المقالات

ريادة الفكر الاسلامي في الفيزياء الكونية كتاب المباحث المشرقية للرازي انموذجاً

الاستاذ الدكتور صباح البرزنجي

دأب المتكلمون الاسلاميون منذ تصديهم لتأطير العقيدة و اصول الدين بأطر الجدل و التقعيد العقلي و الكلامي ، على البحث في الكون و العالم المنظور بما ينطوي عليه من حقائق موضوعية ثابتة و قوانين مطردة كطريق للوصول الى الايمان بالخالق المبدع الذي أبدعه على غير مثال سابق استناداً الى قانون العلية و السببية و الحكمة البالغة المبثوثة في كل ذرة من ذرات الكون .

والمتتبع لكتاباتهم الكثيرة و المتنوعة يجد فيها حضوراً واسعاً لمعارف عصرهم والعلوم الطبيعية المتداولة والمتوارثة جيلاً بعد جيل . والتي وظفت في سلسلة من الترابطات و التوافقات المنهجية لخدمة العقيدة التوحيدية والرؤية الكونية التكاملية.

ويزخر التراث الحضاري للمسلمين بأسماء لامعة أثبتت جدارتها في مضمار العلوم الكونية والفيزياء خصوصاً من أمثال الحسن ابن الهيثم الذي اشتهر بنظريته في البصريات و النور .

و يعد الإمام الفخر الرازي أحد أبرز المتكلمين المسلمين الذي جمع ( محصل أفكار المتقدمين و المتأخرين) في شرحه لـ(عيون الحكمة) و (الإشارات و التنبيهات ) الفلسفية و المنطقية و الطبيعية , وقد أتى في ( المباحث المشرقية ) بالعجب العجاب في سرد كل ما يتصل بالعقيدة الإلهية من أمورفلسفية عامة و الحكمة الرياضية و الطبيعية.

اللافت للنظر أن هذا الكتاب حافل بكثير من المعلومات الفيزيائية و الكيمياوية و الحيوانية و النباتية الرياضية و النفسية و الفلسفية الدقيقة التي لا يمكن ان تتقادم مهما تقادم الزمن . نظراً لكونها من صميم الفكر العلمي الانساني منذ القدم .وان كثيرا من هذه المعلومات لازالت موضع بحث و جدل من لدن العلماء و الباحثين . بغض النظر عن كون بعضها مما أثبت العلم خلافه كدوران الشمس حول الأرض و النفوس و العقول الفلكية!

لقد خصص الامام الرازي الكتاب الثاني من المباحث المشرقية لدراسة الجواهر و الأعراض ويقصد بالجواهر ( الأجسام) و بالأعراض ( الصفات العارضة ) لها .

ومن أهم الموضوعات التي تعرض لها في هذا الكتاب موضوعات الكم و المقدار و التجسم و الطول و العرض و العمق و الأبعاد اللامتناهية في الزمان و المكان والخلأ و الكيفيات بأنواعها المختلفة.
وبضمن دراسة الكيفيات لم ينس ان يعرج الى الكيفيات المحسوسة المسماة بالانفعاليات بدأها بالملموسات وهي اثنتا عشرة كيفية :
الحرارة و البرودة و الرطوبة و اليبوسة و اللطافة و الكثافة و اللزوجة و الهشاشة و البلّة و الجفاف و الثقل و الخفة .
وثناها بالكيفيات المبصرة اي التي تقع في نطاق حاسة البصر فدرس الالوان و النور و الضوء و الشعاع .
وفي الكيفيات المسموعة تكلم في سبب الصوت و القرع و الصدى وكل ما يتصل بثقل الصوت و حدّته .
و في نهايتها يبحث في الكيفيات المذوقة و المشمومة و هي الطعوم والروائح و ذات صلة بعلم الكيمياء .
وفيما يخص المفاهيم الأساسية في الفيزياء يولي الرازي أهمية بالغة ببحثي الحركة والزمان إذ يراهما حقيقتين متلازمتين فعقد لهما الفن الخامس من أحكام الاعراض .
والحركة عنده هي خروج الموجود من القوة الى الفعل يسيراً يسيراً بالتدريج وهي بهذا المعني لا تنفك عن مفهوم الزمان و المكان الأمر الذي يحوج الى ذكر ما أفاده الفلاسفة القدامى كأفلاطون و أرسطو.
وفي البداية يشكل الرازي على حقيقة الحركة بقوله نقلاً عن الشيخ الرئيس ابن سينا :
” الحركة إسم لمعنيين : الأول الأمر المتصل المعقول للمتحرك من المبدأ الى المنتهى وذلك مما لاحصول له في الأعيان لأن المتحرك مادام لم يصل الى المنتهى فالحركة لم توجد بتمامها وإذا وصل فقد انقطع و بطل. فإذاً لاوجود له في الأعيان أصلاً بل في الذهن وذلك لأن للمتحرك نسبةً الى المكان الذي تركه و الى المكان الذي أدركه فإذا ارتسمت صورة كونه في المكان الأول في الخيال ثم قبل زوالها عن الخيال ارتسمت صورة كونه في المكان الثاني فقد اجتمعت الصورتان في الخيال فحينئذ يشعر الذهن بالصورتين معاً على انهما شيء واحد واما في الخارج فلا وجود له .
الثاني وهو الأمر الوجودي في الخارج وهو كون الجسم متوسطاً بين المبدأ و المنتهى بحيث لايكون قبله و لابعده فيه و هو حالة موجودة مستمرة مادام الشيء يكون متحركاً وليس في الحالة تغيرٌ أصلاً….” .
يحاول فيما يستخلص من كلامه ان يرد الشبهات المثارة حول وجود الحركة و واقعيتها و مدى ارتباطها بمفهوم الزمن .
مستنتجاً من عرضه الفلسفي الدقيق أن الحركة متعلقة بأمور ستة :
الجسم المتحرك.
المحرك . ويقصد به القوة المحركة للجسم المتحرك .
مافيه الحركة وهو المكان أو الخلأ .
ما منه الحركة ( مبدأ الحركة ) .
ما إليه الحركة ( غاية الحركة) .
الزمان .

ومن المفاهيم ذات الصلة بالحركة مفهوم السرعة و البطء وهما مفهومان يحدهما مفهوم المسافة وهي اقصر بعد بين نقطتين وقد عرفهما قبل الرازي كل من ارسطو و ابن سينا بأن السرعة كون الحركة قاطعة لمسافة طويلة في زمان قصير و البطء كونها قاطعة لمسافة قصيرة في زمان طويل .
ولعل أدق تعريف لهما لدى الآمدي إذ قال : السرعة هي اشتداد الحركة في نفسها و البطء عبارة عن ضعفها .

فليست السرعة سوى الحركة التي يعرض لها التعجيل و ليس البطء سوى الحركة التي يقل مقدار تعجيلها .
ولا يفوته ان يذكر انواع الحركات من المستديرة و المستقيمة والصلة بينها. ومن البدائع أنه عقد فصلاً لبيان أن كل حركة مستقيمة فهي منتهية الى السكون

ومن اقسام الحركة الحركة الطبيعية المفسرة عنده بان تكون من قوة موجودة في الجسم و الحركة القسرية التي تنتج من قوة خارجة من الجسم . بعبارة أخرى الحركة الطبيعية تطلب الحيّز الطبيعي وتهرب من الحيّز غير الطبيعي . اي ان الشيء في حركته الطبيعية يسعى الى التعادل و الاعتدال في وضعه وغايته ان يصل الى الوضع المتعادل الطبيعي .

ومما يستدعي التأمل في بحثه عن الحركة أن المستديرة منها أقدم الحركات بالطبع و الشرف ( المنزلة) وأنها علة حدوث الحوادث ( الكونية) .
وفي الباب استقصاءات كثيرة لا يسعها هذا المقام .
اما وجود الزمان فقد تناوله في الفصل الثالث و الستين وبدأ بأدلة المنكرين لوجوده وهي في ذاتها أدلة فلسفية تجريدية .
ومن الموضوعات التي تطرق اليها الرازي موضوع صلة المادة بهيئتها . فالمادة هي الهيولى و الهيئة هي الصورة بأنواعها ( الصورة النوعية) و ( الصورة الطبيعية) التي لازالت محل جدل بين العلماء من حيث تكون المادة و صيرورتها الذاتية .
ولا يغفل الرازي في دراسته المستفيضة عن الفلك أن يبحث في حقيقته و احواله و صفاته كما بحث في المجرة و حركة الكواكب و شكل الفلك .

والمتأمل في تدرج المعلومات لدى الرازي يجد انه ينطلق من فهم العالم العنصري و الفلك السماوي و المادة و احوالها لإثبات الصانع الحكيم وهو بذلك يحذو حذو سلفه ابن سينا ( الشارح الأكبر للفلسفة المشائية) . مما يعني أن الالهيات الاسلامية لا تستغني عن العلوم الكونية في المنهج التجريبي الاستقرائي القائم على الملاحظة الدقيقة و الفاحصة .
فإذا كان الكلام في العقيدة الاسلامية في زمن الرازي معتمداً على العلوم الكونية و اساسياتها من الفيزياء و الكيمياء و الرياضيات و الأحياء ، في زمن كانت المعلومات التجريبية محدودة جداً فإن العقيدة الاسلامية في عصر العلم لا بد أن تستند الى المنهجية ذاتها لفهم العالم و فكّ الغازه و الاستهداء بالعلم للوصول الى الخالق الحكيم الخبير .
ولهذا نقترح على المراكز البحثية و العلمية في العالم الاسلامي التنقيب عن كنوز تراثنا العلمي و الاستهداء بها في وضع لبنات أساسية لمنهج معرفي أصيل و متميز في علوم العقيدة الاسلامية .
مثلما فعل السلف من عاماء الامة القدامى .
ونقترح على علماء العقيدة أن يمهدوا لمباحثها بمعطيات العلوم الحديثة سيما الفيزياء الكونية و علم الفلك و علم النجوم وأن يكسروا الحصار المفروض عليهم منذ قرون الانحطاط و ينطلقوا بعقلية متفتحة ضالتها الحكمة و الحقيقة .

المصدر : المباحث المشرقية في علم الالهيات و الطبيعيات
للامام فخرالدين محمد بن عمر الرازي المتوفى سنة 606 ه
تحقيق و تعليق
محمد المعتصم بالله البغدادي
الطبعة الثانية 1429 ه
الناشر : ذوي القربى
قم : ايران .

د.صەباح بەرزنجی

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً