المقالات

سورة العلق

د.احمد خيري العمري

كل شيء بدأ من هناك.. لا يمكن لنا أن نقرأها دون أن نقرأ فيها تلك البداية.
مشهد الغار المهيب . السكون والصمت. ثم الوحي يأتي بتلك الكلمة.
اقرأ.
لا يمكن لنا أن نقرأها دون أن تستعيد كل شيء. كما لو أنا كنا هناك. كما لو أن المشهد أصبح جزءا من ذاكرتنا الجمعية. كلما قرأنا السورة أخذنا ” فلاش باك” فوري إلى ظلمة الغار التي تسرب منها النور إلى العالم.
عند اقرأ سنتذكر النبي عليه الصلاة والسلام وهو يقول ما أنا بقارئ، نقف خلفه كما لو أننا نريد أن نحتمي به ونحن نرتجف من هول الموقف. لحظة اللقاء الأول بالوحي. سنحبس أنفاسنا بينما الوحي يحتضنه عليه الصلاة والسلام، ثم نتنفس الصعداء مجددا عندما يطلقه، ويقول الكلمة مجددا: اقرأ.
ثم يحتضنه مجددا.ونحبس أنفاسنا مجددا..ثم نتنفس الصعداء كما لو أن العالم كله قد حبس أنفاسه معنا…
ثم تأتي بقية الآيات مثل شلال من نور يغمرنا فجأة..اقرأ باسم ربك الذي خلق. خلق الإنسان من علق. اقرأ وربك الأكرم.
نكاد نسمع دقات قلبه بعد أن انتهى ذلك الزلزال المبين. نتلمس خطواتنا ونحن نخرج خلفه من الغار. ينزل من الجبل. نتتبع صوت دقات قلبه كما لو أنه ينبض بالنيابة عن البشرية بأسرها..
نعرف جيدا أين يريد أن يذهب. في أعماق أعماقنا نريد أيضا أن نذهب هناك. إلى الأم التي نهرع إلى حضنها المضمون دائما. إلى التي دائما كل الحلول. نصل ونحن نلهث خلفه. نقف خلف الباب لننصت.
يقول أنه قد خشي على نفسه. يقول لها: يا خديجة مالي؟. نكاد نقتحم لنقول له ما يطمئه عليه الصلاة والسلام. لكن سيدة الحكمة تأخذ كل الكلام. تقول له ما يطمئنه، ويطمئننا أيضا. ثم تذهب به إلى ورقة بن نوفل…ويقول له ما يقول..ونحن لا نزال ننصت خلف الباب..
كل ذلك قد حفر في ذاكرتنا كما لو أننا قد حضرناه. لا يمكن أن نقرأ السورة دون أن نستحضره في أذهاننا كما لو كان حلما قد رأيناه في الليلة الماضية. أو في حلم من أحلام الطفولة. يحضر كل شيء مختصرا مكثفا في ثانية. أو في وحدة قياس زمنية لا نعرفها بالضبط.
اقرأ باسم ربك ؟ نقرأ ماذا؟ سنعرف لاحقا أن كل ما سيلي من الآيات، كل السور، ستكون ضمن ما ورد في هذه الاية الأولى. كل القرآن، علينا أن نقرأه ” باسم ربك الذي خلق”…أول علاقتنا به أنه خالقنا من شيء كالعدم، وأول كلمة يقدمها لنا في تعريفه بنفسه عز وجل وهو الغني عن التعريف هي : اقرأ…
يقول لنا أن نقرأ القرآن..والعالم..والكون، من خلال هذا المنظار..من خلال اسمه..الخالق..الأكرم..الذي علم بالقلم…بين اقرأ وبين ” الذي علم بالقلم” علاقة واضحة. فالقراءة بهذا المعنى عملية منتجة، ومن نتاجها ” القلم” والتعلم بالقلم…
” كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى (6) أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى (7)
ولقد رأينا ذلك دوما. الإنسان يطغى، عندما يزداد في المال والثروة. وأيضا عندما ” يستغني” عن القراءة من خلال اسم ربك الذي خلق. عندما يفصل القراءة عن أي مبدأ مسبق أو قيمة مطلقة..رأينا ذلك كثيرا. رأينا نتائج أن لا تكون هناك قراءة من الأساس…وعندما تكون هناك قراءة من دون ” اسم الله”..
رأينا، ودفعنا جميعا – ولا نزال ندفع- ثمنا باهظا..
ولكن نفس السورة التي بدأ فيها كل شيء تقول لنا:
كَلَّا لَا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ (19)

سەنتەری زەھاوی

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً