأطباء هو عامل الخبرة.[5]

يشرح فرويد طريقة علاجه الخاصة عن طريق التحليل النفسي بأن تكون استجوابا أو سردا

فرويد ونظريته في الجنس

عند الحديث عن مؤسس علم النفس الحديث، لا بد من التطرق إلى النقاط التي أودت به إلى دائرة الاتهام وجعلته نصب أعين المدققين، لأن بعض ما قد نشره كان يخل بالآداب العامة للمجتمع آنذاك، ضاربا بعرض الحائط القيم الأخلاقية، فقد كان صاخبا بادعاءاته في نظريته عن الجنس لدى البشر وربطها بالإنسان منذ لحظة ولادته، وجعل كل ما يتعلق بالأمراض النفسية أصلها العلاقات الجنسية.

ومن أشهر أطروحاته التي أثارت الرأي العام ”عقدة أوديب“ التي يَنظر إلى وجودها كعقدة نفسية تظهر في مرحلة الطفولة، إذ إن الطفل بسبب قربه من أمه يشعر بالحقد على أبيه ويحاول إبعاده عنها أو حتى إيذاءه.

ومما هو جدير بالذكر أن فرويد ترشح لجائزتي نوبل في الأدب وفي الطب، لكنه لم يحصل على أي منهما لأن العالم ألبرت آينشتاين اعترض بكتابة رسالة نصية مفادها المطالبة بأن لا يُمنح أيا من الجائزتين. وربما رجّح ثِقل آينشتاين في الوسط العلمي كفته على فرويد.

في عام 1939، طلب فرويد من دكتوره جرعة مميتة من المورفين، وعلى أثرها توفي في عمر ناهز 83 سنة

اللحظات الأخيرة 

في عام 1938 قبيل الحرب العالمية الثانية، قامت ألمانيا باحتلال النمسا، وقد أوقف فرويد بواسطة الشرطة السرية النازية ومن ثم أُحرقت أغلب مؤلفاته.

وأجبرته الشرطة النازية على التوقيع على عريضة تفيد بأنه لم يُعامل معاملة سيئة، وبشكلٍ ساخر علق فرويد على العريضة ”إنني أنصح الجميع بالشرطة النازية“.

سُمح له أن يغادر البلاد بسبب مكانته المرموقة مع أسرته إلى لندن، وبعد وصوله إلى العاصمة الإنجليزية، عاد السرطان ينمو في فمه، وقد أخبره الأطباء أن لا فائدة من أي عملية إضافية بسبب تهشم عظام فكه بعد عدد العمليات التي أجراها مسبقا بسبب التدخين. وكان لزاما عليه ارتداء قطعة اصطناعية تقوم بالفصل بين جوفي الفم والأنف.

استعسر عليه الكلام والحديث، لكن محطة ”بي بي سي“ تمكنت من تسجيل مقابلة قصيرة معه، وهو المقطع الصوتي المسجل الوحيد له.

في عام 1939، طلب فرويد من دكتوره جرعة مميتة من المورفين، وعلى أثرها توفي في عمر ناهز 83 سنة.[6]

المصادر: 

[1] Biography.com سيرة سيغموند فرويد،

[2] بيتر جاي، فرويد: حياة لعصرنا

[3] McLeod, S. A. (2016, Feb 05). Id, ego and superego

[4] سيغموند فرويد، تفسير الأحلام

[5] سيغموند فرويد، في التحليل النفسي

[6] كندرا تشيري، سنوات فرويد الأخيرة

سەنتەری زەھاوی

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً