المقالات

قيمة التاريخ

 

في ختام سورة يوسف نقرأ هذه الآية : بسم الله الرحمن الرحيم ( لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب ما كان حديثاً يفترى ولكن تصديق الذي بين يديه وتفصيل كل شيء وهدى ورحمة لقوم يؤمنون )([1]). فها نحن إذن قبالة التعامل مع التاريخ بكل ما ينطوي عليه هذا الفرع المعرفي من شروط. فالسرد التاريخي في المنظور القرآني يستهدف البحث عن العبرة ، أي الجوهر والمغزى ، وهو خطاب موجّه لذوي البصيرة القادرين على سبر هذا المغزى والإفادة منه في واقع حياتهم والتخطيط لمستقبلهم ، وليس لذوي المصالح والتحزّبات والأهواء ، وهو أيضاً حديث يحمل مصداقيته المطلقة المنبثقة عن علم الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ، والذي وسع كل شيء علماً. فهو ـ إذن ـ ليس رجماً بالغيب كما أنه ليس أهواءً وظنوناً ، كما هو الحال في العديد من الأعمال التاريخية.

فإذا مضينا لمطالعة القرآن الكريم كله فإننا سنجد كتاب الله يخصّص مساحات واسعة قد تزيد عن نصف القرآن ، للخبر المتحقق في الماضي ، أي للتاريخ. إن قصص الأنبياء والشهداء والقديّسين .. أخبار الأمم والشعوب والجماعات والقرى .. حلقات الصراع الطويل بين الحق والباطل .. كلها في نهاية الأمر عروض تاريخية تغذّى هذا الفرع المعرفي بالمزيد من الإضاءات والمفردات.

والتعامل القرآني مع التاريخ يأخذ ـ أيها الأخوة ـ صيغاً مختلفة تتدّرج بين العرض المباشر والسرد القصصي لتجارب عدد من الجماعات البشرية ، وبين استخلاص يتميّز بالتركيز والكثافة للسنن التاريخية التي تحكم حركة الإنسان في الزمن والمكان أي في التاريخ. فإذا ما أضفنا إلى هذا وذاك تلك الآيات والمقاطع القرآنية التي يحدّثنا عنها المفسرون في موضوع ( أسباب النزول ) والتي جاءت في أعقاب عدد مزدحم من أحداث السيرة لكي تعلّق وتفنّد وتلامس وتبني وتوجّه وتصوغ ، استطعنا أن نتبيّن أكثر فأكثر أبعاد المساحات الكبيرة التي منحها القرآن الكريم للتاريخ.

إن جانباً كبيراً من سور القرآن وآياته البينات ينصب على أخطار البشرية بالنذير الإلهي وينبثق عن رؤية وتفحّص التاريخ ، وإن أشد نداءات المفكرين المعاصرين عمقاً وتأثيراً تلك التي تحدّثنا عما يحيط بالمسيرة البشرية في حاضرها ومستقبلها من أ,ضاع وما تتطلبه من شروط وتنبثق هي الأخرى عن رؤية التاريخ. وأنتم إذا نظرتم إلى التجارب الأوربية المتلاحقة في عالميْ الفكر والحياة لرأيتموها تمد جذورها إلى أعماق التاريخ باحثة عن المبررات والحجج والأسانيد ، متطلعة إلى الصيغة الأكثر انسجاماً مع مطالب المسيرة البشرية صوب المستقبل. وليست تجارب الثورات الفرنسية والعسكريات الألمانية ، والاشتراكيات الطوباوية والماركسية ، والنظام العالمي الجديد الأكثر حداثة ، إلا شواهد فحسب على مدى الارتباط بين الفكرة والتجربة المعاصرتين وبين الرؤية التاريخية.

وأنتم تلحظون عبر تعاملكم مع كتاب الله كيف تتهاوى الجدران بين الماضي والحاضر والمستقبل .. كيف يلتقي زمن الأرض وزمن السماء .. قصة الخليقة ويوم الحساب .. عند اللحظة الراهنة ، حيث تصير حركة التاريخ ، التي يتّسع لها الكون ، حركة متوحّدة لا ينفصل فيها زمن عن زمن ولا مكان عن مكان ، وحيث تغدو السنن والنواميس المفاتيح التي لابد منها لفهم تدفّق الحياة والوجود ، وتشكل المصائر والمقدرات.

ولكم أن تتصوروا ـ أيها الأخوة الأحبة ـ بعد هذا كله ، القيمة البالغة التي أولاها كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم([2]) ، لأحداث الماضي ذات الدلالة .. أي للتاريخ. والاهتمام بالتاريخ يجب ألا ينصرف ـ فقط ـ إلى المهمات الدراسية الصرفة والحصول على شهادة التخصص أو ضمان وظيفة ما ، كما حدث ويحدث عبر العقود الأخيرة. كما أنه ليس مجرد فرصة يمنحها الإنسان نفسه للحصول على المتعة أو تزجية أوقات الفراغ كما يتوهم الكثيرون .. فضلاً عن أن الاهتمام بالتاريخ ليس مجرد محاولة للتعلّق بأمجاد الماضي وإغفال تحديات الحاضر ومطالب المستقبل ، أو الهروب منهما بعبارة أخرى. ولقد كانت هذه الخطيئة تمارس للأسف الشديد وعلى نطاق واسع وزمن الصدمة الاستعمارية فكان المسلم يدير ظهره للمجابهة المفروضة عليه وييمّم وجهه صوب أمجاد الماضي وأنواره يتغنّى بها ويسد في نفسه نقصاً لم يكن له أي فضل في ملئه([3]).

ليس التاريخ أيها الأخوة الأحبة هذا وذاك ، وإنما هو إذا أردنا التعامل الجاد مع

معطياته : محاولة للبحث عن الذات ، للعثور على هويتنا الضائعة في هذا العالم .. للتجذّر في الخصائص وتعميق الملامح والخصوصيات ذات البعد الزمني. إنه ـ بشكل من الأشكال ـ محاولة لوضع اليد على نقاط التألّق والمعطيات الإنسانية ، والرصيد الحضاري من أجل استعادة الثقة بالذات في لحظات الصراع الحضاري الراهن التي تتطلّب ثقلاً نوعياً للأمم والشعوب وهي تجد نفسها قبالة مدنية الغرب الغالبة .. ازاء حالة من تخلخل الضغط وضياع التوازن الجوّي الذي يسحب إلى المناطق المنخفضة رياح التشريق والتغريب وأعاصيرها المدمّرة.

ورغم هذا كلّه فإننا نجد معظم طلبة التاريخ في جامعاتنا يعانون للأسف الشديد من عقدة الإحساس بالنقص ازاء الفروع والتخصصات الأخرى. بينما نجد هؤلاء الطلبة في جامعات العالم المتقدم يتمتعون بأعلى وتائر الثقة والطموح والاعتقاد بأنهم يمضون للتخصص في واحد من أكثر فروع المعرفة الإنسانية أهمية وفاعلية. وأنتم تعرفون جيداً كيف أن العديد من قادة الغرب وساسته ومفكريه المهيمنين على مفاصل الحياة الحساسة هم من خريجي التاريخ ، كما أن بعضكم لا يزال يتذكر تلك المناظرة التي جرت بين المؤرخ البريطاني المعروف أرنولد توينبي وسفير إسرائيل في كندا ، في خمسينيات هذا القرن.

أدّعى السفير المذكور حقاً تاريخياً لليهود في فلسطين وأعرب عن استعداده لتأكيد رأيه لكل من يرغب في مناقشته ، فتصدّى له توينبي ودخل معه في حوار استغرق أكثر من ثلاث ساعات انتهى بتفنيد حجج السفير الواحدة تلو الأخرى .. وفي الحالتين فإن الخبرة التاريخية هي التي دفعت السفير إلى تحدّيه وجعلت توينبي يستجيب له وهو يعرف مسبقاً أنه يملك الأدلة([4]).

لقد أطلق أجدادنا على التاريخ اسم ( أبي العلوم ) وهم يدركون جيداً أن المعرفة التاريخية تستلزم إلماماً بمعظم المعارف الإنسانية الأخرى لأن التاريخ إنما هو حركة حياة بكل ما تنطوي عليه الحياة من معارف وخبرات([5]).

ومنذ عقود بعيدة في الزمن مارس الآباء في ديارنا خطيئة عدم تنبيه أبنائهم إلى أهمية المعرفة التاريخية ، بل أنهم عمقوا في نفوسهم نظرة الازدراء إلى التاريخ ، وإلى معظم الفروع الإنسانية الأخرى ، من أجل أن يدفعوا بهم صوب الفروع العلمية الصرفة التي كانوا يعتقدون أنها تقدم ضمانات أكثر في المستقبل على المستوى المعاشي ومكانة اجتماعية أعلى.

ونحن لا نتجّه في محاضرة كهذه إلى المسلمين عموماً ، فإن له أن يفعلوا ما يشاءون مع أبنائهم ، ولكننا نتوجه بالخطاب إلى الإسلاميين الذين يتحتّم أن يولوا المعرفة الإنسانية ، والتاريخية خاصة ، اهتماماً أكبر ، ويغروا أبناءهم بالإفادة من الفرصة الجامعية للتحقّق بها من أجل أن يكون هناك عدد كاف من المتخصصين في هذا الفرع قدير على مجابهة التحديات الثقافية ذات البطانة والخلفيات التاريخية.

لقد كتب المؤرخ الفرنسي المعروف هنري كروسيه منذ ما يزيد عن نصف القرن

كتابه الموسوم ( رصيد التاريخ ) ([6]) محاولاً فيه أن يمارس قراءة متأنّية للتاريخ الأوربي

( المسيحي ) وأن يمضي إلى ما وراء الوقائع والأحداث بحثاً عن الجوهر والمغزى. وكم نحن بحاجة إلى محاولات كهذه تمضي للتعامل مع تاريخنا بحثاً عن رصيده الباقي ، القدير على الحضور في قلب العصر ، وفي المستقبل ، من أجل إعادة صياغته بما يجعله أقرب إلى مطامح الإنسان وهمومه من خلال التصور العالي والمحكم الذي جاء به هذا الدين.

إن التاريخ ليس ، كما يخيل للكثيرين ، مجرد حروب ومعاهدات ، أو سلالات حاكمة تسقط وأخرى تقوم .. إنه قبل هذا وبعده خبرة حضارية ، ومشروع للتعامل مع الإنسان ، وفرصة لاختبار قدرة العقائد والأديان على التحقّق في الزمن والمكان وعلى تأكيد واقعيتها ومصداقيتها.

وتاريخنا بالذات يتميز بكونه انعكاس أكثر صدقاً لتأثيرات الإسلام ، لقدرة هذا الدين على إعادة صياغة العقل والوجدان ، وجدولة الظواهر والوقائع والأِشياء بما يضعها جميعاً في حالة الوفاق المنشود الذي هو أحد الأهداف الأساسية لهذا الدين الذي يستهدف جعل الإنسان والعالم يتجهان بنبضهما وحركتهما ومعطياتهما كافة إلى الله وحده.

إن الدراسة التاريخية ـ والحالة هذه ـ تغدو ضرورة من الضرورات ، لأن العقيدة لا تتحرك في الفراغ ولابد لها من قضاء تتشكّل فيه وتعبّر عن قدرتها على التحقّق ، حيث يصير التاريخ المرآة التي تعكس الحالة الإسلامية ، بدرجة أو أخرى ، على صفحة العالم.

والآن .. أيها الأخوة ، فإننا نريد أن نمضي إلى الجانب الآخر من هذه المحاضرة ـ والقدر الذي يسمح به الوقت ـ لمتابعة البعد الحضاري لتاريخنا ، أو بعبارة أدق : البحث عن الخصائص الإنسانية لهذه الحضارة ، تلك الخصائص التي نسجها هذا الدين والتي تمنح المبرّر والدافع لاستعادة المحاولة من أجل أن تنهض حضارة الإسلام كرة أخرى ما دامت تحمل هذا القدر من الخصب والعطاء في تعاملها مع الإنسان. إن هذه الاستعادة ، إذا أردنا الحق ، تصبح ، فضلاً عن كونها ضرورة عقدية ، ضرورة إنسانية للمشروع الحضاري البديل الذي يصوغه الإسلاميون اليوم لاسيما ونحن نرى الإنسان في المدنية المادية المعاصرة يكاد يختنق وضيع ، وهو يتلّقى يوماً بعد يوم ضغوطاً ودفوعاً تبعد به أكثر فأكثر عن إنسانيته ..

تنزاح به بعيداً عن سويّته ، فيشعر في لحظات الوعي أنه بأمس الحاجة إلى استعادة وضعه البشري .. إن التاريخ المعاصر هو تاريخ تفوّق التكنولوجيا الغربية .. تفوّق الخدمات والتخطيط والنظم المادية ، لكنه زمن هزيمة الإنسان وانحساره وتضاؤله ، ازاء نفسه وازاء مجتمعه وازاء الله .. وأن طلائع الفكر الغربي طالما تحدثوا عن هذا ، وليس ثمة في هذه المحاضرة متّسع للوقوف عند أقوالهم واستنتاجاتهم ، ويكفي أن نشير إلى بعض الأسماء

فلعنا نرجع إليها في محاضرة أخرى : أرنولد توينبي ، مارسيل بوازار ، كولن ولسون ، برناردشو ، اشبنكلو ، اريك فريم ، سيكريد هونكة ، لورا فاكليري ، دوبو ، ليوبولد فايس ، روجيه كارودي ، موريس بوكاي .. ثم .. المفكرون الأكثر حداثة : سيشير ، ارنالديز ، جامبي ، نائير .. وغيرهم([7]).

مهما يكن من أمر فإننا سنؤّشر مجرد تأشير على نقاط الارتكاز أو الخصائص الأساسية لحضارتنا في تعاملها مع الإنسان ، والعالم .. وبعدها سنقف ، بقدر ما يسمح به الوقت عند واحدة منها فحسب.

فهناك ـ أولاً ـ ظاهرة الفتوحات كحركة تحريرية رفعت شعار الانطلاق إلى العالم لإخراج الإنسان من ضيق الدنيا إلى سعتها ، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام ومن عبادة العباد إلى عبادة الله وحده .. هذه الحركة التي حملت قدرتها على الاستمرار على مدى قرون طويلة ، وتمكنت من التجذّر في كل مكان وصلت إليه لكي تتفوق ـ فيما عدا حالات استثنائية لا يقاس عليها ـ على كل صيغ التآكل والانكماش والفناء التي تعرضت لها سائر محاولات الانتشار والسيطرة في التاريخ البشري. فأين هي الآن ـ على سبيل المثال ـ فتوحات هانيبال وسنحاريب وقمبيز والاسكندر المقدوني ويوليوس قيصر واتيلا وجنكيز خان وهولاكو ؟ وأين هو توسّع نابليون بونابرت وهتلر وموسوليني ؟ أين هي الإمبراطورية البريطانية التي لا تغيب عنها الشمس ؟ وأين هي مستعمرات فرنسا وراياتها الممتدة على قارات الدنيا ؟ وأين هي ممتلكات إسبانيا والبرتغال ؟ ثم أين هو الاتحاد السوفياتي الذي كان يحلم تحت مظلة قوانين الحركة التاريخية وحتمياتها بحكم العالم ؟ لقد تآكلت كلها وتعرضت ـ طال الوقت أم قصر ـ للتفتّت والانكماش والغياب والذي يبقى هو الفتح الذي نفّذه هذا الدين لأنه كان ينطوي على كلمة الله في لعالم ، ويستهدف تحرير الإنسان من كل صيغ الطاغوت والصنمية والاستلاب.

هنالك ظاهرة التعامل مع ( الآخر ) التي تمثل الوجه الآخر لمسألة الفتح والتي سنخصص للوقوف عندها ما تبقى من وقت لأنها تمس القضايا الأكثر أهمية في اللحظات الراهنة فيما يسمى بالنظام العالمي الجديد أو الموحّد ، وإشكالية حقوق الإنسان ، ولكن ليس قبل أن نمضي للتأشير على بعض الملامح والمعطيات الأخرى للبعد الإنساني في تاريخنا الحضاري.

هنالك ما يمكن تسميته بالأممية الإسلامية التي شهدها هذا التاريخ. لقد منحت كل الشعوب والجماعات التي انضوت تحت مظلة هذا الدين فرصتها في الحياة والتحقّق والتعبير عن الذات .. لقد كانت فرصة مفتوحة بمعنى الكلمة سمحت حتى للعبيد والمماليك أن يواصلوا الصعود إلى فوق ويشكلوا دولاً ، بل أنها مضت لكي تمنح غير المسلمين في بلاد الإسلام حقهم المشروع في المجالين المدني والديني على السواء ، فليس ثمة يهودي أو مسيحي أو مجوسي أو بوذي أو صابئي لم يجد الطريق مفتوحاً أمامه للتعبير عن ذاته وقدراته ولممارسة حرياته الدينية ولأخذ موضعه المناسب في نسيج الحياة الاجتماعية أو دوائر الحكم والمال.

إن هذه الأممية انفتحت على سائر صيغ التعدّدية العرقية والدينية والمذهبية واللونية والطبقية ، فلم تبن ازاء أي منها سدّاً أو تحول بينها وبين الصعود ، وهي أممية تختلف في أساسها عن الأممية الماركسية التي سعت ـ ابتداء ـ وبحكم قوانين التنظير الصارمة ، إلى إلغاء التنوع ، ومصادرته ، وإلى تحقيق وحدة قسرية ما لبثت أن تأكّد زيفها وعدم القدرة على تنفيذها تاريخياً([8]) وبمجرد إلقاء نظرة على خارطة الاتحاد السوفياتي حتى قبل حركة البريسترويكا والرفض المتصاعد الذي جوبهت به الأممية الماركسية من قبل حشود الأقوام والشعوب التي تنتمي إلى أصول وبيئات متنوعة ، ومقارنة هذا بما شهده التاريخ الإسلامي من تبلور كيانات إقليمية متغايرة في إطار وحدة عالم الإسلام وثوابته وأهدافه المشتركة ، يتبيّن مدى مصداقية المعالجة الإسلامية لهذه المعضلة.

ثم أن تاريخنا الحضاري صاغ نمطاً من المجتمعات لم تشهده ولن تشهده سائر التجارب الاجتماعية الأخرى في الماضي والحاضر .. وليس هذا كلاماً يقال وإنما هو أمر متحقق بحكم الشواهد الرقمية والإحصائية التي لا تقبل مماحكة ولا جدلاً ، فإن المجتمعات الإسلامية ظلت حتى في لحظات الانكسارات السياسية والعسكرية والحضارية ، أقل المجتمعات إدماناً للمخدرات ، وتعاطياً للحشيش والأفيون وسائر المغيّبات الأخرى .. أقل المجتمعات

شذوذاً جنساً وهروباً جماعياً ، ودماراً أسرياً ، وإقبالاً على الانتحار .. أقلها تبذّلاً وتهتّكاً واغتصاباً .. أقلها في معدلات الجريمة على مستويي النوع والكم ، وأقلها كذلك في رؤيتها التشاؤمية للحياة وفي منظورها العبثي للوجود والذي يصل أحياناً حد رفض كل الثوابت والمؤسسات الحضارية والروحية والاجتماعية والدينية في تاريخ الإنسان.

ثم هي حضارة تعكس موقفاً إيمانياً توحيدياً من الكون والعام والإنسان على المستويين المعرفي والسلوكي ، كما أنها تنطوي على أقصى حالات التوازن بين الثنائيات التي اصطرعت وتقاتلت في معظم التجارب الاجتماعية والحضارية الأخرى ، والتقت وتصالحت ها هنا في حضارة الإسلام : الوحي والوجود .. الإيمان والعقل .. الظاهر والباطن .. الحضور والغياب .. المادة والروح .. القدر والاختيار .. الضرورة والجمال .. الطبيعة وما وراءها .. التراب والحركة .. المنفعة والقيمة .. الفردية والجماعية .. العدل والحرية .. اليقين والتجريب .. الوحدة والتنوع .. الإشباع والتزهد .. المتعة والانضباط .. الثبات والتطور .. الدنيا والآخرة .. الأرض والسماء .. والفناء والخلود ..

وهو تاريخ مترع بالإبداع الحضاري .. بالعمل المتواصل والإصرار على الكشف والترقّي والإتقان تحت مظلة الحديث النبوي الشريف : ( إذا قامت الساعة وفي يد أحدكم فسيلة فاستطاع ألا تقوم الساعة حتى يغرسها فليغرسها فله بذلك أجر ) ([9]) والحديث الشريف : ( إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملاً أن يتقنه ) ([10]). ومنظومة الآيات القرآنية المعنية باستخلاف الإنسان في الأرض وتسخير العالم لمطالبه وقدراته([11]) .. الأمر الذي قاد هذه الحضارة إلى إيجاد تقاليد المختبر ووضع الأسس الأولى للعلم الصناعي ( التكنولوجيا ).

وبسبب من ارتباط هذا الإنجاز الحضاري بالمنظور الديني للمسلم فإنه حاول بإخلاص أن يوظف خبرته وكشوفه للإنسان أياً كان موقعه .. لقد رفض الأنانية والاحتكار المعرفي الذي مارسه الغربيون ولا يزالون تأسياً بأجدادهم اليونان ورموزهم الميثولوجية ، وفتح صدره وعقله وأبوابه ومؤسساته وجامعاته لطالبي العلم والمعرفة من كل ملّة أو بيئة أو دين ، تشهد على ذلك الجامعات الأندلسية في قرطبة وغرناطة واشبيلية مع المبتعثين من رجال الكنيسة النصرانية .. كما تشهد عليه المعونة المعروفة التي قدمها الملاّح العربي الشهير أحمد بن ماجد للمكتشف البرتغالي فاسكودي كاما وهو يضرب في البحار والخلجان ، ضائعاً ، يبحث عن طريق للوصول إلى الهند.

واعتقد أيها الأخوة هذه التأشيرات تكفي خاصة وأنني أفضت في الحديث عنها عبر محاضرة سابقة. وأريد الآن أن أقف دقائق عند قضية التعامل مع الآخر التي تشكّل اليوم كما تشهد التجربة البوسنوية وغيرها واحدة من المعضلات الأكثر حضوراً في اللحظات الراهنة.

سأختار لكم واقعة فحسب من عصر النبوة وأخرى من عصر الراشدين ، وثلاث وقائع من عصر الحروب الصليبية ، واعتقد أن هذا يكفي حيث لا يسمح الوقت بالاستقصاء.

في أعقاب فتح خيبر من العام السابع للهجرة وضع الفاتحون أيديهم على ملفّات من أسفار العهد القديم .. جاءوا بها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم .. كان بمقدوره وهو المنتصر على فئة الخصوم ما وجدت فرصة مشروعة أو غير مشروعة إلا سخرتها لتدمير الإسلام والمسلمين ، والقضاء على رسولهم ودولتهم .. لكنه صلى الله عليه وسلم ما لبث أن أعاد إلى اليهود أسفارهم دون أن يمسّها بأذى.

إسرائيل ولفنسون ، الباحث اليهودي المصري ، يشير في رسالة للماجستير عن تاريخ العلاقات اليهودية الإسلامية في جزيرة العرب إلى هذه الواقعة بإعجاب ، ويقول أن اليهود لا يزالون يشيرون بالبنان إلى سماحة نبي الإسلام وتفوّقه على كل اغراءات التعصب فيما لم تفعله النصرانية في تاريخها كله وهي تكتسح خصومها([12]).

نقارن هذا أيها الأخوة بما فعلته محام التحقيق والكنيسة الكاثوليكية في الساحة الأندلسية ازاء التراث الإسلامي زمن انتصار فرديناند وايزابيلا وسقوط غرناطة ، آخر المواقع الإسلامية هناك .. لقد كانوا يصدرون أوامرهم بجمع هذا التراث ، دينياً أو غير ديني ، ويركمونه أكداساً في الساحات العامة في قرطبة واشبيلية وطليطلة وغرناطة لكي يشعلوا فيه النار قبالة جماهير المسيحيين التي كانت تستدعى لمشاهدة واحد من أعمال الإيمان.

وثمة إحصائية تشير إلى أنه لم يتبقّ من هذا التراث الذي بلغ ما يقرب من ثمانمائة ألف سفر ، سوى ثمانية آلاف وضعت في أقبية الاسكوريال في مدريد ، وهناك لاحقتها النار فأحرقت منها ستة آلاف أخرى ولم يتبق اليوم سوى ألفي مخطوط من ذلك التراث الخصب الذي غطى سائر فروع المعرفة الإنسانية والعلمية([13]). واليوم فإن الباحثين الأسبان يعضّون أصابع الندم على ما فعله الأجداد ، ولكن بعد فوات الأوان وبعد أن ضيّع الأجداد على أنفسهم باندفاعة التعصب الأعمى ، فرصة الإفادة من هذا التراث وأخذ زمام المبادرة في حركة التقدم العلمي والتطبيقي قبل الإنكليز والفرنسيين والألمان.

في عصر الراشدين ( رضي الله عنهم ) كانت قوات الفتح تنطلق إلى جبهات القتال وهي تحمل أوامر صارمة من خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم بألا تغدر أو تحرق أو تخرّب ، وبأنها ستمر على رهبان قد انعزلوا في صوامعهم فلا تروّعهم أو تعتدي عليهم .. أوامر حذرتها من قتل المسالمين وإرهاب النساء والشيوخ والأطفال .. حذرتها حتى من قطع الأشجار وإتلاف الزرع والضرع .. إنه قتال متحضّر بمعنى الكلمة .. قتال تضبطه قيم الدين الآتي من عند الله ، فلا ترفع السيف وهي تلاحق السلطات الباغية قبالة كل الذين لم يمارسوا العدوان .. لقد جاء المسلمون لتحريرهم لا لقتلهم .. ونحن نجد في مقابل هذا التعامل الإنساني العادل والصارم ، تجاوزاً لكل الاعتبارات الإنسانية والأخلاقية في الممارسات القتالية الغربية ، فهي من أجل أن تحقق الانتصار تبيح لنفسها كل أسلوب .. وكلكم تذكرون ما فعلته أمريكا باليابان بعد أن أدركت قدرة الأخيرة واستعدادها لإدامة الحرب العالمية الثانية لعدة سنوات أخرى بسبب إمكاناتها القتالية والتكوين الأرخبيلي لمستعمراتها. فما كان من أمريكا إلا أن تضرب اثنتين من أكبر المدن اليابانية : هيروشيما وناكازاكي بقنبلتين ذريتّين دونما أي تمييز بين مقاتل ومسالم .. بين رجل أو شيخ أو طفل أو امرأة .. ودونما أي اعتبار للمظاهر الحضارية .. وها هي بقايا أجيال المدينتين تئن حتى اللحظة الراهنة من آثار الضربة الموجعة تلك .. وما هو إلا شاهد من عشرات الشواهد في هذا السياق.

ومن عصر النبوة والخلافة الراشدية أجدني بسبب من ضغط الوقت ، مضطراً أيها الأخوة لتجاوز حلقات تاريخية مترعة بالوقائع ذات الدلالة فيما نحن بصدده ، والوقوف قليلاً عند حلقة الحروب الصليبية ، ليس فقط لما تنطوي عليه من خبرات إنسانية خصبة ، بل لأنها تمثل ـ في الوقت نفسه ـ واحدة من أكثر حلقات الصراع بين الغرب والإسلام أهمية وامتداداً في التاريخ.

ثمة أشياء كثيرة واستنتاجات كثيفة يمكن أن تقال في هذا المجال ولكني سأقف عند وقائع ثلاث فحسب قد تكفي بمنطق المقارنة لتأكيد البعد الإنساني السمح في التعامل مع الآخر ، هذا البعد الذي يستمد نسخه من كتاب الله وتعاليم رسوله صلى الله عليه وسلم وتقاليد الأجداد والآباء ، والذي لا يقتصر على عصر دون عصر ولا على بيئة دون أخرى.

كثيرون منكم يعرفون جيداً كيف دخل الصليبيون الأوائل مدينة القدس الإسلامية سنة اثنتين وتسعين وأربعمائة للهجرة في حملتهم الأولى التي قادها عدد من كبار الفرسان الفرنجة والنورمان .. لم يكن دخولاً ولكنه مذبحة ذهب ضحيتها ، باعتراف الروايات اللاتينية ، سبعون ألفاً من المسلمين لم يكونوا في معظمهم من المقاتلين أو البالغين ، بل كانوا شيوخاً وعجزة ونساءً وأطفالاً .. ويتحدث أحد فرسانهم وهو شاهد عيان على المذبحة ، في

وثيقة معروفة باسم الكشتا ، كيف أن خيول المغيرين من الفرنجة كانت ، وهي تجتاز دروب القدس ، تغوص حتى ركبها بدماء المسلمين.

بعدها بحوالي التسعين عاماً أتيح للناصر صلاح الدين الأيوبي أن يدخل القدس محرّراً في أعقاب معركة خطين سنة ثلاثة وثمانين وخمسمائة للهجرة .. فماذا حدث ؟ لم تسجل المرويات اللاتينية ، فضلاً عن الغربية ، قتل رجل واحد ، ناهيكم عن النساء والشيوخ والأطفال .. تفوّق الناصر بقوة العقيدة ونبلها وسماحتها على نفسه وعلى ضغوط أصحابه المتعطشين للثأر .. تفوّق على ذكريات مؤلمة مترعة بالدم والوحشية والقتل ، لكي يقف قبالة الأفق الفسيح الذي يليق بالإنسان وبقدرته على شكم غريزة القتل والثأر ، والارتفاع عليها.

حتى ملك الفرنجة جاي لوزجنان وكبار أمرائه تلقّاهم الناصر في خيمته بالسماحة نفسها وأطعمهم وسقاهم بيده ، فيما عدا الصليبي المارق : ريجنالد شاتيون ، الذي تسميه مصادرنا العربية ( ارناط ) فإنه كان قد تجاوز كل معايير الإنسان ، وهبط صوب درك الحقارة وهو يرسل فرسانه من قلعته في الكرك لكي تنقض على قوافل الحجاج والمسالمين فتفتك بها ، ثم هو يمضي إلى أبعد من هذا فيقوم بمحاولة طائشة للهجوم على مكة والمدينة ونبش قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم .. حينذاك أقسم الناس أنه لو ظفر به فسوف يقتله بيده .. وقد نفذّ فعلاً ما عاهد الله عليه.

ها نحن إذن قبالة ثنائية تحمل دلالتها الواضحة تماماً : الصليبيون وهم يدخلون القدس ينفذّون مذبحتهم الدموية في أهليها دون أية جريرة ارتكبها هؤلاء سوى أنهم من المخالفين في الدين .. والناصر وهو يحرّر القدس يطلق سراح خصومه ويمنحهم الحرية المطلقة في الذهاب إلى حيث يشاءون رغم أنهم كانوا قد ذبحوا شعباً بكامله قبل تسعين سنة فحسب. فالذي تعنيه هذه المقابلة في تاريخ الصراع بين الإنسان الذي تصوغه العقيدة والوحش الذي يجعل من العقيدة نفسها مخالب وأظفاراً يمزق بها أجساد الآخرين وأرواحهم ؟

في القدس أيضاً ، والناصر منهمك في إعادة ترتيب الأمور وسط ضجيج الانسحاب الجماعي الفرنجي غير المنظم من المدينة ، تجيئه امرأة فرنجية تجثو عند قدميه وهي تنكث شعرها ، فيسأل مترجمه : ما الذي تريده هذه ؟ فيكون الجواب : إن طفلتها قد ضاعت وسط الجموع المضطربة ، وإنها حاولت فلم تعثر لها على أثر.

وعدها الناصر ، منتزعاً نفسه من نداء ألف مشكلة ومشكلة ، بأنه سيبذل جهده لإعادة طفلتها الضائعة إليها ، وخصص لها خيمة ترتاح فيها ووضع من يتولى خدمتها ريثما يتم المطلوب .. بعد ساعات يجيئون بالطفلة ، فعندما تراها الأم لا تمسك نفسها من أن تجهش بالبكاء وتنقّض على الناصر محاولة أن تلثم يديه ، فيسحبها بهدوء قائلاً للمترجم : قل لها أن ديننا يلزمنا بأن نكون مسؤولين حتى عن البهائم والعجماوات فكيف بطفلة ضائعة لأم منفطرة الكبد ؟

لم يحاول الناصر لحظة أن يستجيب لسيّال الذكريات المريرة وتداعيها .. وأن أب هذه المرأة الثكلى وربما أخوها ، كان قد شارك رفاقه الغزاة في مجزرة القدس التي ذبح فيها سبعون ألف امرأة وشيخ وطفل .. وها هوذا الناصر ، رغم ضغط الذكرى المريرة ، وزحمة المشاغل والأعمال ، يتفرغ للبحث عن طفلة ضائعة لأم كانت سكين أبيها أو أخيها لا تزال تسح بدماء نساء السلمين وأطفالهم !

قارنوا هذا أيها الأخوة بما فعله الصربيون وهم يدخلون المدن البوسنية منتصرين فيذبحون في يوم واحد عرض خمسين ألف فتاة مسلمة ..

الناصر يبذل جهده للبحث عن طفلة نصرانية ضائعة ، والصربيون المتحضرون المتمسّكون بدينهم ، يغتالون شرف خمسين ألف فتاة في يوم واحد .. أية دلائل يعجز عنها الوصف تمنحنا إياها هذه الثنائية الدامية .. هذا التقابل بين الإسلام والنصرانية .. بين الناصر الذي تخرّج من مدرسة محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم والصربيون الارثذوكس الذين خرجوا من معطف فرديناند وايزابيلا الكاثوليكيين ؟!

بعدها بسنوات قلائل جاءت الحملة الصليبية الثالثة يقودها هذه المرة ملك فرنسا فيليب أوغسطس وملك إنكلترا الملقب ريتشارد قلب الأسد .. جاءت لكي تثأر لحطّين وتسترد عكا بعد أن ارتاح الملكان وقواتهما في صقلية وقبرص أسابيع طوالاً ..

كانت الحامية الإسلامية محاصرة هناك منذ زمن طويل ، وكان الناصر يرقب الوضع عبر التلال المحيطة ، ويمد المدينة بين الحين والحين بما يمكنّها من مواصلة المقاومة .. وكان معظم جنده قد عادوا إلى ديارهم بسبب الإعياء والبرد ، والقتال المتواصل لسنوات طويلة .. وها هو الآن في قلّة من أصحابه ، يتلقى عبء الحملة الصليبية ويديم أمد المقاومة شهوراً أخرى .. لكن الصراع لم يكن متكافئاً على أية حال ، واضطرت حامية المدينة ، بأمر من الناصر ، على الاستسلام أخيراً وتسليم عكا للصليبيين بعد اتفاقية نصّت على حقن دماء المسلمين. لكن ريتشارد ما أن دخل المدينة حتى أمر بالمقاتلين من أفراد الحامية فأوثقوا بالحبال ووضعوا قبالته صفوفاً .. كانوا أشباحاً اعتصرها الجوع والخوف والقتال المرير وانتظار المجهول .. وها هو ذا الملك الإنكليزي ينكث عهده ، كما هو الشأن دائماً في جلً وعود الغربيين .. ويضع قدمه على الكلمة التي أعطاها الناصر ويطلب من أصحابه أن يذبحوا جند الحامية الإسلامية جميعاً .. لم يحاول أن يريحهم ويقتلهم دفعة واحدة .. وإنما كان يتسلّى بذبحهم واحداً واحداً .. والناصر صلاح الدين ينظر من بعيد إلى جنده وهم يذبحون ، فما يملك نفسه من البكاء ويقول له وزيره ومستشاره القاضي بهاء الدين بن شداد : إن بين يديك أيها السلطان ثلاثة آلاف أسير فرنجي فأفعل ما فعلوه هم .. اقتلهم .. والباديء أظلم .. ويجيء رد السلطان لحظة تفوّق أخرى في تاريخ الإنسان الذي تصنعه العقيدة كما يريد الله ورسوله لا كما يهوى الكهّان والوضاعون : لا والله يا بهاء الدين لن أكون مثلهم !

ثمة أخيراً ـ أيها الأخوة ـ ما يجب أن يقال في هذه الشواهد المقارنة .. أن السير توماس أرنولد ، وهو باحث إنكليزي مسيحي ، عكف أربعين سنة على تأليف كتابه المعروف ( الدعوة إلى الإسلام )([14]) .. يتابع مفردات انتشار الإسلام وتعامله مع المغلوب على مدى ثلاثة عشر قرناً ونصف : منذ لحظة انطلاق الإسلام الأولى أيام العمل السرّي ، وحتى مشارف القرن العشرين ، مستمداً مادته من أدق المصادر والوثائق التي تنبيء بها تهميشاته الغنية الخصبة. وهو يقول في كتابه هذا أشياء كثيرة وكثيرة جداً فيما نحن بصدده ، ولكننا نكتفي باستنتاج واحد قد يكون كفاء القضية كلها .. إنه يقول : إن تاريخ الدعوة الإسلامية لم يسجل منذ لحظاتها الأولى وحتى زمن الانتهاء من تأليف الكتاب في الربع الأخير من القرن الماضي ، حالة واحدة أكره فيها غير المسلم على اعتناق الإسلام ([15]).

أيها الأخوة .. انتبهوا معي جيداً .. إن هذا ليس كلاماً يقال .. وهي ليست شهادة اعتيادية ولكنها حصيلة استقراء في مئات المصادر وآلاف الوثائق المعنية بانتشار الإسلام ، وهي تنطوي على بعد إنساني في تاريخ حرية الخيار الديني ما شهدته أمة أخرى في العالم قديماً وحديثاً ولن تشهده بأية حال من الأحوال.

وهو يقول معقّباً على ذلك بأن استمرار وجود النصارى واليهود في ديار الإسلام عبر ثلاثة عشر قرناً ، وربما تزايد أعدادهم ، يأتي مصداقاً لعدم إرغامهم على تغيير عقيدتهم .. فلو أن أي قدر من القسر مورس ضدهم لكانت ديار الإسلام قد خلت تماماً من يهودي أو نصراني ، لأننا نعرف أن العقائد الأدنى ، من خلال ممارسة القسر المذهبي ، تقدر على إزالة العقائد الأعلى .. فكيف بالإسلام الذي يمثّل المنزلة العليا التي لا تقارن ، بكل المقاييس ، مع مواقع اليهود والنصارى ؟([16])

ما الذي حدث قبالة هذا في لحظات التفوّق الغربي النصراني بمقاييس القوى العسكرية والسياسية ؟

الساحة الإسبانية ، بعد سقوط غرناطة على يد فرديناند وايزابيلا الكاثوليكيين تعطينا الجواب : فعلى مدى عقود معدودة فحسب ، قدرت السلطة الإسبانية بالتعاون مع الكنيسة ومؤسسة محاكم التحقيق التي شكلّتها أن تصفّي من الوجود المنظور شعباً من المسلمين عن آخره .. شعباً يبلغ تعداده أكثر من مليوني وأربعمائة ألف إنسان أرغموا على التنصّر أو الهجرة أو القتل بعد واحدة من أبشع صيغ التعذيب وغسيل المخ والمسخ البشري فيما هو معروف في مؤلفات المؤرخين الأسبان أنفسهم فضلاً عن المؤرّخين العرب ([17]).

وهذا يكفي للإجابة على التساؤل الذي ألمحه في عيونكم : لماذا قدر الإسلام على البقاء والاستمرار في كل المناطق والبيئات التي وصل إليها فاتحاً أو داعياً ولكنه عجز في الساحة الإسبانية عن مواصلة البقاء ؟

إنه التحدي الذي يفوق كل قدرة على الاحتمال ـ كما يقول المؤرخ البريطاني المعاصر أرنولد توينبي في كتابه المعروف ( دراسة للتاريخ ). وإذا أردتم أن تعرفوا ما الذي فعله المسلمون لمجابهة المحنة وحماية وجودهم ازاء السكين الكاثوليكية فإن لكم أن تتذكروا ما فعله البوسنيّون .. وفي الحالتين فإننا نجد إصراراً لا إنسانياً .. إصراراً وحشياً متعصباً طاغياً على إبادة الخصم من الوجود ومحو خرائطه من جغرافية العالم .. ومع ذلك فإن أجدادنا الأندلسيين لم يألوا جهداً في حماية دينهم ووجودهم وثاروا وقاوموا المرة تلو المرة ، فأعذروا إلى الله تماماً كما يفعل اللحظة إخوانكم البوسنيّون قبالة العالم الغربي كله ..

([1]) سورة يوسف الآية 111.

([2]) ينظر : عماد الدين خليل وحسن الرزّو : دليل التاريخ والحضارة في الأحاديث النبوية الشريفة ، مكتب الأردن للمعهد العالمي للفكر الإسلامي ، عمان ـ 1991 م.

([3]) ينظر : مالك بن نبي : إنتاج المستشرقين وأثره في الفكر الإسلامي الحديث ، مكتبة عمار ، القاهرة ـ 1970 م.

([4]) ينظر : أرنولد توينبي : فلسطين جريمة ودفاع ، ترجمة عمر الديراوي ، دار العلم للملايين ، بيروت ـ 1961 م.

([5]) يمكن أن نشير هنا إلى مصنّفات من مثل : ( الإعلان بالتوبيخ لمن ذم التاريخ ) للسخاوي و ( الشماريخ في علم التاريخ ) للسيوطي ، فضلاً عن ( المقدمة ) لابن خلدون.

([6]) ترجمة محمد خليل الباشا ، المنشورات العربية ، بيروت ـ بدون تاريخ.

([7]) ينظر : عماد الدين خليل : الإسلام والوجه الآخر للفكر الغربي ، مؤسسة الرسالة ، بيروت ـ

1997 م ، قالوا في الإسلام ، الندوة العالمية للشباب ، الرياض ـ 1992 م.

([8]) تنظر : هيلين كارير دانكوس : القوميات والدولة السوفياتية ، ترجمة هنري عبودي ، دار الطليعة ، بيروت ـ 1979 م.

([9]) ذكره علي بن عبد العزيز في ( المنتخب ) بإسناد حسن عن أنس ( رضي الله عنه ) : عمدة القاري في شرح صحيح البخاري لبدر الدين العيني ، باب الحرث والزراعة.

([10]) أورده البيهقي في ( شعب الإيمان ) و ( السيوطي ) في الجامع الصغير بإسناد ضعيف.5

([11]) تنظر سورة فاطر 39 ، الأنعام 133 ، الأعراف 69 ، 129 ، يونس 14 ، النمل 62 ، النور 55 ، هود 61 ، النحل 12 ، 14 ، إبراهيم 32 ـ 33 ، صاد 36 ، لقمان 20 ، العنكبوت 61.

([12]) تاريخ اليهود في بلاد العرب في الجاهلية وصدر الإسلام ، مطبعة الاعتماد ، القاهرة ـ 1927 م ، ص 170.

([13]) للاستزادة ينظر : محمد عبد الله عنان : مواقف حاسمة في تاريخ الإسلام ، الطبعة الرابعة ، مؤسسة الخانجي ، القاهرة ـ 1962 م ، ص 326 ـ 329.

([14]) ترجمة وتعليق د. حسن إبراهيم حسن ورفاقه ، الطبعة الثالثة ، مكتبة النهضة المصرية ، القاهرة ـ 1971 م.

([15]) الدعوة إلى الإسلام ، ص 98 ـ 99.

([16]) المرجع نفسه ، ص 68 ، 70 ، 98 ـ 99.

([17]) عن مأساة الموريسكيين في الأندلس ينظر : محمد عبد الله عنان : نهاية الأندلس وتاريخ العرب المتنصّرين ( الكتاب الرابع من دولة الإسلام في الأندلس ) ، الطبعة الثانية ، مطبعة مصر ، القاهرة ـ 1958 م.

 

 

 

 

د.عماد الدين خليل

اترك تعليقاً