البحوث

عبد الوهاب المسيري.. رؤية فلسفية فريدة للعالم والإنسان

الله هو الركيزة الأساسية لكل شيء، الركيزة الأساسية للتواصل بين الناس، لضمان أن الحقيقة حقيقة، فإن نُسِي الله: فإن ركيزة الكون كلها ستنتهي”

                           (عبد الوهاب المسيري)

           

في أكتوبر/تشرين الأول من العام 1938م، وتحديدا في بلدة دمنهور بمحافظة البحيرة، كانت عائلة “المسيري” العريقة على موعد مع مولودها “عبد الوهاب” الذي، وعلى خلاف المسار التجاري لوالده، بدا منذ صباه مؤثرا سبيل العلم والثقافة على ما سواه، فإذا هو يمضي في دراسته الابتدائية والثانوية ببلدته -مرحلة التكوين والبذور على حد وصفه[1]– ليرتحل بعدها إلى الإسكندرية، ويبدأ في كلية الآداب مساره الطويل مع الأدب والفكر، فيُعيّن -بعد أربع سنوات من التفوق الدراسي- معيدا بها عام 1959م، ويسافر إلى الولايات المتحدة، بعد أربع سنوات أخرى، لدراسة الماجيستير بجامعة “كولومبيا”، ثم يعود بعد ذلك بالدكتوراة في الأدب الإنجليزي والأمريكي المقارن من جامعة “ريتجرز” عام 1969م[2].

وفي مصر، شغل الدكتور “عبد الوهاب المسيري” بعد عودته منصب رئيس وحدة الفكر الصهيوني بمركز الدراسات السياسية والاستراتيجية بالأهرام[2]، وهو المنصب الذي دعّم معرفته ودراسته للحركة الصهيونية وألقى بظلاله على نتاجه الفكري في موسوعته “اليهود واليهودية والصهيونية”، ثم انتقل بعد ذلك إلى منصب المستشار الثقافي للوفد الدائم لجامعة الدول العربية لدى هيئة الأمم المتحدة بنيويورك[2]، لتتسع علاقاته بالساسة والمفكرين في الشرق والغرب وتتاح له الفرصة لدراسة المجتمع الغربي عن قرب واختلاط.

ثم يختتم بعد ذلك مسيرته الوظيفية من حيث بدأ، في كلية الآداب، ليشغل منصب أستاذ الأدب الإنجليزي والمقارن بجامعات “عين شمس” بمصر، و”الملك سعود” بالسعودية، و”جامعة الكويت”، وجامعة ماليزيا الإسلامية بـ”كوالالامبور” على الترتيب، وهي الفترة التي شغل فيها -بجانب عمله الأكاديمي- منصب عضو مجلس الأمناء لجامعة العلوم الإسلامية والاجتماعية بـ”ليسبرج”، بولاية “فرجينيا” بالولايات المتحدة الأمريكية، ومستشار التحرير في عدد من الحوليات التي تصدر في ماليزيا وإيران والولايات المتحدة وإنجلترا وفرنسا[2]، وهي مرحلة الثمر كما أطلق عليها في مذكراته بعد ذاك[1].

المفكر وعالم الاجتماع المصري عبد الوهاب المسيري

وقد شكل “المسيري” من خلال فلسفته حالة “متميزة وفريدة في تاريخ الفكر العربي والإسلامي المعاصر، حالة ترتقي إلى حد الاستثنائية، ليس فقط بالنظر إلى شمولية اهتماماته المعرفية في مجالات الأدب والنقد وفلسفة التاريخ والعمل الموسوعي والترجمة، ولكن بالنظر أساسا إلى أصالته الإبداعية في مجال التنظير الأكاديمي والاجتهاد المنهجي والتجديد الاصطلاحي والمفاهيمي”[3].

فقد كان الرجل “صاحب رؤية فلسفية حضارية تؤمن بتعدد أبعاد مشروع التأسيس الحضاري في مجالات العلم والمعرفة والأخلاق والقيم والسياسة والاجتماع”، مما جعله يؤسس مشروعا فكريا تجديديا فيما يتعلق بالإنسان، الذي دافع عن إنسانيته في كثير من مؤلفاته “بما يمتلكه من أدوات وآليات صياغة”[3]، بالإضافة لأثره التجديدي في الفكر الإسلامي/الإيماني، وصقله للهوية الإسلامية بفلسفة عميقة، وهي الهوية التي وُهِب بذورها من تنشئته الإنسانية في دمنهور، ودعّمت جذورها رحلته في البحث عن الإيمان.

اعلان

وفي دمنهور، يروي المفكر “عبد الوهاب المسيري” عن طفولته وشبابه الناشئين في بيئة تراحمية، يغمرها التسامح والود الشعبي، بما ساهم كثيرا في تشكيل أفكاره عن الحياة وحمايته من الافتتان بمادية الغرب حين سافر إليه، إذ يقول، فيما يرويه عن نشأته: “كانت مدينة دمنهور تجارية حديثة تسود فيها العلاقات التعاقدية التي تسود في المجتمعات والمدن الحديثة، ولكن تحت القشرة الحديثة كان هناك مجتمع تقليدي، جماعة مترابطة متراحمة، لم تكن العلاقات فيها مبنية على المنفعة واللذة فحسب، إذ كانت هناك حسابات أخرى غير مادية، وغير أنانية، تشكل مكونا أساسيا في هذه العلاقات”[1].

ففي دمنهور، وكما يقول المسيري[1]، كان الإنسان إذا ما حصل على هدية، فإنه لا يفضّ غلافها، فهي قيمة إنسانية بذاتها ولا يهم محتواها، لكن في أميركا كانوا يشيرون بضرورة فض غلاف الهدية وإظهار الإعجاب بها مباشرة أمام المُهدي، وهو، حسب “المسيري”، كان يحول الهدية من قيمة إنسانية بذاتها إلى ثمن محدد، ويخرجها من الإطار التراحمي الذي تكتسب فيه الهدية قيمة إنسانية، إلى الإطار التعاقدي الذي يبني قيمة الهدية على ثمنها وكميتها وقدرها.

بهذه الأفكار التراحمية، غُرسِت بذور الإنسانية الأولى في نفس الفتى “عبد الوهاب”، وهي البذور ذاتها التي ستحكم فكر “المسيري” الباحث عن الإنسان؛ حتى تهديه إلى الإيمان العميق بالله، فيقول، في كتابه “الفلسفة المادية وتفكيك الإنسان”: “إذا كان اكتشاف الشر في النفس البشرية قد قادني بعيدا عن الإيمان، فإن اكتشاف الخير فيها قد عاد بي إلى عالم الإنسانية والإيمان. هكذا، فبدلا من الوصول إلى الإنسان من خلال الله، وصلتُ إلى الله من خلال الإنسان”.

                 

وهو بذلك يوضح أن الإنسان الذي يتكون من ثنائية المادة والروح، ويتنازع بداخله الخير مع الشر، لا يمكن أن تفسره قوانين العلم المادي التي تفسر الظاهرة الطبيعية، بل لا بد له من مصدر فوقي/إلهي يستقي منه المعتقدات والأخلاق والتفسيرات المعنوية لكل ما يعجز عنه العلم، كالغاية من الوجود ومصير العباد بعد الموت، وإلا فإنه سينكر حقيقته الإنسانية ويختزل نفسه في شكل معادلة فيزيائية خالية من الروح[1].

من هنا يبدأ “المسيري” فلسفته العميقة التي تشعر معها “وكأنك تقرأ شعرا أو خاطرة”، فهي “روح إنسانية عذبة ومحبة تنساب بين السطور، لتقيم معك ألفة تنمو كلما ازددتَ قراءة، وينمو معك نهم شديد لالتهام كل ما يجود به “المسيري”، كما تنمو معك سعة أفق وحكمة، وتعود لتعلن إيمانك مرة ثانية: وهو هذه المرة إيمان أكثر هدوءا، ورسوخا وجمالا.. إيمان بإله لطيف بعباده، هو الضامن لإنسانيتنا والضامن لكل جميل فينا وفي الكون والطبيعة أيضا”[4]، فبوجود الله يؤمن الإنسان بأنه أسمى من الجمادات وأرقى من الحيوانات، وهو الإيمان الذي بلغه “المسيري” بعد عناء روحاني شاق مع أفكار شبابه المادية وشبهات الإلحاد.

اعلان

“إن الإيمان لم يولد داخليا إلا من خلال رحلة طويلة وعميقة، إنه إيمان يستند إلى رحلة عقلية طويلة، ولذا فإنه إيمان عقلي لم تدخل فيه عناصر روحية فهو يستند إلى عجز المقولات المادية عن تفسير الإنسان وإلى ضرورة اللجوء إلى مقولات فلسفية أكثر تركيبية”

                               (عبد الوهاب المسيري)

            

كموج يهدأ بعد الصراعات، يرى “المسيري” رحلته المتنقلة بين الأفكار، والتي بدأت بانضمام في الصغر لجماعة “الإخوان المسلمين”، تبعه تمرد ثوري حمله إلى “الماركسية”، على خطوات بسيطة من الإلحاد على حد وصفه، ليستقر في النهاية، وبعد سنوات من البحث الفكري، إلى العودة الاختيارية نحو الإيمان. وذلك لما رآه من عجز الأفكار المادية، التي كان يتبناها، عن تفسير الكثير من السلوك الإنساني ورغباته وعواطفه.

وهو في ذلك يروي قصة زواجه من الدكتورة “هدى حجازي” كمثال للفارق بين النموذجين: الإيماني الذي يرى الإنسان جسدا وروحا، والمادي الذي لا يستوعب كثيرا من الجوانب النفسية للإنسان[1]، فيقول إنه حين أراد الزواج منها كان عضوا في الحزب الشيوعي، وكانت هي من طبقة اجتماعية مدنية وميسورة الحال، فاستشار أحد أصدقائه من داخل الحزب في أمرها، ليخبره صديقه باستحالة نجاح زيجة كتلك بسبب الفروق الأيديولوجية والفكرية بينهما، فهو ماركسي يدافع عن طبقة العمال وهي فتاة من أسرة برجوازية (طبقة المُلّاك وأصحاب رأس المال).

ذلك الرأي الذي لم يعجب “المسيري” كثيرا، مما اضطره لاستشارة والدته، للمرة الأولى بحياته، في أمره هذا، لتسأله هي بدورها سؤالا بسيطا ومباشرا حول شعوره العاطفي تجاه تلك الفتاة، وهو السؤال الذي استوقفه بشدة ليكتشف حينها أنه كان مكبلا بأفكار مادية تحسب الأمر بشكل جامد وتغفل جانبا محوريا في الارتباط كالمشاعر والعاطفة، ويقرر من وقتها أن الإنسان لا يصح له -أبدا- التضاؤل إلى هذه الدرجة، وكانت تلك -على حد وصفه- المرة الأولى التي يختل فيها النموذج المادي ويتبين له اختزاله وعجزه عن فهم وتفسير الإنسان.

غير أنه، وفي خضم هذه التحولات التي انتقل فيها بين الإيمان ونقيضه، “لم يتحول سلوكيا وقيميا، فهو شخص محافظ مستقيم حتى في فترة شيوعيته”[3]، فيقول عن نفسه، فيما يرويه عن هذه الفترة: “بدأت مسيرة الإلحاد، ورغم أنني في ذلك الوقت لم أكن أؤمن بالله، إلا أنني كنت أؤمن بالقيم المطلقة للإنسان والقيم المطلقة للأخلاق، وكان هذا الإيمان بالمطلقات يتنافى مع الإلحاد الكامل، وهو إيمان بثوابت ومطلقات لا يمكن أن تستند إلى عالم المادة وعالم الطبيعة، ولكنها تستند إلى الله، ويمكن القول إن هذه الفترة يمكن أن نسميها مرحلة التساؤل العميقة”[5].

فهو يرى، وعلى الرغم من حدة الانتقالات التي مر بها، أنه حافظ على “الالتزام بالقيم الثابتة مثل الحق، والخير، والإيمان بأن الإنسان كائن غير مادي، وضرورة إقامة العدل في الأرض”، ثم، وعلى مدى رحلة فكرية استغرقت أكثر من 30 عاما، يعود مرة أخرى إلى الإسلام “لا كعقيدة دينية وحسب ولا كشعائر، وإنما كرؤية للكون وللحياة”[6].

وهو الإيمان الذي عاد بالرجل مرة ثانية إلى تساؤلاته حول ثنائية الإنسان (المادة والروح)، ليخرج من السؤال إلى نظرية معرفية، ستقوده في كل تحليلاته حول الإنسان، فيقول إنه استطاع، من خلال كل هذا، الوصول للحقيقة حول الإنسان والطبيعة، وأنهما ليسا جوهرا واحدا، بل يفترق الإنسان عنها بما لديه من القيم الروحية والأخلاقية، ويخلص كذلك إلى ضرورة تفسير الإنسان بوصفه كائنا مركبا من (مادة/جسد) و(روح/إيمان)، وليس من مادة فقط كالطبيعة [1].

بهذا الفكر الجديد، الجامع بين وحي السماء ومخلوق الأرض، يبدأ المسيري في نحت منهجه الاجتهادي، فيضع قواعده في التحليل، ويشكل نموذجه الإدراكي الذي طور من خلاله “النماذج التفسيرية والتحليلية، سواء في أبحاثه في الصهيونية أو أبحاثه في العلمانية أو دراسته في النقد الأدبي”[4]، حيث تميزت المدرسة الفكرية المسيرية عن غيرها من المدارس بإعادة النظر في طرق التفكير السائدة، من أجل تطوير النظريات التفسيرية للواقع الذي نحياه، لنفهمه بكل أبعاده دون اختزال[4].

               

“يمكن اعتبار الحالة التي يمثلها المسيري رحمه الله ظاهرة بحد ذاتها”

                                (سلمان بونعمان)

في تعريفه لمنهج التفسير الاجتماعي، يصف “ريمون آرون” تصور “دوركايم” لعلم الاجتماع، قائلا إنه لكي تخضع ظاهرة ما لتفسير علم الاجتماع، فإنها بحاجة لتوفر شيئين أساسيين بها: أولهما أن يكون موضوعها خاضعا لتفسير علم الاجتماع فقط ومتميزا عن مواضيع العلوم الأخرى، وثانيهما أن يكون في مقدورنا ملاحظة هذا الموضوع، وتفسيره بطريقة منهجية مشابهة للطريقة التي تفسر بها العلوم الأخرى[7].

ومن رحم هذا التعريف خرج “الاتجاه الفينومينولوجي” في التحليل الاجتماعي الذي يرى أن التعامل مع العلوم الاجتماعية لا بد وأن يختلف عن التعامل مع العلوم الطبيعية، فلا يمكن معاملة الظاهرة الإنسانية بقوانين ثابتة كما تتعامل الفيزياء مع الطبيعة[8]، وهي الرؤية التي تقترب كثيرا مع تصورات “المسيري”، أو تحولاته الفكرية، الثلاث حول تحليل الظواهر الاجتماعية والإنسانية.

فيرى -فيما ذكره في مذكراته[1]– أن الانتقال الأول في فكره التحليلي كان انتقاله من الموضوعية الفوتوغرافية، أو المتلقية، إلى الموضوعية الاجتهادية، ثم يشرح الفرق بين الاثنين قائلا إن الأولى كانت تعتمد نموذجا في التحليل يرى المعرفة البشرية بوصفها تراكما لأكبر قدر ممكن من المعلومات -كأنها فيزياء- فتنقل للقارئ “تفاصيل الواقع (المادي) كما هو تقريبا بصورة فوتوغرافية وإدراجها في البحث والدراسة دون ربط بين المعلومات”[4]، ودون محاولة استخلاص نتائج متقاربة منها.

 وهو الأمر الذي رأى “المسيري” فيه ضعف قدرته على التحليل، إذ إن الموضوعية الاجتهادية، على العكس من ذلك، “هي ألا ينقل الإنسان الواقع بحذافيره وكأنه ببغاء أو آلة تصوير بلهاء، وإنما يُعمِل عقله وخياله فيربط بين التفاصيل، ويجرد منها أنماطا متكررة تساعده على فهم الواقع بطريقة أعمق وأشمل”[1]، وهو ما استعمله “المسيري” في تحليل العلمانية والصهيونية بشكل كبير.

ثم كان الانتقال الثاني، الذي يشرحه “المسيري”، حين تحول عقله من عقل سلبي (متلق) إلى عقل توليدي (مجتهد)، فهو يرى أهمية تفاعل فكر الإنسان مع ما يصله من المعلومات؛ ذلك لأن عقل الإنسان “ليس مجرد مخ مادي، أو صفحة بيضاء تتراكم عليها المعطيات المادية، وإنما هو عقل له مقدرة توليدية، كما أنه مستقر كثير من الخبرات والمنظومات الأخلاقية، ومستودع كثير من الذكريات والصور المخزونة في الوعي واللاوعي”[1].

ومن هنا ينتقل مفكرنا إلى تحوله الثالث، فيخرج من الرصد المباشر، السطحي، للأحداث، إلى تبني مفهوم “النموذج” كمنهج عميق للتحليل والتفسير. ومفهوم “النموذج”، وفق “المسيري”، هو أداة ثورية، لا ترصد ما هو قائم وحسب في الواقع، وإنما ترصد ما هو كامن فيه أيضا[10] بمعنى أنه يجمع المعلومات والتفاصيل والإحصاءات الخاصة بالظاهرة، ثم يربط بين تفاصيلها ويبحث فيما يختبئ وراءها من المعاني والمفاهيم، ثم يخرج في النهاية بتفسير كلي جامع لكل التفاصيل (الظاهرة والكامنة) ولكن في صورة نظرية تفسر السبب من اجتماع كل هذه التفاصيل في هذه الظاهرة، تماما كما يجمع صانع الثياب قطع القماش المتناثرة ويخرج منها بثوب مكتمل ومتناسق.

لذلك فإننا عندما نتحدث عن النموذج فإننا “لا نتحدث عن الواقع في حد ذاته، بل الواقع كما يدركه صاحب النموذج، والنموذج بهذا المعنى يشبه إلى حد كبير الصورة المجازية، أو المجاز اللغوي، فكلاهما يستخدم في تفسير الواقع رغم أنه لا يعكسه بشكل فوتوغرافي مباشر”[1]، فالنموذج والمجاز وجهان لعملة واحدة يفهم من خلالها المفكر الواقع، فإن كان النموذج هو أداة تحليل الأحداث والظواهر، فإن المجاز هو أداة تحليل الخطاب المستعمل في هذا الواقع وما يكمن وراءه من تلميحات وأفكار. 

“الصور المجازية ليست مجرد زخارف وإنما وسيلة إدراكية لا يمكن للمرء أن يدرك واقعه دونها، أو حتى أن يعبر عن مكنون نفسه إلا من خلالها، وهي بالتالي مرتبطة تمام الارتباط بالنماذج المعرفية والإدراكية ورؤية الكون وخير وسيلة للتعبير عنها”

                               (عبد الوهاب المسيري)

أما عن الصور المجازية واللغة، فقد طور “المسيري”، أيضا، تصورا تفسيريا بخصوصها؛ ليضمها إلى أدواته في التحليل، فهو يرى أن اللغة والمصطلحات التي يستعملها الساسة والمفكرون لا يصح إدراكها بشكل سطحي دون البحث عن الرابطة بين الدال (اللفظة) والمدلول (المعنى الكامن وراءها)؛ ذلك لأن الصور المجازية اللغوية “يمكن استخدامها كوسيلة لتمرير التحيزات وفرضها بشكل خفي”[11].

         

فالمجاز يقوم بنقل رؤية معينة، وإذا ما درسنا الخطاب السياسي الغربي وجدنا أنه يستخدم صورا مجازية كثيرة تعبر عن الرؤية الغربية للعالم، ولكنها تبدو كما لو كانت محايدة، “فحينما يشيرون إلى العالم العربي باعتباره (الشرق الأوسط) أو حتى (المنطقة)، وحينما يتحدثون عن (الفدائيين) باعتبارهم (إرهابيين)، فإنهم في واقع الأمر يفرضون صورا مجازية تجسد مفاهيمهم، فبدلا من (العالم العربي)، المصطلح الذي يستدعي التاريخ والتراث والهوية، نجد أن مصطلح (المنطقة) ينقل إلى وجداننا صورة أرض ممتدة بلا تاريخ أو تراث”[11].

فالمجاز هنا، حسب “المسيري”، أداة للتعبير وللإفصاح عن رؤية الإنسان للكون، “واستخدام الصورة المجازية قد يكون واعيا، فيحاول المتحدث أن يتحكم في الصورة المجازية”، وقد يكون غير واع، “فتهزمه الصورة، بل تفضحه، إذ إن منطقها الداخلي قد يعبر على عكس ما يرمي المتحدث إليه”[11] أو عكس ما يحاول إظهاره. وبهذا التصور عن اللغة والمجاز، يرى “المسيري” الفلسفة الغربية في التعامل مع الإنسان.

وعلى ذلك، يذهب إلى أن الفكر المادي -على سبيل المثال- يرد كل شيء، بما في ذلك الإنسان وكل منتجاته الحضارية، إلى المادة وقوانينها، “فالمفكر الفرنسي الاستناري “كابانيس” يؤكد أن الدماغ يفكر كما تهضم المعدة، وكما تفرز الكبد الصفراء” أي أن الصورة المجازية الأساسية هنا هي أن العالم العقل كالمعدة، فالتفكير الإنساني عملية كيميائية مادية، “ولا يوجد فارق جوهري بين العملية الفكرية والعملية الهضمية (أي بين الفكر والمادة وبين الجسد والروح)”[12].

ثم قام “نيوتن” بمقارنة العالم كله -بما في ذلك الإنسان- “بآلة دقيقة: ساعة تدور دائما وعلى نفس الوتيرة دون تدخل إلهي أو إنساني”. وقد اكتشف “لوك” أن “الآلة التي توجد خارجنا توجد داخلنا أيضا، فقارن العقل بالصفحة البيضاء التي يتراكم عليها كل ما يصلنا من معطيات”، ثم تتحد هذه المعطيات آليا من تلقاء نفسها فتتكون الأفكار[12]، وقد أدى كل هذا إلى ظهور الصورة التي يطرحها “آدم سميث” للإنسان الذي يعيش في عالم تنظمه قوانين العرض والطلب الآلية التي قارنها باليد الخفية، تنظم كل شيء ولا يراها أحد”[12].

فمن خلال هذا التأمل الفكري وراء اللغة المستخدمة والصور المجازية، يضم “المسيري” المجاز، جنبا إلى جنب، مع النموذج؛ لفهم الأفكار بشكل عميق لا يغفل ما وراءها، وليتمكن كذلك من تحليل التصور الغربي للإنسان، وكذلك لتفسير الرؤية الصهيونية للوطن العربي واستعمالها لنصوص ومفردات تجعل من الصهيوني شيئا هاما ومن العربي شيئا خلاف ذاك.

“كان المسيري شاهدا على انتصار الإيمان والفطرة، فلم تكن له حسابات مع أنظمة سياسية أو قوى اجتماعية، ولكن حساباته كانت لصالح ما يؤمن به: الإيمان والإنسان”

                                   (خيري منصور)

        

كيف تجمع بين التفاصيل المتناثرة؟ هنا يجيبنا “المسيري” بنماذجه التفسيرية وبتأمل المجاز، واضعا تاريخ البشرية الحديث على مقياسه التحليلي، فيخرج بنموذجين رئيسيين لتفسير الرؤية الغربية الحديثة للإنسان: أولهما هو نموذج “الحلولية الكمونية” الذي يرى بأن الإله والإنسان والطبيعة مكون من جوهر واحد، فلا فرق حقيقي -حسب هذا النموذج- بين الإنسان والطبيعة[13].

ونموذج “العلمانية الشاملة” الذي يختلف عن العلمانية الجزئية في كونه لا يعزل فقط السياسة عن القيم الدينية، بل يعزل الحياة بأسرها عن أي تفسير ديني، ويرى أن العقل والحواس الخمس -فقط- أشياء كافية لتفسير الكون دون الحاجة إلى الدين والعقيدة والثوابت الأخلاقية والإيمانية[10]، فالعالم مرجعية لذاته -حسب هذه الرؤية- ولا يحتاج لشيء خارجه. وهما النموذجان اللذان يشرح من خلالهما “المسيري” كيف أنتجت الحداثة إنسانها الحديث، واستبدلت عقائده الأخلاقية والدينية بعقلانيتها وماديتها بعد ذلك.

فهو يرى أن مرحلة الحداثة[*] قد بشرت بما أسماه “وحدة الوجود المادية”، وهي المرحلة التي يُستغنى فيها عن اسم الإله، فيحل الخطاب المادي محل الخطاب الروحي، وتُفسّر الظواهر الإنسانية بقوانين المادة والحركة، وتقر بأن كل تغير طرأ على البشرية، وسيطرأ عليها، خاضع لمسار تاريخي حتمي تفرضه عليها طبيعتها المادية[1] كما هو الحال في الماركسية التي افترضت أن الرأسمالية مرحلة تاريخية “حتمية” لن تلبث أن تنتهي وتسيطر بعدها الطبقة العاملة على مصادر الإنتاج والثروة، وكأن الحياة البشرية تسير بقوانين فيزيائية لا اعتبارات فيها إلا للحسابات الرياضية.

فالظاهرة الإنسانية -هنا- كالظاهرة الطبيعية تماما: كلاهما يخضع لقوانين المادة. ويلخص “المسيري” هذه المتتالية (متتالية وحدة الوجود المادية) في خمس حلقات متتابعة جعلت من الإنسان الغربي الحديث كائنا تعاقديا ماديا أحادي البعد (أي لا يعطي الاعتبارات العاطفية والدينية اعتبارا كبيرا)، واختزلته في جانب واحد “مادي” وغيّبت جانبه “الروحي” الآخر، فكيف رأى “المسيري” حقيقة هذه التطورات وأثرها على الإنسانية جمعاء؟

يعلن “المسيري” عن تقسيماته الخمسة، في كتابه “قضية المرأة بين التحرير والتمركز حول الأنثى” الذي لخص فيه رؤيته لهذا النموذج، بادئا بمرحلة التمركز حول الإنسان، أو ما يسميه “الواحدية الإنسانية/الهيومانية”، وهي المرحلة التي أتت بها الحداثة مباشرة، وفيها تمركز الإنسان حول إنسانيته بدلا من تمركزه حول الدين، في أوربا المسيحية أثناء العصور الوسطى؛ فالإنسان، في هذه المرحلة، وحده هو المركز ومصلحته هي الغاية من الوجود.

ثم، وطبقا لمتتاليىة التحديث الغربي للإنسان، تمضي الإنسانية، وفق “المسيري” أيضا، إلى مرحلتها الثانية المسماة بـ”الواحدية الإمبريالية/الاستعمارية”، إذ يتحول فيها إنسان الغرب من تمركزه حول مصلحة الإنسانية في العموم إلى تمركزه حول مصلحة بني أمته فقط، فتظهر النزعات العنصرية التي تحول باقي الأمم إلى وسائل تخدم مصالح أمته، وهي المرحلة التي يُعزي “المسيري” إليها قيام حركات كالنازية والفاشية والصهيونية، أو حتى حركات التحرر النسوية “الفيمنيزم” التي أطلق عليها حركات التمركز حول الأنثى في مقابل الذكر.

ومع الانطلاق التحديثي السريع، يجد “المسيري” البشرية عند المرحلة الثالثة المسماة بـ”ثنائية الإنسان والطبيعة الصلبة”، وهنا حيث كان الصراع على أشده بين نموذجين: نموذج الواحدية الإنسانية المتمركز حول الإنسان، ونموذج “الواحدية الطبيعية” الذي سيدخل الصراع، واضعا الطبيعة/المادة في مركز الكون بدلا من الإنسان؛ ليصبح الإنسان بعدها مجرد كائن لا اعتبار مميز له، مما يعني فصل أي قيمة أخلاقية/دينية/عاطفية عن العلم والمعرفة المادية[14]، فتظهر أشياء كالإباحية وغيرها التي ترى الإنسان -في مجموعه- كائنا يخدم مصالح مادية كغيره من الكائنات، دون النظر لأي اعتبارات دينية أو أخلاقية[15].

تلك “الواحدية الطبيعية” لن تلبث أن تنتصر في صراعها مع “الواحدية الإنسانية”، لتحل محلها تماما، ويظهر إنسان العصر الحديث المنفصل عن القيمة، والذي سيمضي باستسلام إلى آخر مراحلة: “الواحدية السائلة”، التي يعتبرها “المسيري” نتاجا طبيعيا لارتفاع معدلات استبدال كل القيم الدينية بالقيم المادية، وتفكيك الإنسان وعلمنة القيم[15]، فتصبح كل الأمور مقدسة بصورة سائلة لا يمكن معها تحديد الثوابت الحقيقية للإنسان[10]، فحق الشذوذ مقدس، وحق الإباحية مقدس، وحق التعري مقدس، وحق أي إنسان في فعل أي شيء مقدس في ذاته حسب هذا النموذج العلماني المتخاصم مع القيمة الدينية للأفعال.

لكن.. هل نجحت هذه المتتالية المادية في احتواء الإنسان واستيعابه؟ هذا ما لا يراه “المسيري” من أي جانب إذ يراها قد حولته إلى أداة مجردة من كل ميزة إنسانية، فقيمة كالتضحية، مثلا، قد فقدت الكثير من معناها مع هذه الرؤية للإنسان، وهو يسوق ذلك -كمثال- على ما لحق بوظيفة الأم في هذا العصر، إذ اختفت أهمية الأم وتلاشت أمام المرأة العاملة، فأصبحت المرأة لا تعتبر عملها في التربية أو تنشئة الإنسان عملا حقيقيا ذا قيمة؛ لأنه لا يدر الربح المادي مغفلة القيمة المعنوية والتربوية للأم في صناعة الإنسان[16]، وأصبحت كذلك العلاقات البشرية محكومة بفكرة العقد أكثر منها خاضعة للتراحم، مستدلا على ذلك بأمثلة كثيرة كمثال الهدية -المذكور سلفا- في الفرق بين المجتمع الإنساني والمجتمع المادي[1].

وهذا النموذج العلماني ينتقده “المسيري” بشدة ويرى قصوره الشديد عن فهم الإنسان، ويرى، بدلا منه، أهمية الدفاع عن الثنائية البشرية (المادة/الروح) التي تنشأ نتيجة للإيمان بالله، فيتجاوز الإنسان عالم الطبيعة إلى عالم الروح، ويحقق التوازن بينهما عن طريق السعي في الدنيا والإيمان بالحقائق التي يشرحها الدين ويفسرها، كالحقائق الأخلاقية والتراحمية، وهي الأمور التي لا نجد لها محلا في التفسير المادي/العلماني، مما يجعل “المسيري” يصفها بفلسفة تفكيك الإنسان[3]، وهي الفلسفة التي زارت الشرق عن طريق العولمة و(الاستهلاكية) التي أضحت قيمة في ذاتها وسلطة استعمارية من نوع جديد تُخضع لها الأفراد دون سلاح[1]، واقتحمته أيضا من طريق آخر اسمه “الصهيونية”.

في سبيله لتفسير العالم وظواهره، يضع “المسيري” نموذجه التحليلي الثالث في موضع النظر، ويفعّل رؤيته حول “الجماعات الوظيفية” كنموذج لتحليل الحركة الصهيونية، وارتباطها بالغرب العلماني الراغب في بسط نفوذه على الشرق، فيُعرّف هذه الجماعات على أنها “مجموعات بشرية تستجلبها مجتمعات إنسانية من خارجها، في معظم الأحيان، أو تجندها من بين أعضاء المجتمع أنفسهم (الأقليات)، ثم يوكل لأعضائها وظائف لا يمكن لغالبية أعضاء المجتمع الاضطلاع بها لأسباب مختلفة، من بينها رغبة المجتمع في الحفاظ على تراحمه وقداسته، لذا يوكل لبعض الجماعات الوظيفية بعض الوظائف المشينة (الربا – البغاء) أو المتميزة (القضاء – الترجمة – الطب) التي تتطلب الحياد والتعاقدية”[13].

         

ثم، ولتبقى هذه الجماعات على كفاءة لتأدية دورها، فإن عددا من المعايير لا بد وأن يتوفر بها، ولها، وبتطبيق التعريف أعلاه على الحركة الصهيونية -كجماعة وظيفية لخدمة مصالح الغرب الاستعماري في الشرق- فإن أول هذه المعايير سيكون إنشاء علاقة تعاقدية، بين هذه الجماعات وبين السلطة التي تنتفع من وجودها، ينظر فيها كل طرف إلى الآخر باعتباره دورا يُلعب ووظيفة تؤدّى ومادة تافهة[9].

في حين كان المعيار الثاني هو عزل الجماعة الوظيفية عن السلطة التي تستخدمها حتى لا تتضرر بأعمالها المشينة؛ لذا فإن الجماعة المستفيدة (الغرب) ستقيم وطنا خاصا للجماعة الوظيفية (الصهيونية) في الوسط الذي تريد اختراقه (فلسطين/الأمة الإسلامية) لخلق هذه المسافة[9]، وترجع أهمية هذه المسافة لكونها تبعد عن الغرب الشبهات التي ستصنعها حولها الحركة الصهيونية في الوطن الجديد بفلسطين.

فالدولة الوظيفية “هي إعادة إنتاج لنمط الجماعة الوظيفية ولكن على مستوى الدولة، وتتخذ الدولة الوظيفية مجموعة من الأشكال المختلفة”[13]، فتعد الدولة الاستيطانية دولة وظيفية، وهي دولة يتم نقل سكانها من موطنهم الأصلي إلى وطن جديد يقومون فيه بخدمة الدولة الاستعمارية الراعية لعملية النقل، وهي الدولة التي أسهمت بدورها في تمكين المستوطنين الجدد وقمع السكان الأصليين”[9]. وهو الأمر الذي ينطبق تماما على الكيان الصهيوني داخل إسرائيل “فاليهود مادة استيطانية نافعة تُنقَل من أوربا إلى فلسطين، أما العرب فهم مادة بشرية لا نفع لها، ولذا فهي تُطرَد من فلسطين”[17].

فمن الصورة المجازية والنموذج الإدراكي ينطلق “المسيري” لشرح رؤيته الفكرية للعالم، ومن الحلولية الكمونية، إلى العلمانية الشاملة، ينتهي إلى نموذج الجماعات الوظيفية في نظم منسجم لنماذجه التي طوّر من خلالها إدراكه للواقع المادي وما يكمن فيه من أفكار، وأفرد لها سلسلة من المقالات واللقاءات والكتب الموسوعية، باللغتين العربية والإنجليزية، لا تكاد أن تحصى، فضلا عن الدراسات الدائرة حول فكره، بخلاف التكريمات والتقديرات المتباينة؛ ليترك لنا كل هذا ويودع عالمنا، راحلا عنه في الثالث من يوليو/تموز عام 2008م[1]، بعد 70 عاما من الحياة التي بدأت رحلاتها الفكرية مبكرا ولم تنته حتى رمقها الأخير، وبعد عقود من البحث عن الإنسان الذي غيّبته المادة ناضل المفكر الأديب لتحريره من استعمار العلمانية وسيطرة الحلولية الكامنة.

 _____________________________________________________

هوامش:

[*]:”الحداثة مرتبطة تماما بفكر حركة الاستنارة الذي ينطلق من فكرة أن الإنسان هو مركز الكون وسيده، وأنه لايحتاج إلا إلى عقله سواء في دراسة الواقع أو إدارة المجتمع أو للتمييز بين الصالح والطالح، وفي هذا الإطار يصبح العلم هو أساس الفكر، مصدر المعنى والقيمة، والتكنولوجيا هي الآلية الأساسية في محاولة تسخير الطبيعة وإعادة صياغتها ليحقق الإنسان سعادته ومنفعته”.

(عبد الوهاب المسيري، الحداثة ورائحة البارود)

المصدر : الجزيرة

سەنتەری زەھاوی

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً